في صيف "1981" 15 أغسطس، دعانا
الشاعر أحمد عبد
المعطي حجازی في
زيارته الصيفية للقاهرة
. إلى عيد ميلاد
ابنته "ذكرت لي فيما
بعد السيدة زوجته
سهير عبد الفتاح
أنها ترددت أمام
دعوة أمل بالتحديد
تخوفاً مما تعرفه
عن حدته في
المناقشة خاصة، وأن
المدعو معنا هو
الشاعر صلاح عبد
الصبور وزوجته وابنتاه"
ولم تكن
سهير تعرف أمل
جيداً حتى تدرك
أنه لا يمارس
حدته أمام الحقيقيين
من البشر، وأنها
في كثير من
الأحيان تبدو قناعا
صلبأ يخفي وراءه
قلبه المرهف
في هذه
الليلة كان أمل
في غاية الرقة
والعذوبة ، بل
وشديد الفرح بهذه
السهرة التي تضمه
مع شاعرين كبيرين،
صلاح عبد الصبور
- حجازي".
سأل أمل
صلاح عبد الصبور
عما ينشر في
الصحف حول إعداده
لأمسية شعرية عن
ابن الفارض فنفى
ذلك قائلا إنها
مجرد أخبار صحفية
.. ثم قاد الحديث
حول الأمسيات الشعرية
التي تقدم إلى
استفسار آخر حول
تلك المساجلات بين
صلاح والموسيقار محمد
عبد الوهاب الذي
أراد أن يغنی
لحناً لإحدى قصائده
.
فاختصر صلاح
عبدالصبور الكلام قائلا
إن هذه الأخبار
ضريبة الشهرة الاجتماعية
التي هبطت عليه
في السنوات الأخيرة،
لأنه صار مسئولا
ثقافياً، ورئيس الهيئة
العامة للكتاب ، وهكذا تحول
من شاعر كبير
إلى شاعر نجم.
سأله أمل
أن كان يضيق
داخلياً بمثل هذه
الضريبة فأجابه : طبعأ لكن
على من تقراً
مزاميرك "ولم يقل
یا داوود"
طلب صلاح
عبد الصبور من
أمل أن يسمعه
قصيدته الشهيرة "لا تصالح" ، رفض أمل
أن ينشد القصيدة
معتذرا بأنه في
حضرة شاعرين مثلهما
لا يستطيع نفسياً
إلقاء شعره ثم
راح ينشد قصيدة
صلاح عبد الصبور "أحلام الفارس
القديم"
دارت المناقشة
دورتها بين الحاضرين
ومنهم، جابر عصفور - بهجت عثمان
الرسام في دار
الهلال ، والذي
كان صلاح بنفسه
هو الذي دعاه
إلى السهرة حتى
فوجئنا بصوت بهجت
عثمان يعلو في
لحظة سُكر واضحة
. "انت بعت .. وبعت بمليم
يا صلاح"
ثار سلاح
وهب واقفاً معلناً،
ما الذي حصل
عليه ليُتهم بالخيانة
والبيع؟ ثم
ما الذي باعه
بالتحديد ؟ وثارت معه
السيدة زوجته سميحة غالب
معلنة ترددهم في
حضور مثل هذه
السهرة وما توقعته
من الجلوس مع
السوقة !
طرد حجازي
بهجت من منزله،
وحاول الجميع تهدئة
صلاح عبد الصبور
الذي شعر بالتعب
والإجهاد خاصة وأنه طول
اليوم كان خارج
المنزل في عمل
مستمر ، ثم
صعد إلى منزل
حجازي بالطابق الخامس
دون مصعد وقرر
النزول لشم بعض
الهواء وتهدئة أعصابه
قليلا واشتد عليه
التعب في الطريق
، فذهب إلى
مستشفى هيلوبوليس المجاور
لمنزل حجازي حيث
كانت الوفاة على
الفور.
بكي أمل
صلاح عبد الصبور
كأنة فقد أباه
، لكنه لم
يستطع أن يكتب
حرفاً واحداً خلال
مشاركات الاحتفال بالذكرى
، ذاكرا فيما
بعد - أن موته
كان رصاصة الرحمة أو
لعله حياته التي
كشفت في لحظة
عن جوهرها الحقيقي،
فرغم مأساوية أحداث
تلك الليلة الغريبة
شكل موت صلاح
عبد الصبور - نوعاً من الانتصار
للشعر وللحقيقة داخل
نفسية شاعر وصلت
في شفافيتها إلى
درجة عالية من
الصوفية ، وكأنه
صار بذلك حلاج
الكلمة ، وحلاج
الموت.
استغل بعض
الكتاب السهرة للهجوم
على اليسار ومحاولة
حصار المدعوين في
تلك الليلة واتهامهم
بقتل صلاح عبد
الصبور .. بل وصل
الأمر إلى حد
سوال السادات لحجازي
عن مقتل صلاح
عبد الصبور ، وكان ذلك
استغلالا رخيصا للرجل
وللموقف وللشعر والشعراء
.
بدأ امل
قصيدة إلى صلاح
عبد الصبور لكنه
لم يستطع استكمالها
وظلت كما هي
سطراً واحدا..
ترى هل
نقلب في سلة
الفاكهة
لنری کیف
دب إليها العطن؟
كتب بعد
ذلك قصيدة الطيور أكتوبر 1981ذاكرا أنها
مهداة إلى صلاح
عبد الصبور ثم
عاد بعد ذلك
ونحّي هذا الإهداء
جانباً .. وترك القصيدة
للعديد من التفسيرات
والطيور التي
أقعدتها مخالطة الناس
سرت طمأنينة
العيش فوق مناشرها
فانتخت وباعينها
فارتخت
وارتضت أن
تقاقئ حول الطعام
المتاح
ما الذي
يتبقى لها .. غير سكينة
الذبح
غير انتظار
النهاية
إن اليد
الآدمية . واهبة القمح
تعرف كيف
تسن السلاح
رأی
د. جابر
عصفور أن القصيدة
تعبر عن أحداث 6سبتمبر (1981) الشهيرة والتي
انتهت بقيام السادات
باعتقال أكثر من
1500 مواطن مصري من
كل الانتماءات السياسية،
وطرده للكثيرين من
أعمالهم ووظائفهم ، والتي انتهت
أيضا بفصل د
عبد المحسن بدر ود.
جابر عصفور من
الجامعة.
كانت قصيدة
الطيور في رأيه
هي قصيدة فراره
إلى السويد أستاذا
في جامعاتها.
رفرف
فليس أمامك
- والبشر المستبيحون والمستباحون:
صاحون
ليس أمامك
غير الفرار
الفرار الذي
يتجدد كل صباح
فسر صديق
آخر - أستاذً فلسفة
- القصيدة تفسيرا غربياً
. أعجب أمل بمنطقه
الفلسفي والذي راح
صاحبه ليلة طويلة
بحكي فيه عن
"المرأة الطائر" و"المراة الضفدعة" وكنت أغضب
أمام هذا التفسير
مرددة: هل تظن
أنني المرأة الضفدعة
أقاقئ حول الطعام
المتاح؟
يضحك أمل
بشدة مندهشاً: - كيف تحملين
سوء النية معى؟
في معرض
حديث أمل عن
صلاح عبد الصبور
وحجازي كان يؤكد
دائما أنه لا
ينتمي فكرياً وثقافياً
إلى جيلهما - هذا برغم
تأثره طويلاً بحجازي
- فجيلهما هو جيل
الانتصارات ، الانتصارات
على المستويين الوطني
والقومی بينما أمل
كان ينتمي إلى
جيل الهزائم الجيل
الذي بدأ احتكاكه
الفعلي مع الواقع
بمشاهدة المفكرين والمثقفين
والشعراء في المعتقلات
عام 1959 ، وبداية
انهيار المد الوطني
في ذلك الوقت
بالانفصال المصري السوري
1961.
كما أن
جيل صلاح وحجازي
هو جيل الشعارات
التي لم تطبق
فهو جيل نما
مع الاشتراكية التي
لم تكن قد
طبقت في ذلك
الوقت - جيل العداء
للاستعمار بشکله التقليدي
. لكن جيل أمل
نشأ وقد بدأت
الاشتراكية العربية تطبق
وبدأت آثارها السلبية
تظهر في المجتمع
.. إنه جيل الاشتراكية
بلا اشتراكيين .
في 1976 في فندق
وندسور أخرج أمل
قصيدة من جيبه
كان قد انتهى
من كتابتها، خطاب غير
تاريخي على قبر
صلاح الدين وراح
يقرؤها لي .أعجبتني
القصيدة فنياً على
الرغم من رفضي
لمنطق هجومها على
عبد الناصر والذي شكل
بالنسبة لي انتماء
فكرياً ووجدانياً .
قلت له
:
- لا أستطيع
أن أعجب بقصيدة
تدين عبد الناصر
.
قال :
إنني لا
أكره عبد الناصر،
ولكن في تقديري
دائماً أن المناخ
الذي يعتقل كاتباً
ومفكراً لا يصح
أن أنتمي إليه
أو أدافع عنه
.. إن قضيتي ليست
عبد الناصر حتى
ولو أحببته ولكن
قضيتي دائما هي
الحرية.