بهاء طاهر.. فنانا أيديولوجيا
الفن عموما جديلة من رؤية نامية، قد تتجذر في لحظة معينة ويستمر تأثيرها واضحا في تجليات إبداعية عديدة لكاتب، وتختلف طريقة تجلي هذا التأثير من عمل لآخر. وربما كان الربط بين الفن والرؤى التي تستمر، والأخرى التي تتفتت وتنتهي عاملا أساسيا في وجود دراسات حديثة ترتبط ارتباطا مهما بالأيديولوجيا وطريقة تشكلها فنيا في العمل الأدبي أو الروائي، خاصة بعد اكتشافات باختين في كتابه (الكلمة في الرواية)، حيث يرى أن الإنسان المتكلم في الرواية هو دائما صاحب أيديولوجيا بقدر أو بآخر، وكلمته هي دائما قول أيديولوجي.
والأيديولوجيا هي نسق من الأفكار والعادات والأخلاق والمفاهيم، التي تؤثر على عمليات التفكير الخاص بالوجود الإنساني، ولهذا تسمى المعرفة المشتركة، التي تبعدها في ذلك الإطار عن الوعي الزائف وعن النظرة السلبية إليها، حيث تصبح حسب مفهومها بالسير وفق أسس محددة مؤثرة في طبيعة التوجه وآلية التجلي الفني منطلقا أساسيا للإبداع.
والقيم الأيديولوجية في إطار النص الأدبي بشكل عام والنص الروائي بشكل خاص لا تتشكل من خلال مضمون يضرب في فراغ، فليس هناك وجود ناجز لهذه القيم إلا من خلال البناء، ومن ثم فليس هناك ثبات لهذه القيم من خلال النمو المعرفي التدريجي الذي يخلخل هذه القيم، ارتباطا بالتشكيل من نص لآخر، وذلك لأن الكتابة تأويل مستمر أو إعادة تأويل للسائد من القيم في حدود أبنية فنية وسوسويولوجية قابلة للقراءة والتفكيك.
والكاتب -أي كاتب- له هويته الأيديولوجية والاجتماعية، وهذه الهوية تعني نوعا من الانحياز الخفي، وتترك هذه الهوية أثرها البارز والكاشف على فنيات العمل، ومنطلقات بنائه، وتفصل جزئياته، وعلى الشخصيات وتشكيلها، ودرجة حضورها، وطبيعة السماح لها بالحضور للتعبير بشكل كامل عن رؤيتها متجلية بشكل كامل، أو اندحارها تحت القمع والتغييب والحرمان.
ومنطلقات بهاء طاهر في إبداعه منذ لحظة البداية إلى آخر أعماله المتاحة للقارئ منطلقات مرتبطة برؤية المثقف العضوي الرائد الذي يقف متأملا راصدا لحدود المتغيرات التي تمر بمجتمعه، بصرف النظر عن فاعلية أبطاله في مقاومة هذا التغيير الداهم، فمعظم هؤلاء الأبطال يقفون عاجزين عن القدرة على الفعل، لأنهم في الحقيقة يعاينون عالما مختلفا عن العالم الذي صنعوه بخيالهم، ذلك العالم الذي كان بالرغم من انزياحه عن الصورة المثلى التي يبتغونها، عالما قريبا إلى ذواتهم الداخلية بالرغم من نقده والوقوف أمامه طويلا، إلا أنهم يغفرون له ذلك الخروج، ومن ثم كانت الكتابة عند أفراد هذا الجيل نوعا من المساءلة المستمرة لقناعات هذا الجيل، ومحاولة جادة لإعادة التفكير في ذلك الاعتقاد أو الإيمان.
جاءت كتابة بهاء طاهر الروائية أو القصصية نتيجة لذلك مشدودة إلى جزئيات مهمة مثل علاقة المثقف بالسلطة، ودور هذا المثقف وطبيعة هذا الدور، والعدل الاجتماعي، والانتماء السياسي حتى لو كان هذا الإيمان يتشكل في حدود النسق الفكري المتخيل.
يتجلى ذلك واضحا حين نتوقف عند أول أعماله الروائية (شرق النخيل)، فسردية هذا النص الروائي بحمولاته الفكرية والدلالية والرمزية، لا يمكن فصلها عن سردية المجتمع الكبرى في مقاومتها للتلاشي والذوبان قبل أن يسدل نسق جديد أطره الفاعلة، فيبدأ بالتدريج في التغلب على المنطلقات الفاعلة السابقة، ومن ثم يمكن أن نطلق على أدب بهاء طاهر في مجمله أدب المقاومة التي ترصد صعود قيم وأخلاقيات مجتمعية على أنقاض قيم أخرى، ولا تستطيع أن تقدم لها دفعا إلا بالتسليم، وهذه المقاومة مشدودة إلى نسق القيم القديمة باعتبارها وجودا متخيلا ذا قداسة لا يتصور التخلي عنها، حتى لو كان الواقع يحتم هذا التخلي والانعتاق للارتباط بقيم أخرى مجتمعية لا تخلو من ارتهانات سياسية جديدة، ومن هنا يتداخل نص السرد في روايته (شرق النخيل) بالمتخيل الجماعي للفئة التي ما زالت تحلم بمشروعية وجودها.
في (شرق النخيل) تتأسس البنية الفنية على منطق الحكايات المتداخلة فيما بينها المشدودة إلى الماضي في تجليه، وإلى الحاضر في بعدها الرمزي، وإلى الواقعي من خلال واقع ثقافي أو سياسي تخلخلت أسسه بشأن وبسبب اجتراح توجه مغاير، فالراوي هنا يمثل حالة من حالات التحييد التي مورست من خلال القدرة على الفعل في المشاركة في حل الأزمة في فكرة الصراع الذي يمثل بفعله وضعا راهنا أصبح في عرف الجماعة التي يمثلها الكاتب خروجا مؤقتا عن ديمومة كان يجب أن تستمر لتجذرها في لحظات سابقة، والعم وابنه اللذان يمثلان في منطق النص النسق المختار من خلال وجودهما.
والكاتب ارتباطا بهذا النسق الذي يمثله العم وابنه في إطار فكرة الصراع مع عائلة أخرى، بعيدا عن موقف الأب الذي يشكل خلخلة وبداية إيمان بنسق جديد يرتبط بالتسليم ومنطق التعايش، يمارس نوعا من السطوة في تجلية نماذجه التي تمثل هذا النسق، فيأتي بحكايات من أشباهه (عمه وابن عمه)، والذين يشابهونه في التوجه مثل سمير الذي تغير بالتدريج تحت تأثير النمو المعرفي، ولم يمنح الفرصة انطلاقا من هيمنته للأصوات الأخرى التي تمثل وجها أو نسقا فكريا مغايرا مثل (ماجدة) أو شخصيات من أسرة الحاج صادق التي تمثل الجانب الآخر من الصراع. فكأنه هنا يتكئ على التاريخ الثقافي بقصصه عن هذا النمط الثقافي أو السياسي الذي ينتمي إليه، بينما نجده يمارس فعل التغييب على الأصوات المناوئة الأخرى، لأن ظهورها بصوتها يهشم البنية الهارمونية للنمط الثقافي.
هذه الهوية التي رأينا صداها واضحا من خلال فكرة الإيمان بمشروعية النسق الثقافي والسياسي، وارتباطه عاطفيا به في روايته الأولى (شرق النخيل)، من خلال قمع صوت الآخرين المناوئين وتغييب حكاياتهم بوصفه كشفا عن متغير، تتغير بالتدريج في روايته (الحب في المنفى)، حيث يتعرض هذا الإيمان بالرغم من وجوده إلى فكرة المساءلة المستمرة، وجدوى الاستمرار بهذا الإيمان، بينما الأنساق الجديدة التي توحشت تمارس دورها في خلخلة وزعزعة النمط الثقافي المهزوم، من خلال إسدال جذورها بفاعلية.
يتأسس البناء الفني في رواية (الحب في المنفى) في إطار نسق سردي تصاعدي من خلال سرد تصاعدي بداية من لحظة معينة، ويظل هذا السرد التصاعدي الخيط المركزي الذي يحكم البناء، ويظل النواة التي تتحكم في كل المسارات الخاصة بالرواية. ولكن هناك آليات استخدمتها للرواية لتكسير هذا السرد التصاعدي وللقضاء على خطية الزمن الممتد، وهذه الآليات مرتبطة بالاسترجاع أو فعل التذكر من خلال ذاكرة منفتحة على الماضي.
هذا البناء المرتبط بالتوجيه السردي كان مهما لمعاينة التحولات التي حدثت على مستويات عديدة، منها السارد الفعلي ورصد طبيعة التحول من الإيمان إلى مساءلة هذا الإيمان، ومنها التحول الذي أصاب بعض الشخصيات من نسق ثقافي وسياسي إلى الاحتماء بنسق ثقافي مغاير، يكفل لأصحابه الحياة بهدوء وانغماس في حياة مغايرة، يشكل منعطفاتها المد الديني والانفتاح، وكأن هذا النسق بمنعطفاته التي تثر على أجزاء جديدة في التوجه العام نسق عالمي جديد.
سلطة الكاتب تمثل مركز التوجيه السردي لبنية العمل الروائي، وربما تأتي جزئية الاختيار كاشفة عن فاعلية مهمة، لأن فعل الاختيار يشمل عناصر الكون الروائي حين يتجلى محتميا وموجها بإطار أيديولوجي، فاختيار المنفى لم يكن إلا صلحا فرديا لمراجعة إيمانه بالقيم التي آمن بها سابقا، وكأنه من خلال هذا التوجه يعاين هذا الإيمان ويحاول مساءلته. بالإضافة إلى اختيار شخصيات لها طبيعة خاصة في إطار سيادة النمط الثقافي السابق من خلال سرد الذاكرة أو الاسترجاع، ومعاينة هذه الشخصيات في السرد التصاعدي تكشف عن هزيمة خاصة، فكأن الرواية تكتب تاريخ المهزومين المنفيين.
تتمثل السلطة المرتبطة حتما بالتوجيه في تشكيل الأنماط الكاشفة، فهيمنة الصوت السردي تعبر عن المجموع، وهذا الصوت في تشكيله للشخصيات لا يقدمها بوصفها شخصيات، وإنما تتجلى أمام القارئ بوصفها أنماطا يمكن أن تكون كاشفة عن كثيرين ينضوون في إطاره، وكأنه نمط تمثيلي، يجمع سلسلة من المواضعات المتعارف عليها في تشكيل النمط.
وتقديم الشخصيات في إطار مواضعات النمط يستدعي بالضرورة عناصر مرجعية، حيث تتشكل هذه الشخصيات وفق تصور فكري مفترض، يجعل هذه الشخصيات المعبرة عن النمط مثبتة في إطار واضح مألوف للقارئ. وربما يكون الراوي في هذه الرواية هي الشخصية المعبرة عن نمط خاص، وهذا التعبير ربما يجعل انحناءه تجاه نموذجه الثقافي مبررا، فالرواية تقدم له صورا نموذجية للطبقة الاجتماعية التي تشكل المدخل الحقيقي للنسق القيمي أو الأيديولوجي، وارتباطه بالاتحاد الاشتراكي وصعوده بقوة الصاروخ يمثل لقطة تنميطية أخرى، تأتي اللقطة التنميطية الثالثة مرتبطة بقيمة الثبات بوصفه القيمة التي تؤسس للدخول أو الخروج من نسق المهزومين، وتأتي اللقطة الأخيرة في منفاه مهزوما يراقب نموذجه الشخصي ونموذجه العام في أسى شفيف لا يخلو من حزن.
إن آلية التشكيل السابقة للنمط تفتح المجال للمتلقي، لكي يعاين أصنافا من هذا النمط لحظة قراءة العمل، فيغدو الراوي في ذلك الإطار، وكأنه رمز قيمي وأيديولوجي يتحرك في النص وفق مخطط محدد وموجه، فيتولد عنه نوع من التوقع أو أفق الانتظار لحظة القراءة.
الهوية الذاتية في الأعمال الفنية لا تضرب في فراغ، فهي بمركزيتها الفاعلة تتشكل في حضور مركزيات أخرى متشابكة معها، لأن قيمة أي نسق ثقافي أو سياسي لا تظهر إلا في إطار جدلي، وأي رؤية لها نزوع أيديولوجي تقوم بشيئين مهمين، الأول منهما يتمثل في إضفاء المشروعية على توجهها وسلوكها، وكذلك إضفاء المشروعية على توجهات وسلوك المشابهين الموجودين في النسق الثقافي والسياسي. والأخير يرتبط بتشويه النسق المقابل بكل أطيافه وأشكاله وهيئاته وشخصياته.