فن الحرب: الماسونية.. الحقيقة والأسطورة
لا يوجد نقاش سياسى أو اجتماعى تقريباً، لا يخلو من حديث أو حتى إشارة
للماسونية، باعتبار أنها حتماً، كما يرى المهووسون بها، السبب فى كل ما يحدث من
فوضى ودمار، فى كل مكان فى العالم... وعلى الرغم من أن الماسونية لفظ يتردَّد على
ألسنة الكل، على نحو أو آخر، إلا أنه من النادر أن تجد من يعرف حقيقة الماسونية
فعلياً، فالبعض يتعامل مع المصطلح، وكأنه يصف الشيطان نفسه، والبعض الآخر يربطه
بالصهونية العالمية، والغالبية تنسب إليه كل شيء، وربما أى شئ،.
وهكذا جاءت الماسونية أشبه بأسطورة قديمة، يردِّدها الكل، ويتهامس
بها، دون أن يسعى معظم الناس إلى البحث عن حقيقتها وأصلها، الواقع أن تسمية
الماسونية نفسها أشبه باللغز، فالبعض يقول إن اسمها يعنى الهندسة، باللغة
الإنجليزية الكلاسيكية، ويعتقد أصحاب هذه الفكرة إلى أن التسمية تعنى (مهندس الكون
الأعظم)، وهو المصطلح الذى تستخدمه الماسونية، لوصف الله سبحانه وتعالى، والبعض
الآخر ينسبها إلى حيرام آبى، المهندس المعمارى، الذى أشرف على بناء هيكل سليمان،
والبعض الآخر ينسبها إلى فرسان الهيكل، الذين شاركوا فى الحروب الصليبية، ويعتقد
البعض أنها إحياء للديانة الفرعونية القديمة، وهكذا.
وربما يعود الارتباك إلى أحد رموز الماسونية، الذى يجمع بين مسطرة
معمارى وفرجار هندسى، وبينهما حرف (G) حار المفسرون
كثيراً فى فهم مغزاه، وربما هذا أحد أسباب الغموض المحيط بالماسونية، ولكن أكثر
الروايات المنطقية تعود إلى عصور النهضة فى أوروبا، عندما شاع بناء القصور المنيعة
والكاتدرائيات الفخمة، والكنائس المعمارية، مما أشعر فئة البنائين أو المثالين،
أنهم أفضل ممن حولهم، فصنعوا اتحاداً فيما بينهم، أطلقوا عليه اسم اتحاد المثالين
أو البنائين، الذى يعرف فى اللغة اللاتينية القديمة بالماسونيين.
وهكذا بدأت الماسونية، كاتحاد لمهندسي الأعمال الفنية المعمارية
العظيمة، وظلت قاصرة عليهم، حتى أوشك عصر الأبنية العظيمة على الانتهاء، بدأ
الاتحاد يتفكك، مما أثار قلق مؤسسيه، فقرروا فتح الانضمام إليه، بحيث لا يقتصر على
المثالين، وهنا انضم إلى الاتحاد فئات كثيرة، رأت فى الماسونية قوة هائلة، إذا ما
أحسنوا استغلالها، خاصة مع النظام الذى وضعه المثالون، والذى يعتمد على رعاية
الماسونيين لبعضهم البعض، وتفضيل بعضهم على كل من سواهم، مما يصنع وحدة تآزرية
قوية، لو أحكمت السيطرة عليها، يمكنها أن تسيطر على العالم كله.. وهكذا.
وعلى الرغم من استمرار اتحاد النائين بنفس الاسم (الماسونية)، إلا أنه
اتخذ اتجاهاً مخالفاً تماماً لمنشأه، وصارت له أهداف سياسية، تستخدم المجتمع
والعقائد، لبلوغ أهداف قادتها، والتى قد لا يدركها أعضاء الماسونية أنفسهم، وهكذا
صار هناك ما يعرف بالمحفل الماسونى، وهو المكان الذى يجتمع فيه الماسونيون، لتجنيد
أعضاء جدد أو تقييم أعضاء سابقين، والأهم لتحديد الأهداف التالية للتنظيم
الماسونى، الذى اتخذ منذ ذلك الحين اسم الماسونية الجديدة.
وفى عام 1723م كتب جيمس أندرسون، وهو ماسونى، بدأ حياته كناشط فى
كنيسة أسكتلندا (1679 – 1739م) دستوراً للماسونية، وبعد أن اتخذ بنجامين فرانكلين
زعيماً للتنظيم الماسونى فى بنسلفانيا، أعاد طباعة ذلك الدستور، بعد أحد عشر
عاماً.
كان فرانكلين يمثل تياراً جديداً فى الماسونية، أضاف إليها عدداً من
الطقوس الجديدة لمراسم الانتماء للحركة، وأضاف مرتبة ثالثة، وهى مرتبة الخبير (Master Mason)،
والتى أضيفت إلى المرتبتين القديمتين، (مبتدئ) و(أهل الصنعة).. وفى دستور فرانكلين
المكوَّن من أربعين صفحة، نسب أندرسون تاريخ الماسونية إلى الأنبياء "آدم،
ونوح وإبراهيم وموسى، وسليمان" وبنو خذ نصر، ويوليوس قيصر، مروراً يجيمس
الأوَّل ملك إنجلترا، وهكذا ادعوا أن الماسونية موجودة منذ ظهر البشر على الأرض،
وصار حرف (G) بين المسطرة
والفرجار، الحرف الأوَّل من كلمة (God) بالإنجليزية،
والتى تعنى الخالق عزَّ وجلّ... فى تلك الوثيقة أيضاً، زعم أندرسون أن اليهود
الذين فروا من مصر مع موسى، أنشأوا أوَّل مملكة ماسونية، وأن الماسونية الامتداد
الطبيعى من العهد القديم، من الكتاب المقدّس، وأن المسيخ الدجال هو الملك المنتظر،
وأن الماسونيين هم الفرقة الثالثة عشرة الضائعة من الأسباط.
هكذا جعل أندرسون، فى دستوره المزعوم، الماسونية ديناً، ولا دين سواه،
وفى عام 1877م فى فرنسا، بدأ المحفل الماسونى، فى قبول عضوية النساء والملحدين، ما
أثار حالة من الانشقاق فى صفوفه، خاصة وأن دستورهم يقول نصاَ "لا يمكن أن
يكون الماسونى ملحداً أحمقاً"، كان دستور الماسونيين قد تم تعديله فى عام
1815م فى بريطانيا، بحيث أعطى العدد الحق فى اعتناق أى دين يشاء، ولم يعد هناك شرط
يتعلّق بالدين، بخلاف الإيمان بوجود خالق أعظم للكون.. التعديلات أثبتت أن هدف
الماسونية ليبس دينياً أو عقائدياً، بل سياسياً محضاً، ففى السياسة لا يعنى أحد
إلى أية عقيدة تنتمى، بل إلى أى فكر تعتنق.. بوضوح أكثر، سعت الماسونية إلى توسعة
رفعة المنضمين إليها، بغض النظر عن أية عوامل أو قواعد أخرى.. بل لقد وصلت إلى حد
إضافة مادة مهمة فى الدستور الخاص بها لا تشترط حتى الإيمان، لقبول أعضاء جدد.
ولهذا صار قبول أى فرد جديد، فى أى محفل ماسونى، يعتمد على تقديم طلب
لمحفله الفرعى، فى المنطقة التى يقيم فيها، ويتم قبوله أو رفضه من قبل أعضاء
المحفل بالاقتراع، وكل صوت رافض لانضمامه يفقده فرصة للانضمام.. أضف إلى هذا أن هناك
عدة شروط أخرى، فإن لم يكن مقدم الطلب على صلة بهم، يطلقون عليه لقب مهاجر، أياً
كان شأنه، وأن يكون حر الإرادة، وأن يؤمن بوجود خالق أعظم، بغض النظر عن ديانته
(ما عدا المحفل الفرنسى)، وهناك محفل سويدى، لا يقبل إلا المسيحيين فقط، وأن يكون
قد بلغ الثامنة عشرة من العمر، وفى بعض المحافل الفرعية، يصرون على تجاوزه الحادية
والعشرين.. وأن يكون سليم البدن والعقل والأخلاق، ويتمتع بسمعة حسنة، وأن تتم
توليته من قبل عضوين ماسونيين على الأقل، وأن يحمل شهادة جامعية على الأقل.. وعلى
الرغم من كل هذا، يصر الماسونيون على أن الماسونية ليست ديناً، وليست بديلاً
للدين، على الرغم مما سبق!
فى البداية كانت الماسونية تعتبر منظمة أخوية ذكورية، لا يسمح للنساء أبداً
بالانضمام إليها، وعلى الرغم من هذا فقد تم استثناء السيدة إليزابيث أولدورث (1639
– 1773م)، ويقال إن هذا قد حدث، عندما كشفت بالمصادفة طقوس قبول عضو جديد، وللحفاظ
على السرية، تم ضمنها للمحفل؛ لتقسم قسم السرية، الملزم للأعضاء، وفى عام 1882م
بدأ فرع فرنسا فى قبول السيدات، وفى 1903م بدأت كل الفروع الماسونية، فى الولايات
المتحدة الأمريكية، فى قبول النساء، وفى عام 1922م، كان هناك أربعمائة وخمسون
محفلاً ماسونياً، فى أنحاء العالم، تضم سيدات... وفى الوقت الحالى، هناك آلاف
المحافل الماسونية الفرعية، فى كل أوروبا وأمريكا، وهناك محافل عظمى، فى لندن،
وأمريكا، وأسكتلندا، وهناك محافل ماسونية، متخفية فى هيئة نواد أو جمعيات
اجتماعية، مثل (The lions) وهى كلمة تعنى
حراس المعبد، إشارة إلى الهدف الماسونى الأعظم، وهو إعادة بناء هيكل سليمان، ولقد
ظهرت سلسلة النوادى هذه لأول مرة، فى مايو 1917م، فى فندق لاسال فى شيكاغو، واسمها
مشتق من العبارة:
(Liberty intelligence our
nations safety)
، ولا وسيلة للقبول فى هذا النادى، إلا بترشيحهم لك مباشرة، وعلى الرغم
من وصف الماسونيين لأنفسهم، باعتبار أن حركتهم عبارة عن مجموعة من العقائد الأخلاقية،
حتى أنهم اتخذوا لأنفسهم شعار الثورة الفرنسية (الحرية – الإخاء – المساواة)، مما
خدع العديدين فى العالم الغربى، وحتى فى عالمنا الشرقى، فالماسونية قد بدأت فى
مصر، منذ القرن الرابع الميلادى، من خلال لوحتين رسمهما فنان مصرى، وهو إسحاق
فانوس، الأولى للأب باخوم، وفيها يحمل زاوية وفرجار هندسيين، وهما أحد رموز
الماسونية، والثانية للأب كيرلس، وفيها يستند على عمود رومانى، وهو أحد رموز الماسونية
أيضاً.
ولقد عرفت مصر الماسونية الحديثة، مع وصول الحملة الفرنسية على مصر،
عام 1798م، عندما أسس نابليون بونابرت أول محفل ماسونى فى مصر، والذى عرف بمحفل
إيزيس، ومع عام 1830م شهدت مصر انتشار المحافل الماسونية فى مصر، حيث تأسس فى
الإسكندرية محفل ماسونى، على يد ماسونيين إيطاليين، تلاه فى 1838م تأسيس محفل
ينيس... وفى عام 1845م كان الماسونيون المصريون يخشون المجاهرة بالانضمام للمحافل
الماسونية، حتى أنشئ محفل الأهرام بالإسكندرية، وانضم له كبار الأدباء والنبلاء،
دون أن يعترض أحد، مما ساعده على الانتشار علانية، حتى وصل إلى العائلة المالكة،
وانضم له الأمير محمد عبد الحليم، ابن محمد على باشا، فانضم إليه ألف عضو، وصار
أكبر محفل ماسونى فى مصر، فامتدت المحافل الماسونية فى كل بلدان الدنيا.
وفى عام 1876م تأسست الهيئة الماسونية المصرية الحديثة، وصدر منها أول
دستور ماسونى مصرى، لكل المحافل الماسونية المصرية، عام 1885م، مما جعل الماسونية
المصرية من أهم المحافل الماسونية الحديثة، ومع انتخاب الخديو توفيق رئيساً أعظم
للمحفل الأكبر الوطنى المصرى 1887م، ارتفعت قامة المحافل الماسونية المصرية، وتبعه
إدريس بك راغب، رئيس وزراء مصر آنذاك.
واستمر ازدهار المحافل الماسونية فى مصر، مع نهاية القرن التاسع عشر،
ثم أدرك جمال الدين الأفغانى دور التنظيم وأهميته، فى حركة التغيير فى مصر، وانخدع
بسمعة شعاره الفرنسى (حرية – إخاء – مساواة)، وسعيه للفصل بين السلطة السياسية
والدينية، وكانت الاحتفاليات، التى أقامتها الماسونية المصرية، احتفالاً بزيارة
الرئيس الأعظم الماسونى فى شيكاغو لمصر قد بهرته، كما أن قبول الماسونيين للكل بغض
النظر عن الجنس والدين قد راق له، فسارع بالانضمام للمحفل، ولكنه فوجئ بأن
الشعارات شيء، والأمر الواقع شيء آخر، فعندما دعا قيادات المحفل لتطبيق شعاراته،
أخبروه أن الماسونية لا صلة لها بالسياسة، فتمرَّد ضد المحفل الغربى، وتسبَّب فى
انشقاق داخل المحفل المصرى، وخرج مع عدد من أنصاره، وأسس معهم محفلاً ماسونياً
شرقياً، وارتبط بعلاقات مع المحفل الفرنسى، وتقسم إلى شُعب للدراسة والتخطيط
والتشريع، ولكل أوجه الإصلاح فى المجتمع، ثم تحوّل إلى الحزب الوطنى الحر، الذى
خرجت منه قيادات لمعت، وتمادت الثورة العرابية، ومنهم أحمد عرابى نفسه، ومحمود
سامى البارودى، وعبد السلام ومحمد عبده، وسليم نقاش، وأديب إسحق، وعبد الله
النديم.
وحتى قيام ثورة الثالث والعشرين من يوليو عام 1952م، كان معظم مشاهير
مصر، من كبار السياسيين والرياضيين والفنانين ورجال الأعمال، أعضاءً فى المحافل الماسونية،
ولكن اندلاع ثورة يوليو قلب الأمور كلها رأساً على عقب، إذ ساد هدوء حذر كل
المحافل الماسونية المصرية، وبدأ أعضاؤها فى الانسحاب رويداً رويداً؛ بسبب توتر
الأحوال فى كل البلاد، عقب التغيير المفاجئ فى نظام الحكم، وسيطرة الجيش على
السلطة، ولكن المحفل الماسونى المصرى أصر على البقاء والإبقاء على نشاطه، حتى صدر
قرار بحظره رسمياً عام 1964م.
وبهذا
انتهت الماسونية رسمياً وظاهرياً فى مصر، ولكنها اتخذت عدة هيئات أخرى؛ لضمان
استمرار وجودها، بعضها اجتماعى، وبعضها دينى، على الرغم من المبادئ الرئيسية لها،
وفى كل الأحوال فقد ظلت قابعة فى عقول الناس، الذين لا يزالون يتساءلون فى شك: هل
الماسونية حقيقة... أم مجرَّد أسطورة... فحسب