رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


قصيدة النثر العامية فى مصر

22-10-2020 | 12:29


ظهرت قصيدة النثر العامية فى مصر لتكمل مشوار مسيرة الشعر العامى الذى يشكل وجدان الأمة،  إذ هو صوت البسطاء، والمهمشين والمقهورين والفقراء والعامة، الذى يعبر عن آمالهم وآلامهم وطموحاتهم، وهو فى الأساس "أدب الشعب" و"ضمير الأمة" الذى يمثل حركة المجتمع والحياة.

ويعتبر الشاعر مسعود شومان أحد أبرز جيل الثمانينيات الذين تشبعت تجربتهم والتصقت بتجارب شعراء العامية الكبار وعلى رأسهم: ابن عروس،  صلاح جاهين،  فؤاد حداد،  بيرم التونسى،  سيد حجاب،  وغيرهم .

ولعل جيل الثوريين فى شعر العامية لم يغفل ظهور جيل ينادى بأحلام المصريين وطموحاتهم،  ويحارب الطبقية والرأسمالية إبّان ثورة 1952م وما بعدها حتى عام 1973م، وعبور الهزيمة فظهر الشعراء: أحمد فؤاد نجم، وعبدالرحمن الأبنودى،والكابتن غزالى، فؤاد قاعود،  وكامل حسنى، وغيرهم ممن ثوروا الشعر إبّان النكسة حتى انتصارات أكتوبر.

كما لا يمكن أن نغفل جيل التسعينيات وبدايات نشأة قصيدة النثر العامية على أيدى شعراء شبان طموحين أرادوا تجديد مسيرة وقماشة الشعر المصرى فوجدنا: مجدى الجابرى، يسرى حسان، مسعود شومان، سعدنى السلامونى، مدحت منير وغيرهم من شعراء الصعيد والوجه البحرى ومدن القناة وسيناء.

ولسنا هنا بالطبع بصدد التأريخ عن مسيرة شعر العامية، ولكن اقتضت المقدمة ذكر بعض الأعلام الفاعلة، التى أثرت المسيرة الشعرية قبل وإبّان وبعد عام 1973م وظهور ما يسمى بالأدب القومى، المعبر عن طموحات العرب وحلم القومية والوحدة آنذاك.

نجح الشاعر مسعود شومان فى تقديم ديوان ينتمى للحداثة وإلى قصيدة النثر العامية الجديدة، وكان قد أصدر- من قبل - عدة دواوين تفعيلية / عامية،  منها: أول بروفة،  بيجرب يمشى على رجل واحدة، رجل أثقل من سنة 67، صاحب مقام، وأخيراً ديوانه - الذى بين أيدينا:" قبل ما يردموا البحيرة " وغير ذلك.

وفى ديوانه الأخير يخرج مسعود لنا بهذا الديوان المفارق،  الجميل والمدهش،  والغريب عن ذائقة متلقى قصيدة النثر – آنذاك – فنراه يفسح للتفاصيل الصغيرة جانباً كبيراً، كأنها منمنمات تبرز جوهر الإبداع والشعرية دون التدخل فى معضلات لغوية، حيث اللغة البسيطة غير المتكلفة، أو التراكيب التى قد تشتت الذهنية لدى الجمهور العادى / الشعب، المواطن البسيط الذى تتوجه إليه القصيدة،  وإلى القارئ المثقف أيضاً.

واستطاع هذا الإبداع الجديد أن يؤثر فى الذائقة الشعبية بتحريكه للخيال الجمعى التنويرى لتحفيزهم لتثوير أفكارهم، وإيقاظ الوعى لديهم عبر الشبكة العصبية اللغوية / المفارقة،  وعبر التنقل عبر اللغة الإشارية التى تحملت بمضامين اجتماعية وسياسية وأيديولوجية أيضاً.

إنه يبرز معاناة جيل شهد ربقة الظلم والفقر والتشرد والضياع،  فجاءت القصائد أشبه بالشعر المقاوم للشارع المصرى، ولتأكيد الذات الجمعية الوطنية والانتماء ضد الأمركة والتبعية والإمبريالية والصهيونية وغير ذلك.

نجح شاعرنا عبر العنوان المفارق: " قبل ما يردموا البحيرة " أن يحيلنا إلى ذواتنا وكأنه النذير الذى يصرخ فى برية السكون والصمت،  أو هو صوت الضمير الذى يصرخ فى الجمال ليحيلنا إلى الحياة / الواقع / ضمائرنا لنحارب المسخ / الأجنبى / المستعمر / الظلم أينما كان،  لتتجسد إنسانية القصيدة عبر شعرية الجماد التى تنتهجها موضوعات القصائد،  ولغة الديوان المفارقة .

وعبر ديوانه نراه يدخلنا إلى قلب القصيدة / جوهر الأحداث، عبر شعرية الجماد التى يستنطق فيها الحجر / الجبل / الكهف،  أو إلى البحر / نقطة الماء / عش العصفور / الحيطان / أرجل الترابيزة / الثلج / الشجر /،  أى ينتقل من المفردات البسيطة والمجردات إلى التفاصيل الإحالية الدالة والتى تحيلنا إلى ذواتنا وإلى المجتمع والعالم والحياة.

ويأتى التصدير ليكشف عن عالم شومان وتضميناته لبعض من آثار: فريد الدين العطار،  الطاهر بن جلون،  جون كوكتو،  حيث كما يقول الأخير: إن الأخلاق لا تخرج أحداً من المقبرة الجماعية،  وحيث التصوف والمفارقة التى يصنعها إنسن كوكت وفى أن يكون حراً ومشبوهاً فى الوقت ذاته، وبين الوحدة التى يراها مسعود فى " بحر وحيد ومحاوطاه الصحرا " والذى يحيلنا عبر اللغة / اللهجة التجريدية إلى صور جمالية تنم عن وحدة الذات القلقة،  يقول:

البحر اللى رسمته على اللوحة

بعد ماغرّقت نفسى فى بقع الألوان

كان بحر وحيد ومحاوطاه الصحرا

ماشى مش دريان / لا كان فيه خفّ جمل / ولا ريح بتصفّر

وما كان أوان برتقان . ( االديوان:ص8:7 ) .

إنها القصيدة التى تعبر عن الذات / الوحدة / القلق الوجودى / المجتمعى عبر مجتمع البساطة / التفاصيل،  حيث الكهف المهجور وذاته التى تسير خلف (غيامة عبيطة )،  وحيث دوائر الصمت / المطر / الحلم والتى تصنع القصة الشعرية / القصيدة – كما أحسب -،  وحيث الصور السريالية التى تفرغ مضامين الشعرية لصالح المعنى الإحالى الذى يحمّله فى ذات الوقت بدلالات مكتنزة،  وكأننا أمام قصة الذات وتطوفها فى سدم العالم والكون،  فتتعرى الحقيقة الجميلة / المفارقة: ( الورقة الفاضية ) التى تتباهى بحريتها / حريتنا / حرية المجتمعات النازعة للحرية / الحلم / الكتابة / التعبير عن الذات / الثورة الداخلية والظاهرية حيث الفرار من الروتين / الجلوس على المكتب / التقوقع فى شرنقة الذات وجلدها عبر بطاقات التأمين الصحى / الدوسيهات / المقهى ...

وربما كل ذلك وغيره يكشف عن تغايرية نمطية للهجة العامية المصرية التى تحيلنا – عبر لعبته الشعرية – إلى تبادلية ولا تراتيبية متبداة – ظاهرياً – للأحداث والمواقف، ولكنها تفكيكية عبر الدوال لتحيلنا إلى المقولة المشهورة: " المعانى ملقاة فى الطريق، والمبدع الحقيقي يلتقط الزاوية التى تراها تمثله، أو تتسق مع ذاته / عالمه / حياتنا اليومية التى يتغياها ويتوسلها الشعر عبر الحياة وديمومتها المتتالية.

كما يستخدم الشاعر لغة القصة / القصيدة،  أو الدوائر الشعرية عبر مسيرة تقنية التجديد النثرى لتلك القصيدة المشتهاة / الغرائبية / المقلقة والمجهدة فى آن،  والجميلة أيضاً،  يقول:

الحواديت التى اختارت أوضتها

وابتدت تلبس هدوم البيت

البيت اللى بينه وبين المكتب

سبع سنين م الحزن

الحزن اللى سابه لوحده ع المحطة

ورفرف على أول فستان معدى

لعبة مملة . ( الديوان: ص 35 ) .

والشاعر هنا / الراوى / السارد يجيد لعبة " تبادلية الأدوار " والمعانى عبر اللغة التغايرية التى تشكل دوائر تسلم معانيها لغيرها لتدلل إلى تنامي هارمونى القصيدة / القصة / الحكاية الشعبية،  عبر شعرية الجماد،  أو اللفظة المجردة التى يحمّلها بمضامين وموضوعات ودلالات نفسية واجتماعية عبر إشاريات التضمين والإدهاش الإحالى للكلمات التى تستنطق ما يود قوله،  أو التصريح به .

ولعلنا نشير إلى جماليات الأسلوبية وبساطتها عبر اللغة الرشيقة التى يحكم سبك معناها،  ويجيد رصف مبانيها وأزقتها المندغمة عبر الصور الإحالية التى تجعل القارئ فى تشاركية معه عبر الذات التى تستعذب الوجع الشهى المرير،  والمعتاد لديه / لدينا كذلك.

كما تبدو الشعرية متبداة فى مستهل قصائده التى تصيبنا بالدهشة والحنين والشجن،  ولا تمتلك الا أن تأسرك فى عالمها / عالمه،  يقول:

باقى جبلين

وشجرة

هنا قبرها

أوعى تصدق صوت المزيكا

اللى مخبيها فى جيوبك . ( الديوان: ص48) .

إنها غرائبية متبداة على مستوى الشكل،  لكنها مغايرة فى المضمونية حيث الصور السريالية / التفكيكية التى نراه ينثرها على الورق،  مع اختلاف دلالاتها،  وكأنه يستعيض بالصورة الإحالية عن المعنى القريب ليحدث التورية الذاتية / الواربة للذات المنكسرة عبر الحلم / الكتابة،  وكأنه يتوخى ظلال المعانى لاستكناه ظاهر القصيدة / الحدث / المعنى،  لتدلل إلى مساحة الحزن الممتدة والزاعقة،  والصارخة فى صمت مهيب،  وباذخ،  وجميل.

كما يصدح الديوان بالأسئلة طول الوقت،  عبر السرد الذاتى للغربة / الوحدة،  وكأنه طول الوقت فى صراخ / فى تجريب وتغريب،  وتجريد واختزال للغة السلسالة المنضمة عبر مهجة روحه / وكأنها صوفية للذات / متواترة / قلقة / جميلة وغرائبية / لا متناهية كذلك .

ولعمرى، إن شعراً يحدث المفارقة والإدهاش – طول الوقت – لهو شعر حقيق بالدرس الأدبى والنقدى،  فهو يحيلنا إلى إحالات ذهنية وروحية وعقلية عبر لغة تدخل إلى القلب وتتغلغل فى الوجدان فتحدث الشكة العقلية والروحية فى آن،  ويلاحقها بالمفارقة المباغتة التى تتجلى فى أغلب قصائد الديوان.

كما أن شعرية الجماد – كما اصطلح – تنبع من استخدامه للمعانى الشاهقة كالجبل،  والجليد – وأن تحلل إلى الصورة السائلة – والورقة،  وغير ذلك،  وهى تحيلنا إلى صور تجريدية / أشبه بالسريالية / الصورة والظلال / عبر ألوان الكتابة التى تكسر التوقع،  وتحيلنا إلى الدور الوظيفى للغة، والمعانى الإحالية الجديدة / الاختزالية / التخيلية / إلى اللا مألوف / اللا ترتيبى / ما بعد الحدثى،  وكأنها كتابة ما بعد حداثية تتنازعها الأصالة والمعاصرة عبر الحداثة الجديدة المفارقة لواقعنا المترهل / واقع الشعرية / ذواتنا / مجتمعنا / العالم الذى يحاول الشاعر أن يظهره بمواربة،  ويجدد من ثوبه المرتق / القديم.

إنه ديوان يهتم بالشكل والمضمون،  بالصورة عبر ظلالها وإحالاتها،  بالوجع الشهى الزاعق بالروح،  كما أنه يحيلنا لذواتنا التشاركية التى تشرك القارئ فى الحدث،  أو عبر التخيل،  لكنها الشاعرية متبداة على الطريق / الأوراق عبر إشاريات اللغة البسيطة / المفارقة / العميقة التى تمثل جودة متبداة وسموقاً باذخاً لقصيدة النثر العامية التى تبتنى – ولا تزال – لها مكان متأنق ومغاير فى مسيرة شعر العامية الباذخ، والجميل، صوت الشعب العربى الممتد من المحيط إلى الخليج عبر الكون والعالم والحياة.