"وداعًا للإسكندرية".. حكاية مدينة
تُعدّ الإسكندرية مركزًا كوزموبوليتانيًا مهمًا في حوض
البحر المتوسط، وهي مدينة فريدة من نوعها نظرًا للطابع الديموغرافي لها. فقد عاصرت
على مر قرون طويلة أناسًا من مختلف الإثنيات؛ فعاش المسلمون والأقباط واليهود
جنبًا إلى جنب، وكذلك اليونانيون والإيطاليون والأرمن والإنجليز وغيرهم؛ يتمتعون
جميعًا بمناخ نادرًا ما يوجد له نظير في القطر المصري أو في مدن مماثلة عُرف عنها
الطابع الكوزموبوليتاني. فتتلاشى الفوارق بينهم ليتصفوا بلقب (السكندريين) الذين
يشكّلون تلك الأجزاء الفسيفسائية الصغيرة التي تخلق الكل الكبير الحاضن لهم
جميعًا.
تنماز
الإسكندرية ببيئة ثقافية خصبة يؤوب إليها طالبو المعرفة من كل مكان في العالم. فلقد
عاشت بها شخصيات أدبية كبيرة مثل الشاعر اليوناني "قسطنطين كفافيس"، الشاعر
الإيطالي "جوزيبي أونجاريتي"، الكاتب البريطاني "لورانس
داريل" والروائية الإيطالية "فاوستا تشيالنتي". ولعلّ الأشهر بينهم
كان "لورانس داريل" بسبب رواياته "رباعية الإسكندرية" (The Alexandria Quartet)، إلا أنّ الفترة غير الطويلة التي مكثها "داريل" في
المدينة لم تمكنه من رؤية جوانبها المتعددة؛ فظهرت الإسكندرية أقرب إلى مدينة
خيالية غير الإسكندرية الحقيقية.
نعرض في هذا
المقال إذن أحد الكُتّاب الذين تناولوا الإسكندرية بشكل مختلف، لا كفضاء مكاني
وإنما كحكاية حيّة أبطالوها أناس عاديون ولدوا وترعرعوا بها، وكبرت هي معهم فإذا
ذهبوا عنها ذبلت.
في كتابه
"وداعًا للإسكندرية" (Farewell to Alexandria )، يرصد الكاتب اليوناني خاريس
ثيوكاريس المعروف بــــ"هاري تزالاس" قصة إحدى عشرة شخصية عاصرها الكاتب
في فترة حياته بالمدينة. يُذكر أنّ الكاتب وُلد بالإسكندرية عام 1936، وهو عضو
مجلس مديري مركز الإسكندرية للدراسات الهلِّينستية. كما شارك في صناعة إثني عشر
فيلمًا وثائقيًّا عن الآثار البحرية، وله مقالات متعددة منشورة في مجلات علمية عن طوبوغرافيا
الإسكندرية القديمة وتاريخها، بالإضافة إلى أربع روايات وقصص قصيرة نُشرت
باليونانية، تُرجم اثنان منها إلى الإنجليزية؛ هما «وداعًا للإسكندرية» و«سبعة
أيام في سيسيل». (وتنفرد مجلة الهلال عبر هذا المقال بنشر صورٍ للكاتب لم تنشر من
قبل)
تبدو المجموعة
من حيث بنيتها أقرب إلى المتوالية القصصية من محض قصص متفرقة؛ فلقد راعى الكاتب أن
تشبه تلك المجموعة مدينة الإسكندرية ذات الطبيعة الكولاجية (الفسيفسائية)، فلا تتغيّر
الشخوص من أول المجموعة إلى آخرها، ولكنه يسلط الضوء في كل قصة على أحدها بينما تقف
بقية الشخوص في الخلفية كــ(جوقة Chorus) – وهي عنصر في المسرح الإغريقي. فتبدو القصص مجتمعة كأنها حكاية
واحدة لن تكتمل إلا بقراءة المجموعة بأكملها وهى الحال ذاتها في المدينة. يقول على
لسان أحد شخوصه، الإسكندرية "ذلك الموزاييك العظيم مصنوعٌ من عدد لا نهائي من
الأحجار المأخوذة من جيل بعد جيل ولكنّها ويا للبراعة أحجار متوافقة تمامًا".
فيكتب (تزالاس) عن بسطاء الإسكندرية أمثال الأسطى أنطوان، المايسترو اليوناني، عائلات
الأرمن؛ هؤلاء هم السكندريون الحقيقيون الذي ندين لهم بتفرّد مدينتنا.
في قصة
"الإسكندرية بجوار مصر"، تظهر المدينة كحالة متفرّدة للتعددية الثقافية المتجانسة
عبر الطبيب الشّامي (طاوة) الذي تجاوز الثمانين ويتقن لغات كثيرة، ويستعرض
"باستمتاع" ثقافاته المتعددة، ثم يأتي ذلك السؤال الذي يطرحه باليونانية
القديمة "من يمكنه أن يريني أين دُفن الإسكندر؟". ففي الإسكندرية يمكن
رؤية مدينة حديثة متكاملة مبنية على أطلال العالم القديم – المصريين القدماء ثم الإغريق
يتداخل معهم الرومان والأقباط ثم يأتي العرب ويعقبهم العثمانيون. يعيش هذا الطبيب مثل
كثير من الأجانب الإزدواجية البينيّة للإسكندرية أو ما يُعرف بالـــ( limbo)، كمدينة
رأسية: سطحها بوتقة كبيرة تنصهر داخلها الاختلافات الثقافية، أما في عمقها فهناك
قصص عمرو بن العاص ومارك أنطونيو وملوك البطالمة. وهي أيضًا مدينة بينية أفقية
يتجمّد عندها الزمن؛ "كل ما فيها خالد، أرواح تطير بلا أجنحة. ترى الماضي
يصافح الحاضر ولا يوجد مستقبل".
يطرح
"تزالاس" فكرة الانصهار الحضاري في قصة "الأسطى أنطوان"
الإسكافي اللبناني الذي يعمل لدى آخر أرميني. فعلى الرغم من تقشف حاله إلا أنّه يُتقن
إلى جانب العربية اللغة الفرنسية ويرتدي ملابسه على الطراز الأوروبي. يستمتع
(أنطوان) وعائلته بالفضاء السكندري السخيّ الذي لا يمنح متعه للأغنياء فقط وإنما
للفقراء كذلك. ومن ثمّ، يجد القارئ أجواء الكرنفالية تجتاح أسلوب الحياة في
المدينة ليتقاسم الأناس رائحة الخبز ومشاهدة معروضات (بسطارودس) و(أثينيوس)
متناسين الفوارق الطبقية والثقافية. ويتجلّى دور البحر جليًّا في حياة هذا الرجل
البسيط عبر هواية الصيد؛ فيصير البحر مصدرًا للسخاء لا فقط في صورة السمك الكثير
الذي تسرع زوجته (أنچيل) إلى حمله، ولكنه مصدر السعادة في أيام الآحاد التي يتحول
فيها طقس الصيد إلى صلاة، ينقطع أثناءها عن الحديث والالتفات إلى من حوله، بل إنه
يصير مصدر طاقة وإلهام كبير له، يقول الرواي: "فيُرى في أيام الأحد وكأنّما
عاد رجلًا جديدًا، يقرع الشوارع بحذائه الثقيل ذي الأطراف المعدنية، عندما رأيته
للمرة الأولى شعرت بالخوف!". فمكونات هذا الفضاء المكاني تمدّ شخوصها بطاقة
انتصار تجعلهم يشعرون وكأنهم مالكو الأرض رغم بساطة حالهم.
لا يتناول
(تزالاس) الحياة في الإسكندرية كحياة مثالية على الرغم من لحظات البهجة والسعادة
التي تغلّف حياة من يعيشون بها، ولكنه يعرض بواقعية شديدة للأوقات العصيبة التي تعرّضت
لها الجاليات الأجنبية بدءًا من الحرب العالمية الثانية حتى حرب 1956. ففي قصة
"سيدي بشر، أكتوبر 1942" ينتقل الراوي إلى تمضية عدة أيام في فيلا عمه
"جيتانو" هربًا من القصف الجوي، يقول "كان البحر يتنهّد طوال الليل
كلما تعاقبت الأمواج ... قادمة من البحر المفتوح دون أن يعيقها شيء حتى تلقي
بنفسها على الساحل الرملي الذي يعانقها"، فتثير الحقول الدلالية (يتنهّد - البحر
المفتوح – يعانقها) أجواءً حنينية استباقية ولاسيما وأنّ هزيمة "روميل"
في العلمين كانت على بعد كيلومترات من الإسكندرية. وعليه، تظل ذكرى تلك الهزيمة
ملاحقة للراوي، تعكس هزيمة روح التسامح والدّعة السكندرية، فيذهب إلى العلمين بعد
انتهاء الحرب ليقرأ إحدى صرخات اليأس التي كتبها أحد الجنود الإيطاليين على الصخور
"لم نكن نفتقد الشجاعة، ولكنه القدر الذي هكذا حكم".
يرصد الكاتب
نهاية مصير الجاليات في الإسكندرية في قصة "المايسترو"، تلك الشخصية
التي لم يمنحها الكاتب اسمًا لتقف أنموذجًا لحال النوستالجيا المجرّدة. على الرغم
من كونه فقيرًا وضريرًا إلا أنّ ذلك "المايسترو" القادم من جزيرة
باليونان كان يعزف آلات مختلفة: الجيتار والبازوكة والمندولين، يعطي دروسًا في
الموسيقى هنا وهناك كي يحظى بوجبة غداء. ومن ثمّ، يرى القارئ أجواء الكرنفالية مجددًا
في أنغام الموسيقى كإحدى اللغات التي توحّد الجميع تحت مظلّتها. وببراعة يمزج
الكاتب هذا النوع من الكرنفالية المبهجة مع مظاهر التخويف والرعب، المتجسّدة في
الحرب. فيرى الراوي قوات إسكتلندية، وأسترالية وهندية تقتحم البلاد وتتحول المدينة
إلى ساحة قتال بين قوات الحلفاء والمحور مما دفع كثير من الجاليات إلى الهرب إلى
بلادهم التي لم يروها من قبل. يصف الراوي حال اليأس والضياع التي اختبرها
"المايسترو" إثر هجر أصدقائه له، يقول: "يرى سوادًا أشد وأكثر
رعبًا من السواد الذي اعتاده، كان يقترب منه كوحش على وشك أن يبتلعه. كل درس
يعطيه، ... كل كوب قهوة طيب، كل هذه البيوت كانت بيته، عائلته وأصدقائه".
فيشير هذا السواد ليس فقط إلى الحزن الشعوري لدى تلك الجاليات، وإنما هو حالة
حدادية على ذكرى تلك المدينة التي لن يعود حالها كالسابق.
يطرح الكاتب
صورة شديدة للحنين إلى الإسكندرية والانشطار النفسي في قصة "الطفلة
الأرمينية". تجري أحداث تلك القصة في أعقاب حرب 1956 - القشة الأخيرة التي
أتت على الكوزموبوليتانية. فالجالية الأرمينية هي أحد أكبر الجاليات الأجنبية التي
أتت إلى مصر هربًا من مجازر الأتراك في بلادهم، واستقرت في مصر لمدة تزيد عن
الثلاثة أجيال، عملوا خلالها في وظائف عدّة كالصرافة والتجارة وكانت لهم مدارسهم
وكنائسهم الخاصة بل واحتفظوا بلغتهم ودينهم وعاداتهم التي لم يعارضها المصريون بل
كللوها بالاحترام. ويعرض الكاتب لأزمة الهوية لدى أولئك الذين ولدوا في الإسكندرية
ولم يروا بلدهم سوى في الصور، ولكن تتعارض الروح الكوزموبوليتانية مع أجواء الحرب،
فـــ"أخذت النزعة القومية المجروحة لدى المصريين في الظهور مطالبةً بالانتقام
بكل وسيلة ممكنة من الأوروبيين، الذين شاهدوا المتظاهرين يخربون ويحطمون محلاتهم".
ويربط الكاتب رمزيًا حال أولئك المهاجرين بطفلة أرمينية ساءت حالتها الصحية إثر
إصابتها بــ(اللوكيميا) لتموت الطفلة فيما بعد وتدفن بالإسكندرية بينما رحل أهلها،
في حين كانوا "ينظرون إلى المدينة العظيمة تتلاشى بعيدًا، فتتوارى البيوت
الواحد تلو الآخر، وكذلك وجوه أناس معروفة ومحبوبة، ثم اختفت الكنائس بأبراج أجراسها
العالية، وكذلك المساجد بمآذنها الرشيقة". وأخيرًا نقول، في الحقيقة، لا
تختفي المدينة بذاتها؛ وإنما هم الأناس وحيواتهم التي منحت الإسكندرية ذاك الطابع
الفريد. الأفراد هم من يخلقون هذا المكان ويضفون روحًا متميزة له باختلافاتهم
الثرية، فهل من الممكن أن يظهر مدًا روحيًا جديدًا لتلك المدينة العظيمة أم نستسلم
لتحولها إلى مجرد سياج يحوي كتلًا خرسانية قبيحة؟