الأرقام الخادعة .. فساد وإفساد
بقلم – د. نادر نور الدين
فى عام ٢٠١٠ استدعاني مكتب رئيس الوزراء الأسبق د. أحمد نظيف وسألني أمين مجلس الوزراء عن كيفية التحقق علميا من المساحات المزروعة من القمح، فالأرقام الرسمية الصادرة من وزارة الزراعة عن حجم محصول القمح مبالغ فيها ولا تتماشي لا مع وارداتنا من القمح ولا مع استهلاكنا الكلي من القمح المقدرة بناء على استهلاك الفرد من القمح سنويا في مختلف المجالات ولا تتماشي أيضا مع حجم المورد من القمح للدولة!. وفي أثناء ولاية الدكتور خالد حنفي لوزارة التموين فوجئنا بالتهويل الكبير الذي يعلنه وزير التموين عن الحجم المتوقع من محصول القمح ومفترض أنه أمر لا يخص وزير التموين ولكن يخص وزير الزراعة ولكن مع توالي فضائح التوريد الوهمي للقمح تبين أن سبب المبالغة هو الاستعداد للمبالغة في كمية المحصول المورد رسميا للدولة وسرقة مليارات الجنيهات المصرية من كد وتعب فقراء مصر، وبالتالي كانت المبالغة في كمية المحصول حكوميا ووزاريا سببا في سرقة المال العام للدولة وتيسير الفساد للفاسدين ولو كنا التزمنا بحقائق الأمور ماخلقنا فسادا ولا استغل الفاسدون الموقف.
فمنذ ولاية الدكتور أيمن فريد أبو حديد بدأ التلاعب في الأرقام والعبارات والحديث عن الاكتفاء الذاتي من قمح الرغيف المدعم في بدعة ليس لها مثيل في العالم حيث يكون الحديث دوما عن نسب الاكتفاء الذاتي من القمح في مختلف المجالات خبزا ومكرونة ودقيقا وحلويات ومخبوزات أفرنجية حرة وحكومية وغيرها، ثم جاء الوزراء التاليون له بالسير في نفس الاتجاه خوفا من اتهامهم بتراجع المحصول في عصرهم إلى أن وصلنا إلى إبداع وزير التموين خالد حنفي وتدخله في الأرقام المتوقعة للمحصول وللتوريد ومن قبله الوزير الإخواني باسم عودة الذي ذهب بأمر مكتب الإرشاد ليفتتح موسم حصاد القمح في الحقول (وليس موسم توريد القمح) والذي من المفترض أن المنوط بافتتاحه هو وزير الزراعة وقتها ولكن في عهد الإخوان كان يسند الأمر لوزراء مكتب الإرشاد فقط وأصحاب السمع والطاعة. وللأسف نكتب ومنذ سنوات عن عدم موضوعية المحصول السنوي الذي تعلنه مصر رسميا ويتجاوز ٨ ملايين طن سنويا وأن إجمالي استهلاكنا من القمح يصل إلى ١٥ مليون طن سنويا وبذلك فمن المفترض أن تستورد مصر ما لايزيد على ٧ ملايين طن سنويا ولكن حقيقة الأمر أن مصر تستورد ١٢ مليون طن بما يوضح تزوير الأرقام وعدم دقتها.
وفي عام ٢٠١٠ كتبت مقالا أسأل فيه وزير الزراعة وقتها أمين أباظة خريج كلية السياسة والاقتصاد والهابط بالبراشوت على وزارة الزراعة، ومثلما يحاول حاليا أحد خريجي كلية حقوق بإيهام الجميع بأنه خبير زراعي لأنه قام بتصدير “قفصين طماطم” إلى فرنسا مثلما كان أمين أباظة صاحب محلج للقطن فأصبح وزيرا للزراعة فالأمور في مصر سهلة وسبهللة ومسئولونا يسهل خداعهم بسهولة، ولا فرق بين الخبراء العالمين بدراسةالتخصص وأبحاثه وحديث علمه وبين المدعين النصابين الساعين إلى المناصب سرقة واستيلاء وما أسهل خداع رؤساء الوزراء في مصر ويستثني من الأمر المنوفي الأصيل المفكر كمال الجنزوري. المهم سألت وزير الزراعة عن السبب في أن إجمالي حجم توريد القمح لا يزيد على ٣,٥ مليون طن سنويا بينما وزارة الزراعة تدعي أن المحصول ٨ ملايين طن فأين يذهب الباقي؟! كان رد الوزير غير موضوعي وأدعى أن الفلاح اعتاد على توريد نصف محصوله فقط للدولة والاحتفاظ بالنصف الثاني لإطعام أسرته ومواشيه، فقلت له دعنا نحسبها لأفند أن كلامك مجرد ادعاء غير صحيح، ففدان القمح يعطي ١٥ أردبا وسعر الإردب وقتها ٢٤٠ جنيها ونفترض أن الفلاح يورد نصف المحصول أي ٨ أرادب فيكون دخله لا يتجاوز ألفي جنيه لا تمثل نصف قيمة إيجار الفدان بخلاف باقي المصروفات من التقاوي والأسمدة والمبيدات وعمال زراعة وعمال حصاد ودراس وتعبئة وسولار وخدمة أرض وغيره، ولا أدري من أين سينفق الفلاح على أسرته وعلى زراعته القادمة التي تلي القمح للزراعة الصيفية ومن أين سيأتي بفلوس الإيجار وشراء التقاوي والأسمدة والمبيدات وأجور العمالة طالما أن الوزير لا يخاطب عقل الخبراء.
ومنذ موسمين ومع بداية عقلية وزير تموين آخر ظن نفسه أنه قادر على خداع الجميع ولولا تصدينا له لكان له شأن آخر في الدولة ولكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح. ادعي الوزير العبقري خالد حنفي أن المحصول سيتجاوز ٩ ملايين طن هذا العام وهو أمر نراه علميا مستحيل الحدوث ولا بد من التصدي له، لأننا قرأنا مايخطط له من تسهيل الاستيلاء على مليارات الدولة. قلنا للوزير تعال نحسبها فالمساحة المحصولية للزراعات الحقلية في مصر لا تتجاوز ٦ ملايين فدان فقط بخلاف ٢,٥ مليون فدان للزراعات المستديمة من محاصيل الفاكهة وقصب السكر والخضراوات والطماطم والبطاطس والبصل والثوم التي تدخل مطبخ ٩٠ مليون مصري يوميا ومعها توابل الصعيد والنباتات الطبية والعطرية. وطبقا للبيانات الرسمية فإن مصانع بنجر السكر تتعاقد حاليا مع الفلاحين لزراعة نحو ٤٥٠ ألف فدان سنويا من هذه المساحة المحصولية البالغة ٦ ملايين فدان فقط لصالح مصانع السكر، كما أن مصانع البيرة ومصانع الجيل الثاني من مشروبات الشعير الخالي من الكحول وبطعم الفواكه تتعاقد أيضا مع الفلاحين في الموسم الشتوي على زراعة ٣٥٠ ألف فدان من الشعير ثم مساحات زراعات الفول تبلغ نحو ١٥٠ ألف فدان وسيبك من العدس والحمص والكتان وبلاش نحسبها وبذلك تبلغ هذه المساحات مليون فدان تستقطع من الستة ملايين المخصصة لزراعة المحاصيل الحقلية ليتنافس عليها القمح والبرسيم. ومن المعروف أن الفلاح يزرع لمواشيه قبل أن يزرع لنفسه وبالتالي فدوما تزيد مساحات زراعات البرسيم عن زراعات القمح لأنها تزيد من عائد الفلاح من البيع اليومي للبن والزبدة والجبنة وغيرها بالإضافة إلى أن ارتفاع أسعار اللبن واللحوم في مصر يدفع تجار مزارع التسمين وتجار اللبن إلى دفع مقدمات زراعة عالية للفلاح ليزرع لهم البرسيم بالإضافة إلى أن عائد زراعة البرسيم يفوق عائد زراعة القمح بمرة ونصف على الأقل، ولكن دعونا نلغ عقولنا وحساباتنا والفلوس التي هي رزق الفلاح وصالحه ونفترض أن الفلاح سيزرع القمح وطنية وبالتساوي مع القمح وبلاها لبن ولا جبنة ولا زبدة ولا فلوس زيادة، وبالتالي فإن أقصى مساحة زراعة للقمح لن تزيد عن ٢,٥ مليون فدان ومثلها للبرسيم. وطبعا “ينط في عبك موظفين الوزارة” ويدعون أن هناك أيضا نحو ٢٠٠ ألف فدان للبطاطس والبصل تدخل بعد حصاد المحصول في يناير في زراعة القمح وهذا غير صحيح لأنه يزرع برسيما أفضل ليعوض انهاك التربة من البطاطس ويعيد إليها خصوبتها كما أن زراعات القمح تنتهي بنهاية ديسمبر، لكن ماشي ياعم ونضحك على نفسنا ونصدقك ونقول إن المساحة المنزرعة قمحا ستصل إلى ٢.٧ ملايين فدان والبرسيم ٢,٥ مليون فقط لأنه وحش وبيكسب. يعطي محصول القمح كمتوسط عام في مصر أراض قوية مع صحراوية مع مالحة مع مطرية ١٥ إردبا للفدان وزن الإردب ١٥٠ كيلوجرام أي ٢.٢٥ طنا للفدان مضروبة في مساحة زراعة القمح السابقة مابين ٢,٥ إلى ٢,٧ فيكون أقصى محصول نتوقع إنتاجه من القمح في مصر بين ٥,٦ مليون طن إلى ٦ ملايين طن وهي المرة الوحيدة الصادقة والتي أعلن فيها أنه محصول مصر من القمح لا يتجاوز ٥,٥ مليون طن كان عام ٢٠١٢. من هنا كان من المنطقي أن يكون التوريد ٣,٥ مليون طن وتحتفظ منازل الفلاحين بنحو ٢ مليون طن سواء لها أو لمصانع المكرونة وإنتاج الدقيق والفينو والبيع للتجار ويسير الأمر منطقيا مع وارداتنا من القمح البالغة ١٢ مليون طن وإجمالي استهلاكنا البالغ ١٥ مليون طن سنويا.
الأرقام الخادعة وصلت بنا إلى إدعاء وزير التموين في عام ٢٠١٥ إلى أن وزارته تسلمت ٥,٥ مليون طن من القمح في تزوير فج وطفرة توريدية ليس لها مثيل والقفز من المعتاد خلال خمس سنوات بتوريد ٣,٥ مليون طن فقط إلى هذا الرقم المزور الجديد دون أن تعلن الدولة عن حدوث زيادة في مساحات زراعات القمح أو استخدام تقاو عالية الإنتاجية أو مضاعفة إضافة الأسمدة وبالتالي كان التزوير فجا وعبيطا ولكنه اعتمد على أن كل شئ يمكن أن يمر وأن فوبيا القمح لدي المصريين ستفرحهم بهذا التزوير وأن مبالغات الزراعة في المحصول ستخدم أكبر عملية سرقة ونهب في تاريخ مصر. في العام التالي ٢٠١٦ تراجع التوريد للقمح إلى ٤,٥ مليون طن قمح لأن الجهات السيادية استدعتنا ومعنا العديد من الخبراء وسألتنا عن أسباب الطفرة التوريدية للقمح وأوضحنا لهم التزوير والتربح الفاحش الذي يقوده مسئولو التموين وبالتالي كانت الأوامر بعدم المساس بالقمح المورد هذا العام إلا بعد إجراء الجرد في نهاية موسم التوريد ومطابقة الموجود بالشون والصوامع على المبالغ المدفوعة من الدولة وعلى المدون في دفاتر الاستلام فكانت الفضيحة المدوية والتي للأسف أدت فقط إلى الإطاحة بوزير التموين دون محاكمته رغم محاكمة وزير الزراعة صلاح هلال على تربح كام بدلة على اشتراك نادي ورحلات عمرة وكلام خايب لا يمثل نقطة في بحر في مليارات وزارة التموين ولا أدري سبب السكوت عن الأمر حتى الآن.
ومن الزراعة إلى البيئة والذي يدعي وزيرها بأنه نجح في عقد مؤتمر دولي للبيئة في مصر ستحضره ١٩٦ دولة في إنجاز غير مسبوق!! ومبلغ علمنا بأن عدد دول العالم لا يزيد على ١٩٥ دولة فقط ولا نعرف أي مؤتمر في العالم مهما علا شأنه وقدره ولا حتى اجتماعات منظمة الأغذية والزراعة التي تدعو إليها رؤساء الدول كل عدة سنوات تحقق اشتراكا لجميع دول العالم وبزيادة شوية!! والله عيب!! ومع نفس الوزير الذي خرج على الجميع بعد غرق صندل خام الفوسفات في النيل في العام الماضي بأنه يطمئن المصريين بأن الفوسفات غير ضار بمياه الشرب وأن هناك دولا في العالم تقوم بإلقاء الفوسفات في مياه أنهارها لتحسين مواصفات مياه الشرب والزراعة ياعيني ياعيني على الكلام الفاضي وعلى الوزير الذي أقسم بأنه لن يكذب ولكنه جعل نفسه في موضع تندر.
ونعود إلى وزارة التموين وتخطيط وزيرها المستقال لتمكين تجار الأرز في مصر من الاستيلاء على محصول الأرز كاملا وعدم ترك أي حصة للحكومة لتخضع بعدها لأسعار التجار وليتحكموا في أسعاره بعد أن أصبحوا بلا منافس. أعلن الوزير في تلاعب بالأرقام بـأن الوزارة حددت أسعارا لاستلام الأرز من الفلاحين بسعر ٢٤٠٠ جنيه الطن وادعي أن الرقم شارك فيه الخبراء ونقباء الفلاحين، ثم تبين عدم صدق هذا الأمر كلية وأن الوزير اتفق مع تجاره فقط على السعر ورفضته جميع نقابات الفلاحين التي ادعى الوزير سابق موافقاتها ومشاركتها في تحديد هذا السعر! وقلنا وقتها إن الفلاحين سيرفضون التوريد للدولة وأن التجار سيزايدون على أسعار الحكومة وهو ماحدث واشتروا الأرز من الفلاحين بسعر ٣٢٠٠ – ٣٤٠٠ جنيه للطن وطالبنا من الدولة مسايرة التجار ورفع السعر إلى ٣٥٠٠ جنيه للطن أي ٣,٥ جنيه للكيلوجرام فرفضت والنتيجة أن ذهب الأرز كله للتجار وأعلن وزير التموين السابق اللواء المصيلحي بأن رصيد الوزارة صفر من الأرز وبالتالي اشترت الدولة الأرز من التجار بسعر ٦,٥ جنيه للكيلوجرام وهي التي رفضت شراءه من الفلاح بنصف هذا السعر، بالإضافة إلى استيراد الأرز الهندي قليل الجودة بثمانية جنيهات وفشلت في تسليمه للمواطنين على بطاقات التموين بسبعة جنيهات وهاهي الآن تعرضه على التجار بسعر خمسة جنيهات فقط للكيلوجرام وهو مايستلزم تحقيقا في إهدار المال العام.
التلاعب في الأرقام تم أيضا في وزارة الزراعة والتموين لتمرير دخول قمح الإرجوت وبتركيز للفطر الخطير بما لا يتجاوز ٠,٠٥٪ وادعوا أن هذا رقم عالمي وأن أغلب دول العالم تسمح بهذه النسب وتبين عدم صحة الأمر كليا وأن أغلب دول العالم ترفض استيراد قمح الإرجوت المضر بمحصول الحبوب وأن مصر نفسها تستورد القمح الخالي من الإرجوت منذ خمسين عاما ولكن للأسف تم التمرير بعد تبادل الاتهامات بين الزراعة والصحة والتموين وعدم دراية وزير التموين السابق بأمراض الحبوب وأخطارها وصفاتها لأنهم يعتبرون وزارة التموين وزارة غير متخصصة وبغير علم وينفع فيها القادم من البريد أو الحاسب الآلي أو الأكاديمية البحرية أو ضباط الشرطة والجيش والنتيجة فضائح تموينية لا تنتهي لم تكن تحدث وقت تولي الزراعيين لمسئولياتها مثل أحمد جويلي وأحمد نوح وحسن وخضر وغيرهم.
ستة عشر مصنعا للزيوت في مصر ومع ذلك نستورد ١٠٠٪ من احتياجاتنا من زيوت الطعام مع أن الأراضي المصرية خالية في الموسم الصيفي وتسمح بزراعة عباد الشمس وفول الصويا والقطن لنحقق اكتفاء ذاتيا من زيوت الطعام لو توافرت الإرادة السياسية والاعتداد بفكر أهل العلم والخبرة والبعد عمن أفسدوا وزارة الزراعة طوال الخمسة والعشرين عاما الماضية ولكن هيهات. فمن سمح بوجود كل هذه المصانع دون التعامل معالفلاحين والتعاقد معهم على زراعة حاصلات الزيوت البذرية مثلما الحال في تعاقد مصانع السكر على زراعات البنجر والقصب، بل سمحوا للمصانع باستيراد كامل احتياجاتهم من الزيوت الخام من الخارج والاكتفاء بتكريرها فقط في مصر!!!
التسعيرة الجبرية أو الارسترشادية مرفوضة من وزير التموين ومن رئيس مجلس الوزراء بسبب تهديدات التجار مع أننا في حالة طوارئ لأن مصر مستهدفة واستقرار الأسعار يمثل استقرارا مجتمعيا وليس هناك ما يمنع عالميا من تطبيق التسعيرة الجبرية طوال فترة الطوارئ لثلاثة أشهر تقوم الدولة فيها بتوفير السلع في مجمعاتها عن طريق هيئة السلع التموينية وبالأسعار المنخفضة عالميا وبعدها تستعيد الأسواق والأسعار توازنها.