بطل الغروب.. الزناتي خليفة
نفس الفتى لابد من
زوالها
تِطوي عزيز ثم تطوي أرذالها
|
الأيام والدنيا سريع
زوالها
قولواواخراب الدار عقب اعتدالها
|
هل هذه آخر كلمات
الفارس الذي ظلَّ على جوادِه حتى غروبِ الروح، بطعنةِ رمحٍ غادرة، لا بضربةِ سيفٍ
صحيحة، موتٌ لا تشبهه حياة لرجلٍ لم تستطعْ سيرةَ خصومِه إلا أن تمجدَه فمن هذا
الرجلُ الذي أوقفَ، وهو في الرابعة بعد المائة جحافل الهلاليين؛ وحده حب الوطن..
فارسٌ بأمةٍ في زمنٍ فَسَدَ فيه كل شيء؟ إنه:
جالس على الكرسى
خليفة الغندور
بطل المغارب نعم وعنده شعور
|
راجل منظره يهيب
الأسوده
ياما فيه ناس حسوده وحقوده
|
(1)
"فاكر نفسك
الزناتي خليفة" تفاجئك هذه الجملةُ في كلِّ ربوعِ مصر، جنوبًا أو
شمالًا؛ فمن هذا "الزناتي" الذي صار مثلاً للعزة والاعتداد
والفتوة؟ يقول "أحمد شمس الدينِ الحجاجي": "هو أفرس
الفرسان"،ويستطرد: "هو عندي بطل السيرة الهلالية الحقيقي"،ويقول
"جابر أبو حسين": "أتى له بطل الفرسان.. يُسمَّى الزناتي
خليفة"،ويقول "السلطان حسن": ""سلامتك يا
أبو قدر عالي" ويقول "أبوزيد الهلالي":
اخلع الحربة من عين
السبع يا ديب
دا رجل ملو عين
الأعادي
خليك راجل حكمة وأديب
نعم بالطعن ربي أرادي
إنما البهدلة في نجعنا عار
دا راجل كريم وفيه الكفايه
دا راجل قاد في جسمنا نار
متى نشمت فيه ولا هو من الهفايا
|
(2)
"رجل وحيد في
عالم قد فسد" هكذا يكتب شمس الدين عن الزناتي؛ فهو العالم
الحافظ للقرآن، حياته مرهونةٌ بالدفاعِ عن بلده كما تقول شرائع السابقين إذ مهمةُ
الحاكم هي: "الذب عن البيضة، والدفاع عن النساء" يستيقظ "الزناتي"
ليصلي الفجر، ثم يعمر الميدان أولا منتظرًا من تخرجه له القرعة، لا يقف خلف جنوده
بل ينتصب وحده كجبل أشم أو كحصن منيع، في عالم أفسده الثراء فـ"العلام"
ابن عمه يريد تسليم "تونس" و"الوهيدي معبد"
يريد أن يتزوج من ابنته "عزيزة".. هنا وقف الزناتي صارخًا
في وجه جحافل الهلالية وانتكاسات أهله:
ابن مدكور بن شمخ بن
حمير
يقرا كلام الله
واحنا صغارها
|
(3)
تأتي جحافلُ الهلالية
لتجتاحَ "تونس" بأحلافها وأبطالها الذين عرفهم الناس في نجد ومصر
والعراق، وألفوهم وفخروا بأفعالهم، حتى "الجازية" أخت "السلطان
حسن" يأخذونها - من زوجها التي
أحبته، ومن أبنائها - من الحضر والنعيم،
إلى الترحل والشقاء، ويقف "الزناتي" وحيدًا ليدافع عن بلاده؛
فكأنه يردد: "الروم حيث تميل" يقاوم طعنات ثلاث: العدا، وخيانة
الأهل، وكبر السن:
ألا جولي في سن التمانين
ولاد عمي الدنيين
|
|
والكبر فاح من عيوني
أشور شورتي يخالفوني
|
فهل
استدعى الراوي الشعبي سيرة الإمام "علي" –
كرم الله وجهه - وهو يصرخ في جنوده: "فَيَا
عَجَبًا عَجَبًا، واَللَّهِ يُمِيتُ اَلْقَلْبَ، ويَجْلِبُ اَلْهَمَّ مِنَ
اِجْتِمَاعِ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وتَفَرُّقِكُمْ عَنْ
حَقِّكُمْ؛ فَقُبْحًا لَكُمْ وتَرَحًا حِينَ صِرْتُمْ غَرَضًا يُرْمَى يُغَارُ
عَلَيْكُمْ ولاَ تُغِيرُونَ وتُغْزَوْنَ ولاَ تَغْزُونَ ويُعْصَى اَللَّهُ،
وتَرْضَوْنَ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ اَلْحَرِّ،
قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ اَلْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا اَلْحَرُّ،
وإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي اَلشِّتَاءِ، قُلْتُمْ هَذِهِ
صَبَارَّةُ اَلْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا"
(4)
لماذا أتى الهلالية
إلى "تونس"؟ يقول شعراء السيرة إن "الزناتي"
انقضَّ على "جبر القريشي" وأخذ منه الملك؛ فاستجار القريشي
بالهلالية في نجد بعد أن اخترق المغرب العربي ومصر وشمال شبه الجزيرة العربية،
ويقول مؤرخون أنهم تحركوا بتحريضٍ من الفاطميين الشيعة الذين يحكمون مصر؛ لهدم
الدولة السنية الجديدة، وتزيد مرويات السير أن الجدب حل بنجد التي قطنها الهلايل،
ولم يكن أمامهم سوى تونس الخضراء، ويقولون
إنه في (الريادة) الرحلة الاستكشافية التي قادها أبوزيد، أسر أبناء أخته يونس
ومرعي ويحيى، ولهذا تحركت جيوش الهلالية لإنقاذهم.
لكن المصائر تكشف الخدائع؛ فالمثير حقًّا هو
إهمال السير لمصائر مسلوب الملك (القريشي) والمأسورين له (نساؤه وأهله) الذين قامت لأجلهم الحرب! (فلا ذكر له أو لأهله
بعد قتل الزناتي وسلطنة دياب. ثم ألم تقل روايةٌ إن يونس بقي لدي عزيزة،
ورواية بأن دياب قتلها، أما يحيى ومرعي فماتا أحدهما بلدغة ثعبان، والثاني متأثرًا
بجراحه من عبيد تونس، وتنسج لسعدى قصة حب مع مرعي.
ويبقى السؤال: ماذا
جرى لـ"جبر" بعد دخول "الهلايل" إلى "تونس"؟
هل أعادوا له عرشه؟!
(5)
قدر ومكتوب أن يُقتل
"الزناتي" على يد "دياب بن غانم الزغبي الأحمر"،
يعرفه "العلام" و"الوهيدي" و"سعدى"،
و"أبوزيد" و"السلطان حسن" و"الجازية"
و"دياب"..
ويعرفه "الزناتي"..
لكنه وحده يخرج لموته مناديا: "أين المقاتلين؟" عرفه أهله فقرر
بعضهم الاستسلام، وعرفه الهلالية فقرروا تقسيم الممالك والمقاتل:
تملك مداينها وتقتل
فوارسها
|
|
أما الزناتي فتتركه
للديب
|
والديب هو "دياب
بن غانم" الذي رغم قوته، وشجاعته فإن السيرة تحتفظ له بصفات تنزع عنه
الفروسية والرجولة، وفي هذا يميل البعض إلى تفسيرات عدة منها، أن الرمل (آلة
النبوءة) أخبرت بأنه لن يقتل "الزناتي" إلا دياب بن غانم، ويقول
النسابون إن "الزناتي" ودياب ينتميان إلى قبيلة واحدة؛ الزغابة..
وهذا هو الحل الأنسب لعدم نشوب صراع بين أحلاف الهلالية المكون من أربعة متحالفين؛
بني هلال، وبني دريد، وبني سليم، وبني زغبة.. أما إن قتله أبوزيد مثلًا
فحلف الهلالية نفسه معرض للانقسام، وهكذا يتجه الهلالية إلى تونس من نجد مرورا
بالعراق، ويصحبون في رحلتها أميرها: "الخفاجي عامر" ومن مكة
يكونون قد التقطوا غدرًا "الجازية الهلالية"(ثُلث الشورى) - من زوجها "شكر" شريف مكة -
التي تركت زوجها وأبناءها في تضحية نادرة وعجيبة ومخالفة لسيرة العرب أجمعين..
(6)
يصلون إلى أسوار تونس
يحجزون "دياب"
يرعى الجمال في ليبيا
بثقة يتحكون للاستيلاء
على الخضراء
لكن
يقف "الزناتي"
فينقلب كل شيء على عقب، فلا يصبح هو البطل المضاد أو البطل الشرير، بل يختفي بطل الهلالية
"أبوزيد" من المواجهة ويبدأ في تدبير مقتل "الزناتي"،
ولا تعدم السيرة أن تصنع مواجهة بين "الزناتي" و"أبوزيد"
ينتصر فيها الأخير لكنه لا يقتله، ويتوارى عن صهوة الجياد فيما يخرج "الزناتي"
بطلا أسطوريًّا يحمل قدره وحلمه..
(7)
ضِدَّانِ لَمَّا
استُجمِعا حَسُنا
|
|
والحسنُ يُظهرُ
حسنَه الضدُ
|
هكذا هي العلاقة بين "الزناتي"
وأبوزيد، فالزناتي يحبه كابنه ويتمنى لو كان معه ليعارك الدنيا كلها:
أنا أحب أبوزيد يا
بِتِّي وأكرهه
كما الناقة متحبش فراق عيالها
أحب أبوزيد يكون أخويا ولَّا ابن عمي
كنت أقسم الدنيا
وأعارك قبالها
|
فيما يراه أبوزيد بطلا
حرًّا:
"يا عم خليفة
صباح الخير
يا غندور يا بو تنا زين
ياللي حاميها شمال ويمين
|
|
يا قاري حروف
الهجايه
يا حامي حمى الصبايا
صباح الخير يا زعيم الغروب
|
يا
للي في الحرب عمرك ما تصبح مغلوب
|
من هنا يصبح عصيًّا
على السيرة أن تجعل "أبوزيد" يقتل ""الزناتي""،
وإلا تشوهت فروسيته؛ فهذا شيخٌ طاعنٌ في السن تجاوز المئة بأربع سنوات في رواية،
واقترب منها بست سنوات في رواية أخرى، أربعة عشر عامًا على صهوة جواده، دون
ابتسامة، أما نومه فمملوء بأحلام الدفاع عن مدينته الحلم تونس الخضراء..
لا يقتل "أبوزيد"
""الزناتي"" خليفة كي لا يشب صراع دائم بين الحفدة من
أسيوط حتى جنوبي "قنا".. لن يقتل ""الزناتي""
إلا أحد أبناء عمومته فكلاهما زغبي.. لكن من يجتمع فيه القرب والخيانة معًا؟
غدرني زماني بابن
"رزق سلامة"
يا مين يقتل لي "الهلالي
سلامة"
|
قطع لمتي وخلى
العزيز اتهان
لنقسم معاه الغرب ست كيمان
|
(8)
الذئب التائه
إنه "دياب بن
غانم"، محاربٌ بلا قلب ولا ضمير، يبقر بطون الحوامل، يمثل بضحاياه، يشعر
دائمًا أنه أفضل من "أبوزيد"، وأحق من "السلطان حسن"،
ألم يترك "أبوزيد" مريضًا عاجزًا عن الحركة في هودج على جمل سرقه
اللصوص؟ نعم ترك الفتى "زيدان" وحده في الصحراء، وقد سُرِقَ منه
خالُه، ولم يكتفِ بهذا بل ذهب إلى الهلالية مطالبًا بالعرش وإلا قتل السلطان "حسن"
وهكذا بدأت سلطنة "دياب الكدابة" التي انتهت بعودة "أبوزيد"،
الذي لحسن الحظ أهدى اللصوص العقيليون الجمل بما حمل إلى "عالية العقيلية"
عاشقة الهلالي؛ فأتت له بطبيب، ولو علمت فهي دواؤه العسل.
وسيكون له بعد "الزناتي"
أن يثبت أنه ذئبٌ هجامٌ؛ فسيستولي على عرش "تونس" ويجبر "السلطان
حسن" و"الهلالية" على دخولها تحت رمحها، ومن لا يعبر
تحته يُقتل، ثم سيقتل "السلطان حسن" وفي رواية سيقتل "أبوزيد"
نفسه.
أربعة عشر عامًا،
و"الزناتي" يخرج من باب تونس ينتظر أن يأتي الهلالية، وينتظر من
تخرجه القرعة؛ فيكون قتالٌ يطولُ أو يقصرُ لا فرقَ فـ"الزناتي"
ينتصرُ؛ حتى لو جُرحَ، فهم يزعمون أن أمَّه جِنيةٌ، وهبته صفاتٍ خارقة، وأن جرحه
يطيب بالندى:
"أبو
ضلع واحد كما اللوح جرحه يطيب ع الندى"
لكن الحقيقة أن "الزناتي"
يواجه اختبارات صعبة يومية، ينزل الميدان كأنها المرة الأخيرة، وما إن تغرب الشمس
حتى يعود ليرى أحوال بلده ونساءها وشيوخها.
لكن ما الذي سيجعل
الذئب يترك منفاه الذي صار عزلته؛ فقد تركه الهلالية يرعى الجمال في واد بعيد "وادي
غدامس" تاركًا الهلالية يتساقطون تحت فرس "الزناتي"،
وأمام أسوار تونس.. سببان؛ تذلل الهلالية وقبولهم كل شروطة المهينة.. لكن السيرة
تتوسل له بسبب يجعله فارسًا؛ إنه "الغضب النبيل" من أجل صديقه
"عامر الخفاجي" الذي قتل غدرًا بعلم "الزناتي"،
وبمشاركته.. كيف؟
(9)
تُخرج القرعة "عامر
الخفاجي" الملك العراقي المشارك في الغزوة؛ ردًّا لجميل "أبي
زيد" الذي شارك في حرب الدفاع عن العراق، أو سعيًا خلف "وطفة"
بنت دياب" التي خطفت قلبه.
يعرف الجميع أن
الخفاجي هالك؛ فالرمل قال "إن دياب بحربته هو القاتل" ويبدو أنه
لم تكن هناك قرعة.. بل خدعة.. يُدفع فيها صديق "دياب" وهنا يأتي
الزغبي بحربته..
تبدأ المبارزة
الزناتي والخفاجي
يتمكن "الخفاجي"
في الجولة الأولى من جرح "الزناتي" الذي يكابر وينزل الميدان
اليوم التالي، ولأن "الخفاجي" لم يكن قد نزل بعد ينادي الزناتي: "زناتي
قال أين المقاتلين" وقد وافق على خُدعة خططها ابن أخيه "المطاوع"
تمكنه من الانتصار على أمير العراق الخفاجي الفارس حافظ المنهاج الذي تورط في
معركة لا ناقة له فيها ولا جمل، والذي دفعته "الجازية" ليكون
مقتله دافعًا لإثارة صديقه "دياب".. تبدأ المعركة وينفذ "الزناتي"
دوره في الخطة المحكمة، يقاتل ببراعة، ثم يتراجع بعد أن يلقي على "الخفاجي"
"حملة رهيفة" فيتفاداها، ويندفع خلف "الزناتي"
حتى يدخل حدائق تونس، ويتجاوز الكمين المختبئ، ويظهر فجأة من خلفه "المطاوع"
(ابن اخي "الزناتي") وعشرة من الشبان، فيطعنه في ضلعه الشمال
برمحٍ ليسقط صريعًا، وهنا يعود "الزناتي" صارخًا: "العز
لعرب الزناتة.. لآل حمير"
حتى لحظة القضاء على
أصعب الخصوم وبالغدر؛ فالنصر ليس للفرد بل للجماعة.
(10)
يأتي "دياب بن
غانم" بعد أن يذل قادة الهلالية باستعطافه والنزول على شروطه –
فـ"الزناتي" قتل تسعين بطلًا منهم - وينزل واثقًا من النصر
محكومًا بنبوءة: "دا اللي عليه الرمل قال" لكن "الزناتي"
يقاتل ويستطيع وفق روايات جرح "دياب بن غانم" في قدمه؛ ما يدفع
"أبوزيد" للشك في كذب الرمل؛ فالأطباء عاجزون عن علاج "دياب"
من الجرح المهلك: "والطباية تيجي وتروح وسط عرب الجمال... أمال ياك الرمل
علينا كداب. ما هود الأمير دياب ... اللي يِكْتل الزناتي خليفة".
لا حل إلا بمعجزة،
والمعجزة هي إحضار الترياق، والترياق هو خرزة
"سمعان" اليهودي؛ لذلك يذهب "أبوزيد"
ليحضر الخرزة ويعالج بها "دياب"، وتبقى عقبة القتال في السراديب
التي تعود عليها فرس "الزناتي"؛ فيقوم "أبوزيد"
بتدريب فرس "دياب" حتى تتقنها.
(11)
هي اللحظة –
كما قالت النبوءة – يخرج "الزناتي" من باب تونس فيجد خصمه متأهبًا على فرسه.. سبقه
إلى الميدان هو ورجاله..
خليفة قال له
ايشمعنى النهاردا
وهي العربان واردة
|
|
أربعتاشر سنة وانا
أجيكم
محدش أتى قبلي فيكم
|
وحين يسأل "الزناتي"
عن هذا يجيب "دياب" بأن هذا اليوم هو اليوم الذي سيقتله فيه :
أصل النهاردا حمولي
تقال
النهاردا اللي عليه الرمل قال
|
|
علي ايدي ينجر
الزناتي
رايح أغدرك يا زناتي
|
هنا يرد "الزناتي"
ساخرًا ومهاجمًا وسابًّا؛ فالغيب بيد الله ومن علمه:
والله انت كداب
والرمل كداب
يا مجنون عقلك في راسك يا كداب
أنا عمري في يد الله
هل عندك بموتي أدلة؟
|
|
ولا تعرف اللي يصيبك
ليه تنسى ياواد أمر سيدك
مش ضامنة يا ولد غانم
وهتنام على فرش ناعم
|
إن هذا الحوار كاشفٌ
عن صراعٍ بين قيمتين؛ فـ"الزناتي" رافض لما يقوله الرمل رغم
معرفته له، ودياب مؤمنٌ بحتمية ما يعرفه، ولست أدري أهذا لأن النبوءة توافق هوى
دياب فقبلها، أم لا أنها تقول بما يكره "الزناتي" فيرفضها؟
أدياب قال له إن شاء
مولاك
أهو دا معادك وجبناك
|
|
النهاردا حافقد
حياتك
وتفهم كلامي بذاتك
|
يحاول "الزناتي"
أن يدفع بالعقل ما يعرف بالقلب أنه حادث، ألم يحلم بذلك؟ ألم يتحدث عن سكن القبور
بعد القصور؟:
افرض ما نزلتش من
فوق
ولا ركبت هذي الركوبة
ياللي ع كلمة مكتوب
كان تعمل ايه في هذي العجوبة
افرض النهاردا أنا مجتش للحرب تقتل مين كان يا بن غانم
عشان أوري لك الكدب والضرب وتشهد بنات الهوانم
|
لكن دياب يعرف أن
الرمل لم يخلق الحدث ولم يختلقه، وإنما فقط تنبأ به، وما لم يعلمه دياب أن "الزناتي" نفسه حلم
بموته، وأن كل من حوله يعلمون أن نهايته ستكون على يد دياب:
قالوا دياب يجي لك
وعدك
غصب عنك راح تجي له
حتى ان مكنتش مواعدك
انت تنزل وحينقضي بك
|
يحاول الزناتي أن
يفرَّ؛ فيأخذ وعدًا من دياب بألا يقاتله إلا إن ناداه باسمه، ويقسم له دياب على
ذلك:
قال له دياب احلف لي
بيمين
إن ما ندهتني باسمك ما أجي لك
ونشوفوا فينا الكادب مين
يا دياب يا حلو جيلك
ادياب قسم له وتمم بالأيمان
يا خليفة يا سبع جيلك
والله إن ما ندهتني باسمي وبان
لا أنزل حرب ولا أجي لك
|
يتفق الخصمان على عهد؛
لا يقاتل دياب الزناتي إلا إن ناداه باسمه بشكل ظاهر واضح، يصنع خليفة هذا (سياسة)
فهو يريد أولا أن يقتل عددًا من فرسان دياب؛ فيخفف الهجوم على تونس وفرسانها،
وينطلق خليفة يجندل المقاتلين، الذين تحولوا بفضل براعة الزناتي إلى بشر عاديين،
وإن علينا الآن أن نقف أمام تشبيه فريد في نص جابر أبوحسين: "عساكر كأنها
خلايق".
تشتد الحرب، ولا يجد
خليفة من يقف أمامه، ولا يقاومه؛ لهذا يسكر دون خمر، ينتشي، فيصرخ ناسيًا نبوءة
الرمل، ورسالة الحلم، وينادي، على دياب باسمه:
سِكر ولد مدكور بلا
كيف
سِكر في الزغابة بلا كيف
خَدهم خليفة بضربات
ادياب نِسبه للعهودات
لما سخن أبو سعده
وسوق البلاوي واسع ده
مع فرحته محدش واقف معاه
شوف السبب لما راد
مولاه
|
|
ونزل قتل في الخلايق
عساكر كأنها خلايق
ما فيه راجل واقف قباله
لليمين واخد لي باله
واشتغل السلاح اليماني
وبهدلهم شمال ويماني
العقل منهم يجين
قال أين رئيسكم
يجيني
|
في تلك اللحظة يركب
دياب فرسه، ويقول للزناتي إنه آت لقتله..
رئيسكم دياب راح فين
في الراجل لا أخد ألفين
ادياب طرد الفرس جاه
اسمنا ذكر وسمعناه
|
|
زغبات مالكم ومالي
خدهم يمين وشمالي
لبيك يا اللي تنادي
أنا الزغبي أديني
|
لكن الزناتي لا يخاف
ولا يتراجع، بل ينادي بثقة، ويذكره بأنه
قتل الكثيرين:
قال له تعال يا
مرحبا بيك
لاحرق جدودك وأربيك
|
كام زيك ويتم عياله
أدي الحرب واهو ده مجاله
|
تشتعلُ الحرب ثانيةً
لمدة يومين متواصلين هذه المرة، وفي النهاية يوجه له الزناتي ثلاث ضربات بالرماح،
لا تصيبه إحداها بل يمسك بالثالثة مستهزئًّا: "ثلاث طعنات من اليد، ولا
واحده ف قلبي صابت، أصلها الطعنات مش جد"
يلتحمان، ويستطيع دياب
أن يجعل فرسه تشاغل فرس الزناتي، ثم يعتدل مصوبًا "حربته ذات المنشار"
فتصيب الزناتي في عينه.
اتعدل دياب يعدل
ويندار
شيع الحربه بشرشار
|
|
نار البلا مولعينه
عدت للزناتي في عينه
|
يسقط الزناتي لا عن
ضعف ولا عن قوة خصم، بل بتضافر أسباب عديدة على مدى السيرة، فمكايد أبي زيد لم
تنتهِ، وخيانات أبناء عمومته لم تتوقف، وتوالي موجات الغزاة أوهن صخرته، وفتها.
يسقط الزناتي ويمعن الذئب في إذلاله؛ فيثبت
الحربة في وجهه، ويسحبه حتى خيام الهلالية.. هنا يحاول سادة الهلالية أن يخففوا
مما فعله؛ فيندفع أبوزيد مبعدًا رمح دياب عن عين الزناتي رافضًا التمثيل بجسده:
"ابعد الحربة عن عين الراجل يا ديب" ويحتضنه السلطان حسن، وتدعو
له الجازية بالسلامة، لكن الزناتي يحزن لهذا القُرب الموجع:
من كتر المحنا وقعنا
ع الجفا
ادياب يطعني وحسن يلمني
|
|
وخدنا من دار العدو
حبيب
وأبوزيد يعمل لي للجروح طبيب
|
يقول لهم في اللحظات
الأخيرة إن قتله جاء بتدبير أبوزيد لا برمح دياب، وأنهم لن يهنأوا بأرض اغتصبوها:
يا بني هلال اسمعوا
مقالي
ياما الزمان يوري عجيب
اعطوا شكرانكم للهلالي أبو زيد
اوعوا تقولوا سبع الغرب قتله ديب
|
إن اللحظة الأخيرة
والكلمات الأخيرة لا تتحدث إلا عن فراق الوطن الصعب، ويفوِّض الفارس أمره لله عز
وجل:
تملى بها يا أبو علي
بعد ناظري
طابت لكم بس الفراق صعيب
مادام سبعها يا أبوزيد منها رحل
أقسم بربي الفراق صعيب
أمري لمن أنشأ الخلايق من عدم
إلهي تعالى حاضر وليس يغيب
|
أرسل الهلالية إلى أهل الزناتي ليأخذوا جثته
وضعوه في خيمة..
دخلت عليه "الجازية" سافرةً
وجهها على عادتها؛ فقد كانت تخالط الرجال دون حجب وجهها..
وجدته فارسًا مهابًا كأنه في ريعان الشباب ووسط
الفتوة، حتى إنها أخفت وجهها عند رؤيته، وهى التى لم تكن تتحجب من رجل مهما كان
قدره!
ويقال إن لعنة "الزناتي"
طاردت كل من هاجموه فقتلوا جميعًا شر قتلة..
هل سقط "الزناتي"؟
وهل انتصر "دياب"؟ وهل طابت الأرض للغزاة؟ لماذا أكل أبطال
الهلالية أنفسهم؟ ولماذا توقف الحديث عن "تونس" بوصفها جنة الله
في الأرض منذ قتل "الزناتي"؟ لماذا أظلمت تونس على لسان رواة
السيرة؟ هل كانت روح المقاتل الشريف هي التي تعطيها هذه العزة:
"أنا
البطل الزناتي ... أنا النسا يغنوا وراي
للوطن
بايع حياتي"
فسلام
الله على روحك الطاهرة يا زناتي.