الإسكندرية.. والخراط.. والحساسية الجديدة
الإسكندرية.. عبق التاريخ وأنواء البحر ونقاء الهواء ومقصد الهاربين
من جحيم الموت إلى رحابة الحياة على شاطئ المتوسط. إسكندرية الماضي بكل اجتهاداته:
بعلمه وفكره وفنه وآثاره الظاهرة للعيان والغارقة تحت الماء. إسكندرية الحاضر:
الفكر والأدب والفن والثقافة وحيوية الإنسان. إسكندرية محمد لطفي جمعة، القانوني
المثقف والأديب الرائد الذي شق لفن القصة طريقًا في الأدب العربي. إسكندرية محمود
سعيد الذي جسد روح الحياة المصرية البسيطة في لوحاته، وجعل صورة المرأة الشعبية
قطعة من الجمال الفني العاشق للحياة. إسكندرية سيف وأدهم وانلي وحامد عويس ومحمد
ناجي ويوسف شاهين ومحمد كريم وعمر الشريف ولورانس داريل ويوسف عز الدين عيسى
وعبدالعليم القباني وعبدالمنعم الأنصاري وفارق حسني. إسكندرية محمد حافظ رجب
ومحمود عوض عبدالعال وإبراهيم عبدالمجيد وشبلول. وإسكندرية الخراط.. إدوار الخراط
صاحب "رامة" و"أمواج الليالي" و"حجارة بوبيللو"
و"ترابها زعفران" و"الزمن الآخر" و"محطة السكة
الحديد" و"حيطان عالية" و.... و..... وكل ما تركه لنا من ذخيرة في
الفن والمعرفة. لك التحية، وسلامًا على إدوار الخراط المثقف الفذ.. الفنان الذي شق
طريقًا للرواية إلى عصر جديد علت فيه قيمة
الفن تناطح كهنة الأيديولوجيا وتصنع حداثة العصر الجديد.. عصر تحطيم قيود الأدلجة،
والانطلاق بالرواية إلى آفاق طموح إنساني لا سقف لها إلا فضاء الكون وعمارته
البديعة االمعجزة التي نرى من كشوفها كل جديد مبهر، بالرغم من أنها قديمة قدم وجود
الإنسان ومعرفته، بل وقبل وجود الإنسان ذاته.
تأمل إدوار الخراط الكون ككاتب ودارس ومترجم وفنان مبدع حتى تعب. أجهد
ذاته وعقله وقلبه حتى أفلت منه وعيه ونام ناسيًا أو متناسيًا مخاض التجارب ومتاعب
المغامرات وآلام البحث ولذة الاكتشاف. وحدها بقيت أعماله.. وأعماله باقية نؤسس لها
وعليها وعنها تجاربنا الجديدة، بعد أن ارتقى إدوار الخراط حيطانه العالية ليرى
الصورة أكبر، وترك العقل ينساب حرًا ماتعًا مستمتعًا بلذة المعرفة وروعة الفن
وحلاوة الاكتشاف.
تماهى مع "رامة" بحثًا عن السر الأعظم الذي حطم الحواجز
والجدران أمام "حميدة البرصا" فنفذت من الجدران كالتنفس أو الهواء أو
ذرات الذرات، وعبر مع "وديدة" بقارب متآكل صدئ و"العم سلوانس"
يدعو أن يصلوا آمنين.
كيف صنع الخراط أسطورته الفنية؟ هذا ما نحاول اكتشافه من بعض أعماله
ولتكن "حجارة بوبيللو" مثالًا.
في تصديره للرواية يتحدث الخراط عن "كوم بوبيللو" الأثري
المحرف عن اسم الإله "أبوللو" في الميثولوجيا اليونانية. يقفز المؤلف من
عصر "أبوللو" إلى عصر "بوبيللو" في كلمتين؛ الأولى
"بوبيللو كوم أثري"، والثانية "مديرية البحيرة شمال الخطاطبة مركز
كفر أبو داوود". وبمثل هذه القفزات بين الماضي والحاضر ينتقل الخراط بشخوصه
وتنقلاتهم الذهنية الخاطفة. وتمثل "حجارة بوبيللو" صعودً في الخط
المعكوس لصنع أسطورة من حياة معاشة عصرية، تمامًا كمن حاول أن يعيد حجارة الكوم
الأثري إلى الصورة التي كانها.
وأخذنا الكاتب إلى عالمه في معدية حديدية مسطحة الجوف يُسمع صوت صرير
لسلسلتها الحديدية الصدئة، فالمعدية التي تحمله إلى عالمه التاريخي الأسطوري
القديم قديمة أيضًا لكنها قادرة على الإنسياب الهادئ على الماء المخضب بطمي
الفيضان في هذه النقط البعيدة على الرياح البحيري. كما أن المعدية تحمل الأحجار
التي يبني بها معبده العصري الموازي لمعبد
أبوللو المتهدم وأحجاره هي شخصيات روايته، وهذا تعليل التقديم المتتالي للشخصيات
بغير حدث يربطها، فهي في هذه المرحلة أحمال الحجارة التي ستبني المعبد أو تصنع
الحدث الروائي: جدي سلوانس وخالتي وديدة وخالتي سارة وعمي فانوس وأبونا
أندراوس وعمي جورجي وخضرة الفلاحة وزوجها
حجازي وحمدية البرصا والولد برسوم وليندا ورحمة وستي أماليا وخالتي روزا وخالتي
سلوما وابن عمنا حنا.
وتظل المعدية تتحرك كمركب الشمس في حركتها البندولية لتعيد الشمس من غروبها إلى الشروق فتستمر الحياة.
والكاتب لن يقدم شخصياته بكاملها دفعة واحدة، ولكنه يذكرها مرة بالاسم
المجرد دون تعريف، فإذا حان أوان التعرف على شخصية ما بعمق أكثر قطع عملية السرد
واستطرد بالتعريف بالشخصية تعريفًأ مباشرًا لتقديم أقصى ما يريد نقله إلى قارئه،
كما يعرف صديق صديقه لشخص ثالث. أو يقدمها تقديم غير مباشر يحكي بعض ما يعرف عن
الشخصية ن كلام شخصية أخرى، فيستضيئ القارئ بالتعرف على الشخصية من خلال العملية
السردية. وقد تطول وقفة المؤلف في التعريف بإحدى شخصياته قبل أن يستمر في عملية
السرد الروائي، فالجد ساويرس وخالتي سارة وخالتي وديدة نتعف عليهم في افصل الأول
أسماء مجردة، وفي الفصل الثامن نعرف إنهما ابنتا ساويرس. في الفصل الأول نعرف أن
فانوس أحب سارة ولكنه تزوج وديدة في الفصل الثامن نعرف أن فانوس تقدم إلى ساويرس
الذي قال إنه لا يزوج الصغرى قبل الكبرى، وأثار حمية ابنة أخيه نحو ابنة عمه
الكبرى بقوله "هل يرضى أن تعنس الكبيرة بأن تزوج فانوس الصغيرة وعلى العموم
أختها تحت أمرك في أي وقت". ثم كانت الجملة المثيرة للنخوة والاستجداء على
الرعم من صلابة مظهرها : من أحق بها من ابن عمها؟ يداري لحم بنت عمه؟" بهذا
تحول الفارس العاشق إلى فدائي شهيد وجعل حبه قربانًا في سبيل الواجب، ولا يضير جده
أو حتى عروسه أن يجترا هوا الشهيد كلما سنحت له فرصة وخلا إلى نفسه ما دام الواجب
عمله قد حدث ولبى نداء الجد.
أما سارة فلخص الرواي موقفها بين الاستسلام والغضب في عبارة موجزة
"خالتي سارة بلت الشربات تقدمه للخطيب والخطيبة كلاهما محبوب وكلاهما خائن".
أما الفتاتان ليندا ورحمة، وهما أختان تعيشان في رعاية خالتيهما روزا
وسالوما بعد وفاة أمهما وهجر أبيهما القرية حزنًا على موت زوجته أو عقابًا لنفسه
على خطيئة لم يرتكبها وإن ظل يعاني من أثرها على الرغم من قوة بنيته وجاذبيته
وأناقته.
وهناك الفلاحة خضرة التي عبر عنها الراوي مقارنة بليندا ورحمة على
الرغم من الفارق الاجتماعي بينهما وبينها. أحبها الراوي رغم أنها كانت من الطبقة
الأدنى، رآها في المعدية تجلس على الأرضية الرطبة ترتدي جلبيتها السوداء نصف الشفافة
وتحتها جلابية أخرى ملونة وفوقها تنسدل طرحتها السوداء الشفافة على ظهرها حتى تغطي
أرض المعدية وتستر نصف وجهها بطرف الطرحة التي تمسكها بيدها، سحرته جلستها التي
ليس فيها أي نية للإثارة، وإنما إحساسه باستدارة وركيها وبضاضتهما حتى من تحت
الجلاليب أفقده توازنه من الناحية الاجتماعية على الأقل. ولكن خضرة التي تسكن في
قاع السلم الاجتماعي تملك مؤهلات أخرى تجعلها قابلة لأن ترتقي إلى أعلى درجات
السلم الاجتماعي.
أمر غريب أن يكون في هذه المرأة كل الفتنة والقوة التي تجذب إليها
رجلًا محاطًا بنساء أجمل. امرأة أنجبت ست مرات ومع ذلك تعيش حياة خشنة في
"الزريبة" ولكنها لا تنسى في قليل القليل من الوقت أنها امرأة. قالت
إنها تدق في الهون حبات من القرنفل وعين العفريت مع قشر الرمان الجاف وتنقع المسحوق
في قليل من زيت الزيتون وشيء من الكحول ونقطة ريحة صندل وتستخلص منه ما تمسّد به
شعرها؛ قالت إن هذا الخليط يجعل رائحة شعرها أشبه برائحة لبؤة متحرقة للسفاد. ثم
كانت نهاية خضرة في خبر جاء في "البلاغ" أواخر سنة 1940 في صيغة تنكير
عن جثة امرأة عثر عليها في الريّاح البحيري بالقرب من "كوم بوبيللو"
تبين أنها تدعى "خضرة محمود" من أهالي "الطرانة" وكانت الجثة
عارية ومحلوقة الشعر وبها كسر في الجمجمة من ضربة فأس. تعرف عليها الأهالي وقالوا
إنها كانت "غنضورة" ولكن لم يعرف عنها سوء السيرة، وأنها تركت خمسة
أولاد صغارا وتحوّم الشبهات حول زوجها المدعو "حجازي عوضين" وهو هارب.
وكان تعليق الراوي على خبر قتل خضرة "أن الغرق شهادة"، هكذا ارتفعت
"خضرة" إلى منزلة الشهداء.
وهناك شخصية "حميدة البرصا" التي ورد اسمها في الفصل الأول
ضمن ركاب المعدية، ثم تجدد خبرها في الفصل الثالث برواية "المعلم شنودة
البقال" وقد رآها غريقة في عرض النيل منتفخة البطن مقلوبة على بطنها كناية عن
كون الجثة أنثى.
وشخصية "حميدة البرصا" من أكثر الشخصيات إيحاء ودلالة، وهي
الوجه الآخر لـ"خضرة"، فإذا كانت خضرة امرأة واعية بأنوثتها على الرغم
من قسوة ظروفها، فـ "حميدة البرصا" هي المرأة ذات الأنوثة الغائبة في
العالم بما يصدر عنها من أفعال متناقضة تجمع بين الواقعي والأسطوري "رأيت
حميدة البرصا" فجأة في آخر الحارة تأتي إلى تعرج قليلًا في مشيتها البطيئة"
وكلمة "فجأة" التي لفتت الراوي سببها أن الحارة سد فمن أين خرجت إذا؟!
ولم يكن يفهم ويقدر أحوالها إلا "خضرة" -وجهها الآخر- فكانت تحن عليها
وتدعوها إلى بقايا طعام لا يزال طيبًا فيخرج من فمها غمغمة أصوات لا معنى لها
ولكنها إنسانية، فتنتحي جانب الباب وتأكل بلهفة وتبتلع الطعام دون مضغ وأحيانًا
تسمو إلى درجة الولاية.. تأتي من أين وتذهب إلى أين أمور لا يعرفها أحد.. وكأن
حيطان الحارة الصلبة هواء تخترقها بيسر، كما أنها تنام بالتأكيد في مكان ما ولكن
وجودها محجوب عن الناس فلا يعرفون أين تنام وكيف تعيش. في بعض الأحيان تهبط إلى
مرتبة دنيا تقترب كثيرًا من البله والعبط.. تأكل بشراهة ونهم دون أن تمضغ طعامها،
ولا يسمع إلا غمغمات امتنان لا معنى لها، وهي في معظم الأحيان تقف في مستوى بين بين،
يمكن أن تكون "المرأة الدرويشة" بلهجة أهل الشام أو "المرأة
المجذوبة" بلهجة عوام المتصوفة. وكان أهل القرية يظفون "حميدة" في
الأمور التي لا يجرؤون على الإعلان عنها أو التصريف بها دون خوف من إفشاء
"حميدة" أسرارهم فهي عند الجميع لا حرج عليها، ومن هذه الوظائف كانت
"حميدة" تقوم بدور مرسال الغرام بين "كريمة" بنت الشيخ علوان
و"الواد محمد" ابن شيخ البلد، وكان الراوي يستفيد من جهلها بذاتها
الأنثوية فيطويها في أحضانه في مكان بعيد عن الناس، ويجد في فطرتها البكر لذة.
وعلى الرغم من قبحها ونفاذية رائحتها كانت ترتفع إلى مستوى الرمز فتصير في عداد
الآلهة ويقدم إليها قربانه كما يرفع "حابي النيل " قربانه بين نهدي
إلهته مصر ويهديها ماءه الطهور مجددًا خصوبتها وحيويتها.
وهناك "المعلم شنودة البقال" الذي يبيع بالمقايضة ويرصد
أحداث القرية ويعيد تاريخها في جلساته مع أهل قريته الكبار، ويعزم على الراوي بكأس
"عرقي" مشجعًا إياه بالشراب والصهللة. روى "شنودة" ما رآه في
طفولته وحكى حكايات كثيرة عن القديس "بسادة" وعن "كريمة" بنت
الشيخ علوان وعن "المعلم جورجي" عريف الكنيسة المشكوك في حسن أخلاقه وعن
علاقته ب"حنينة أرملة ميساك" المتفجرة أنوثة وحيوية وتلوك سيرتها ألسنة
نساء القرية باستنكار، وينتهي أمر "جورجي" إلى الزواج منها وهناك
"فرح العرباوي" الأعرابي الذي يمارس مهنة التطبيب بالأعشاب الصحراوية،
وعنده لكل داء دواء، ومع ذلك لم يكن يقرأ أو يكتب، لكنه أمام المريض "نطاسي
حكيم".
تتميز شخصيات الرواية بتكويناتها الثنائية المزدوجة، تمثل إحداهما وجه
الشخصية والأخرى الوجه الآخر، فهناك "وديدة" و"سارة"
و"خضرة" و"حميدة"، و"ليندا" ورحمة"،
و"روزا" و"سلوما"، والمرأة الحلم "سعاد فهمي"
والمرأة الحقيقة "حنينة أرملة ميساك"، وهناك شخصيات ظلال وجدت ليكون
وجودها معنى لوجود غيرها مثل "سلوانس والد ليندا ورحمة" و"العمة
ديمياريس" و"الولد برسوم" و"أسعد الأشقراني"
و"سلوانس و"أنيس" وأبوه و"حجازي الأجري" زوج
"خضرة" و"لويزا بنت المعلم شنودة البقال".
اتخذ الراوي من بقالة "المعلم شنودة" مركزًا للرؤية. أمام
الدكان حائط سد طويل ملتوٍ ليس فيه منفذ هو حائط بيت الشيخ علوان صاحب كتاب
القرية وإمام مسجدها ومقرؤها، هذا البيت
في الجانب البحري من القرية، وفي الجانب القبلي تقع الكنيسة في وسط بيوت المسلمين. لاحظ أنه يمزج بين
الطوائف الدينية فيجعل المسلمين والمسيحيين يتجاورون كما يتجاور المسجد والكنيسة
في محاولة لتقريب العلاقة بين الجانبين. في هذا المكان جمع المؤلف شخصيات روايته
أو حجارة بنائه التي سيصنع منها معماره الفني أو عالمه الخاص في الرواية.