رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


ليلة عشق مع أمير المداحين

21-10-2020 | 12:10


كان عمري سبعة عشر عاماً يوم قبولي عزومة أصحاب وأصدقاء دراستي لحضور حفل أمير المداحين في بر مصر  يس التهامي، المنشد الذي تربك حفلاته مديريات الأمن التي تعلن حالة الطوارئ بسبب الأعداد الغفيرة العاشقة لحضور حفلاته، كان ذلك في ثمانينيات القرن الماضي، وأية حفلة لهُ يحضرها على الأقل عشرة آلاف شخص.

وبعد العشاء أكلاً وصلاةً اتجهت مع أصحابي لمكان الحفل ، وكان في أرض فارغة من الزراعة مساحتها لا تقل عن خمسة أفدنة، الحضور قياماً وجلوساً ، وعشاق ومريدو التهامي لا يجلسون طول الحفلة بل يحيطون به ، طابور كبير يزيد عدده على ألف محبٍ ناحية يده اليٌمني ، ومثلهم ناحية يده اليٌسري بخلاف آلاف أخرى يشكلون دائرة حوله ، كلهم لا يتوفقون عن الذكر طالما صوته يٌغرد مثل البلابل.

كانت المرة الأولى التي أسمع فيها صوت أمير المداحين  يس التهامي ، لايف ، كنت أسمعٌ قصائده في  سيارات الأجرة التي تنقل البشر بين إسنا والأقصر ، وسائقو سيارات الأجرة في المنطقة يعشقون قصائدهٌ  رغم  ضعف مستوى تعليمهم ويصعب عليهم  ترجمة وفهم كلماته  ولكن قلوبهم عامرة بحب آًل بيت  النبي - صلى الله عيه وسلم-.

في قرية العديسات بحري أكبر قٌرى الأقصر جنوباً وهي مسقط رأس صديقي خالد العديسي الكاتب الصحفي بـ " الأسبوع " كانت مسرحاً لحفل التهامي ، كانت قدماي تقوداني إلى حفل أمير المداحين، ولأنني غريباً ووافداً من قري المطاعنة التي لها قدر ومعزة عند أهالي العديسات بسبب مواقف وسلوكيات كبارها كان لي حفاوة خاصة في الاستقبال، ميزوني بمكان قريب جداً من يس التهامي لا يبعد عني سوى أمتارٍ قليلة، كنت أسمع نفسه قبل أن يحمله صوت الميكروفون للحضور.

وبدأ الحفل في ليلة شتاء طقسها بارد جداً ، ولكن وجه التهامي تبلل من العرق بسبب مجهوده الكبير ، آهٍ من صوته حرَّك آلاف الأشخاص يتراقصون في حلقة الذكر مثل العصافير العاشقة  لصوت الموسيقي الحزينة  بعضهم يندمج وعيونهم  تمطر دموعاً بعد أن التصقت نفوسهم مع الأجساد بسبب قصائد العشق الإلـهي التي  تنطق بها شفاه أمير المداحين.

وعلى مقربة من مكاني كان يتواجد عدد من كبار المسئولين بمدينة الأقصر يتوسطهم مأمور المركز وعددٌ من ضباطه  وعددٌ من الجنود أجسادهم طول الحفل  تتمايل  ويحلمون بالاندماج  في حلقة الذكر ولكن لا يوجد إذن  لهم بالاشتراك في حلقة الذكر.

في الوصلة الثانية أنشد التهامي رائعة "ابن زيدون " وهي قصيدة من غرر الشعر الأندلسي التي كتبها خلال حبسهِ وأرسلها إلى أرق أميرات الأندلس " الولادة بنت المستكفي بالله " خليفة البلاد.

وقصيدة ابن زيدون من أرقى ما كتب في شعر الأندلس يقول مطلعها :

أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا

ونـاب عن طيب لقيـانا تجافينـا

ولحظة كتابة القصيدة كان ابن زيدون محبوساً بعد أن وشي به ابن عبدوس الذي غار منهُ بسبب قربهِ من الأميرة والولادة بنت المستكفى بالله والتي كانت تحبهُ ، فصنع مؤامرة أودت به للسجن،وخلال فترة الحبس كتب قصيدته وأرسلها إلي الولادة التي انصرفت عنهُ وابتعدت رغم علمها بمدى عشقه لها، ولم تسمح له بأن يراها  بعد فك  سجنه.

وقبيل الفجر انصرفتٌ بصحبة أصدقائي من الحفل وبعد عدة ساعات كنا في الزراعات التي امتصت الشمس قطرات الندي التي كانت تعانق أوراقها في الصباح الباكر ، وكانت أحاديث كل من حضر حفل التهامي  يردد قصائده والمثقف فيهم يقول لهم :إن هذه أبيات عمر بن الفارض  شاعر العشق الإلهي الذي زهد الدنيا ورفض الاقتراب من أهل الحكم في زمنه .. حيث كان  بن الفارض يرفض دعوة سلطان البلاد ، وفي اليوم الذي قرر السلطان أن يزوره  في منزله، صعدت روحه للسماء قبيل وصول السلطان لمنزله.

أول ليلة حضرتها لأمير المداحين  كانت سبباً في ولادة العشق بيننا .. أصبحت مُحباً لسماع إنتاجه علي  شرائط الكاسيت والتي كانت منتشرة في قُري الجنوب .. والبشر في القري الجنوبية تفيض أعينهم بالدموع بعد أن أطربوا آذانهم بسماع قصائد الحب في آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - .

ومرت السنوات ..  كبُر عمري وتجاوزت نصف القرن وكبر شيخي أمير المداحين الذى متع أسماعنا بقصائد العشق والحب فى آل بيت النبى - صلى الله عليه وسلم -، ووصل إلي 70عاماً.. أطال الله عمره. 

وفي مولد السيدة زينب منذ عدة أسابيع كانت قدماي تسبقان أقدام زملاء لي من كثرة حديثي عن جمال حفلاته ، ووقتها بادروا فى شغف على عزم النية لحضور حفلته في الليلة الكبيرة .. كل القلوب العامرة بحب آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -  كانوا هناك للذكر على صوت أمير المداحين.

.. وصلنا إلى مكان الحفل قبل صعود يس إلى المسرح بساعة .. لم يكن هناك مكان لكى نضع أقدامنا على الأرض من كثرة عشاقه ومحبيه، الآلاف من عشاقه حجزوا أماكنهم .. حرصوا على  تناول العشاء حتى يعرفون الاشتراك في جلسات الذكر يعلمون أنهم يحتاجون مجهودهم في الليلة الكبيرة ، هم يطمعون في رضا الطاهرة العفيفة السيدة زينب ، توافدوا من عصر اليوم من الجنوب والشمال وكأنهم من كل حدبٍ ينسلون لحضور الليلة الكبيرة  للسيدة زينب ويكون ختام الليلة إجهاد أجسادهم بالذكر لعدة ساعات على آهات الشيخ  يس التهامي ، الذي ينظم بطبقات صوته ملامح وخطة الذكر ، فإن أسرع بكلماته كانوا حوله مثل النحل في الحركة والسرعة ، لا أحد ينظم ذكرهم إلا إحساس قلوبهم بما يريد يس التهامي أمير المداحين في بر مصر.

وبعد أيام قليلة من وجود التهامي في مولد السيدة زينب كان أمير المداحين في ميدان الحسين لإحياء ليلة بمناسبة عيد ميلاده ، لا أحد يعرف كيف حضر مَنْ حضر من المحافظات القريبة من القاهرة . عشرة آلاف محب كانوا من بعد صلاة المغرب في مسجد الحسين لحضور حفله ومن يراقب الأحاديث الجانبية بينهم يلاحظ أمنيات البعض منهم أن ينشد التهامي قصيدة " تملك قلبي الدلال "، والآخر يتمنى أن  يُغرِد بقصيدة " مَنْ أنا ؟" ، وثالث يطلب في نفسه أن ينشد بقصيدة " القرب الممنع".

وحسب ما يردد عشاق أمير المداحين إن إحياء ليلة شيخهُ عمر بن الفارض لها مذاق خاص عنده فهو سبب شهرته ، حروف كلماته كانت سبباً في شهرتهِ ، وكأنه كتب شعره حتى يُغرِّد به التهامي.

وأمير المداحين يكون مختلفا تماماً عندما يُحيي ليلة سلطان العاشقين عمر بن الفارض  ويحرص على أن يبدأ بقصيدة " التائية " وهي من أشهر ما كتب سطان العاشقين ، في معظم الحفلات تجد أهداب أعين الذاكرين تبتل بالدموع ولكن في ليلة بن الفارض تتساقط الدموع من عينيّ أمير المداحين ،لأنه  يُغني  بقلبه ، معظم الحفلات يختار ما ينشده ولكن  في ليلة سلطان العاشقين يغرد طول الليلة بكلمات من شعر بن الفارض مثل: " قلبي يحدثني "  وقصيدة " زدني بفرطِ الحبِّ فيكَ تحيُّراً".

والجمهور المحب  للشيخ يس التهامي متشابه الزي والقلب ، يصعب عليك أن تفرقهم  ،لا تجمعهم صلة قرابة ولكن روح العشق الإلـهي ومحبيه جمع قلوبهم على محبة تغريداته فى قصائد حب آل بيت النبى - صلى الله عليه وسلم - .

يس التهامي ظاهرة فنية ربما لن تتكرر ، العشرات حاولوا تقليده،ولكنهم فشلوا هو يغني   بقلبه ، بينه وبين محبيه حالة عشق ، احترف أبناؤه  الإنشاد الديني ، واختاروا نفس لونه ولكنهم فشلوا في الوصول إلى نجاحاته وجماهيريته التي صنعها بحب القلوب ، معظم من  يتمايل جسده بالذكر خلال حلفاته لا يود سوى أن يشبع حالة حب خاصة لدى نفسه.