رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


محمود سعيد يتذكر

21-10-2020 | 15:19


أيتها الإسكندرية الجميلة الأصيلة العفيفة الحبيبة الضائعة، يا من تصدين وتهربين مني: "افتحي بحرَكِ الآنَ للمتعبينَ وللضائعينَ وللتائهينَ وللهاربينَ من الموتِ لحظةَ أنْ يمنحَ الموتُ سرَّ الطقوسِ لأحبابهِ".

الإسكندرية يا من كنتِ ترفلين في ثياب العز والألوان، وتضحكين بالألوان، وتسبحين في الألوان، ما لي أراك شاحبة وشائخة الآن. لا أرى إلا الضباب والرماديات التي تذكرني برماديات بيكاسو في "الجورنيكا".

من وسط هذا الضباب تأتيني الذكرى، فأرى آري الإنجليزية في المكان نفسه الذي التقينا فيه لأول مرة في الإسكندرية، بعد أن تأكدتْ أن اللوحات التي سرقها مورينو الإيطالي من مرسمي، هي ملكي ومن إبداعي وفني، وأني صاحبها الذي رسمها بعنفوان عشقه.

اتصلتْ بي آري من لندن أكدت أنها ستأتي إلى مصر، بناء على دعوة صديقي الفنان محمد ناجي، وأنها ستمر على الإسكندرية أولا، كما اقترحتُ عليها. وستعيد لي لوحتين من لوحاتي التي سرقها مورينو.

ذكرتْ لي أن لها صديقة يونانية اسمها أنيسكا تقيم في الشاطبي، ستحل ضيفة عليها. قلت لها: إذن نلتقي في كازينو الشاطبي القريب من بيت صديقتك، ثم ننطلق لنجوب شوارع الإسكندرية.

جاءت آري بعينيها الزرقاوين، تشع سمنةً وبياضًا بفستانها الأحمر، ومعها صديقتها اليونانية البيضاء النحيفة نوعا ما بفستانها الأخضر، عانقتني آرى عناقا حارًّا، رغم أنني لم أمكث معها في الجاليري سوى ليلة واحدة كنت معطلا فيها، وأخبرتني أنها أوقفت التعامل مع مورينو الإيطالي فور علمها بأنه قبض عليه في الإسكندرية بتهمة السرقة.

أهدتني آري لوحة منسوخة من لوحات رمبرانت التي أحبها، هي لوحة "هندريكي تخوض مياه الجدول" والموجودة في الناشيونال جاليري بلندن، والتي تأثرتُ بها أثناء عملي في لوحة "المستحمة" التي سرقها مورينو وأعادتها آري.

سألتني صديقتها اليونانية أنيسكا – بصوتها البنفسجي - بعد أن تأملت اللوحة: ما الذي يعجبك فيها؟

قلت لها: أرى أن ما يسمو بهذه اللوحة إلى أرقى المستويات، هو ما يبدو فيها من تجسيم للجسد في غير ترهّل فضلا عن اللمسات الخاطفة للفرشاة. ويتمثل خطو هندريكي وهي تخوض الماء بساقيها في حذر وكأنه حدث قائم بذاته، فلقد أضفى رمبرانت على لحظة عابرة من لحظات الزمن مسحة من الخلود تمثلت في هذا الإنجاز الذي بلغ أقصى مراتب الإبانة وأسمى مستويات التعبير، وهكذا جعل من هذه اللحظة العابرة فنا يخلد خلود الدهر.

-   هذا كلام رائع .. ويبدو أنك تأثرت بهذه اللوحة في أعمالك التي رأيت بعضها في أحد معارضك.

-   أرأيتِ أعمالي يا أنيسكا؟

-   نعم رأيت بعضها أثناء زيارتي لباريس عام 1937 ضمن معرض جماعي لكَ ولآخرين، وأعجبتني جدا .. وتمنيتُ لو تعرفتُ إليك هنا في الإسكندرية منذ سنوات، فأنا ولدتُ في الإسكندرية، وأعشقها مثلما يعشقها شاعرنا كفافيس.

-   أووه .. أتعرفين كفافيس أيضا؟

-   بالطبع فهو يوناني مثلنا، وألتقيه دائما في إيليت.

-   لم أذهب إلى إيليت كثيرا .. فجلستي المفضلة في ديليس، وعلى الرغم من ذلك أعرف قسطنطين بالطبع، وقرأت له الكثير من قصائده.

-   أنا أحفظ كل قصائده.

-   أسمعيني وترجمي لآري، إذا كانت لا تفهم اليونانية أو العربية.

قالت آري: أنا أعرف اليونانية سعيد، وقرأت كفافيس.

-   إذن أسمعيني قصيدة مترجمة إلى العربية.

-   همسات بالقربِ مني جّعّلتني ألتفت

نحو الباب

ذلك الجسد الجميل كان يقف هناك،

كأن "إيروس" نفسه قد خلق هذا الجسد

وصاغ هذه الأطراف الواعدة باللذة

ورسم الملامح الجميلة

بلمسات من أصابعه

تاركا أثرا محسوسا على الجبهة والعينين والشفتين.

-   يا له من شاعر رائع حقا. أتذكر ما قاله قبل رحيله عام 1933:

سأذهب إلى أرض أخرى

سأذهب إلى بحر آخر

مدينة أخرى ستوجد أفضل من هذه

كل محاولاتي مقضي عليها بالفشل

وقلبي مدفون كالميت

إلى متى سيبقى فكري حزينا؟

أينما جلت بعيني،

أينما نظرت حولي،

رأيت خرائب سوداء من حياتي..

نعم .. الآن يا كفافيس أشعر بما كنت تشعر به، أثناء كتابة القصيدة، تروح وتجئ ذكرى لقاء آري وأنيسكا في الشاطبي، ولكن تظل قصيدة كفافيس شاهدة على ما أنا فيه الآن.

تلح عليَّ أنيسكا وتسألني آري عن مظاهر تأثري بلوحة رمبرانت التي أهدتني إياها، فأحدثهما عن أثرها في لوحة "المستحمة" حيث الماء هو العنصر المشترك بيني وبين رمبرانت في لوحتينا، فتأتي واقفة في الماء بنفس العلو الذي تخوض فيه هندريكي ماءها، وكلا الفتاتين تنظران إلى أسفل، فتاتي واقفة تتأمل ماءها، وهندريكي تعبر ماءها أو جدولها مشمرة ثوبها الأبيض، فتظهر روائع من جسدها الأبيض البض، في تلاعب رائع بين النور والظل، أما فتاتي السمراء فتقف في مائها بكامل عريها وفتنتها وبهائها. ولكن الفارق بين لوحتي ولوحة رمبرانت هو الخلفية أو الوسط البيئي، فبينما جاءت الخلفية لإحدى القرى المصرية التي يعبرها نهر النيل نهارا فكان النهار هو مصدر الضوء أو النور عندي، كانت خلفية لوحة رمبرانت شديدة الدُّكنة، وكان مصدر الضوء عنده هو ثوب الفتاة وجسدها الأبيض البض.

تحوم حولي الآن طيور التم التي إذا أدركت أن الموت آت لا ريب فيـه ازدادت تغريدا عنهـا في أي وقـت آخر؟ مع أنها قد أنفقت في التغريد حياتها بأكملها، وذلك اغتباطا منهـا بفكرة أنها وشـيكة الانتقال إلى الله الذي هي كهنتـه، فاستطلعت فـي العالم الآخر من طيبات، فطفقت تغني لذلك وتمرح في ذاك اليوم أكثر مما فعلت في أي يوم سـابق، كذلك أنا، فإني أعتقد في نفسي بأنني خادم قد اصطفاه الله نفســه، وإني رفيـق لطيور التم فيما تعمل، فأنا أظن أنه قد أتاني سيدي من التنبؤ موهبة ليست دون مواهبها مرتبة، فلن أغادر الحياة أقل مرحا من طيور التم. ولن أغادر الحياة أقل ألوانا مما كنت عليه.

صوتها البنفسجي ظل كثيرا يراودني بعد أن أوصلت آري إلى محطة السكة الحديد لتستقل القطار إلى القاهرة، حيث سيكون في انتظارها صديقي الفنان محمد ناجي في كافيتريا محطة رمسيس.

كانت أنيسكا تودعها معي، وكلما تحدثتْ أرى أطيافا من البنفسج تحوم حولي، فدعوتها – بعد أن غادر القطار - إلى مرسمي الذي لم تكن قد زارته من قبل. خرجنا من محطة القطار إلى الميدان واتجهنا يمينا إلى شارع النبي دانيال، وعبرنا شارع فؤاد واتجهنا إلى شارع سعد زغلول، حيث يقع مرسمي.

كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصرا، وعم آدم النوبي في قيلولته، فلم يرن أصعد إلى مرسمي مع أنيسكا. وكانت هذه هي المرة الأولى التي أدخل مرسمي بعد مقتل حلاوتهم ورحيل ست الحسن وهمّام إلى الصعيد، وعلى الرغم من ذلك كان المكان نظيفا وكل شيء في مكانه، حتى الأكواب وبراد الشاي الذي تعده ست الحسن أو حلاوتهم أثناء وجودهما في المرسم.

أفقت على صوت أنيسكا البنفسجي وهي تضحك، قائلة: ستتركني كثيرا مع ذكرياتك؟ تأملتها وتأملت اللوحات المعلقة والتي على أرضية المرسم، وقررت أن أرسمها ترفل في ثوب بنفسجي مثل صوتها.

هل أنا تخليت عن الأزرق في لوحة أنيسكا؟

يشملني الأزرق الآن وأنا أسير على الخط الفاصل بين الرمل والموج، عند الحد الفاصل بين المد والجزر، عند الحد الفاصل بين الموت والحياة. أدخل في غمامة زرقاء، وأرى أنيسكا في هالة بنفسجية تسبح فيها ببياضها الشاهق، تتحول الألوان، تتغير الألوان، تتداخل الألوان، تتموسق الألوان. أنيسكا تصبح جسرا من موسيقى الألوان يمتد من الإسكندرية حتى اليونان

تسألني أنيسكا: هل أنت راض عن موتك؟

من داخل الغيمة الزرقاء أجيبها: أريد القليل من الحياة لأتمم مشروعاتي الفنية، وأتمم لوحتك البنفسجية، ولكني لا أهاب الموت. الموت ليس صعبا، كان معي مَبْهَج منذ قليل، كان لطيفا ومُبهجا، ووعدني بمزيد من الألوان، ليس الأسود من بينها. أخشى أن أتقدم في فهم العالم، دون أن يفهمني العالم. هذا هو الوجع الأساسالأصعب من وجع الموت يا أنيسكا.