رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الوجه الآخر للمتنبي

23-10-2020 | 10:05


أقرأ شعر المتنبي و أقدره كشاعر نابغة بل كشاعر عبقري "ملأ الدنيا و شغل الناس " بحسب تعبير ابن رشيق القيرواني صاحب كتاب " العمدة " أو بوصفه " بكر الزمان و نبي المعاني " كما مدحه أبو القاسم المظفر بن علي الطبسي حين قال :
ما رأى الناس ثاني المتنبي .. أي ثان يـــــرى لبكر الزمان ؟
هو في شعــــره نبي و لكن .. ظهرت معجزاته في المعاني
لذلك أحفظ الكثير من شعره ، و لكن لا أكتمكم سرا أني لا أحبه على المستوى الشخصي لأسباب شتى أولها نرجسيته المقيتة و غروره الزائد الذي بلغ حد احتمال أن يكون مصابا بلوثة جنون العظمة( Megalomania ) ، و ثانيا تكالبه البغيض على نيل الجوائز و العطايا إلى درجة أنه كان يريق ماء وجهه كثيرا من أجلها و إن كانت هذه السمة هي الغالبة على شعراء عصره و لكنهم كانوا يفعلون ذلك دون تبجح بينما كان هو مع ممدوحيه يطبق مضمون مثلنا الشعبي القائل ( حسنة و أنا سيدك ) فقد كان يستكثر مثلا أن يفرد ممدوحه بخصلة خلقية حسنة فيحرص على أن يشاركه فيها و هو ما لم يفعله شاعر مدائح قبله و لا بعده كقوله في مدح علي بن سيار :
ألوم به من لامني في وداده .. و حق لخير الخلق من خيره الود 
فقد جعل نفسه و ممدوحه خير الخلائق
و قوله في مدح أبي العشائر :
شاعر المجد خدنه شاعر اللف ... ظ ، كلانا رب المعاني الدقائق
فقرن نفسه بممدوحه و صار كلاهما رب المعاني الدقيقة .
و ثالثا شحه أو حرصه البالغ على المال إلى درجة مزاحمته الغلمان في التقاط الدراهم التي تبعثرت على الأرض بمجلس ابن العميد ( إن صحت الرواية ) ، و لكن الأهم من ذلك كله عنصريته الشديدة التي تتبدى أوضح ما يكون في هجائياته لكافور الإخشيد التي كان يلح فيها على أن كافور عبد من أصل زنجي و على سواد لونه بعد مدائحه المتعددة التي لم يكن لون كافور فيها عوارا و مسبة بل كان عنصرا رئيسيا من عناصر المديح ، و كل ذلك لمجرد أن الأستاذ - وهكذا كان يلقب كافور لحنكته السياسية و فرط دهائه في تصريف شؤون الملك و أمور الدولة و قد ذكر المتنبي هذا اللقب حين مدحه بقوله :
ترعرع الملك الأستاذ مكتهلا .. قبل اكتهال أديبا قبل تأديب

لم يستجب لمطالبه في الإمارة و النفوذ .

و في الواقع لم يكن كافور الأستاذ أو الأستاذ كافور ممن يستحقون الهجاء المقذع من المتنبي أو من غيره فقد وصف بأنه حاكم عادل و معتدل ، شجاع متواضع و قريب من قلوب الناس لكونه سخيا كريما و ينظر بنفسه في قضاء حوائج الناس و الفصل في مظالمهم ، كما كان دينا ذواقة للأدب محبا للعلم يكرم الأدباء و يبجل العلماء و يكفينا تدليلا على كون كافور شخصية جديرة بالإعجاب و التقدير وصف المتنبي نفسه له حين قال :
كرم في شجاعـــة و ذكاء .. في بهاء و قدرة في وفاء
و في بداية قدومه إلى مصر كان المتنبي يرى أن كافور هو وحده المستحق للمدح دون كل الناس و أنه قد أذنب في مدح كل من مدحهم قبله و قد صرح بذلك حين قال
:
و تعذلني فيك القوافي و همتي .. كأني بمدح قبل مدحك مذنب
كما كان يرى أن من يقصد كافور يستصغر أي مقصود آخر سواه مهما كانت مكانته حين يقول
:
قواصد كافــــــــور توارك غيره .. و من قصد البحر استقل السواقيا 
و فيما يتعلق بأحد مظاهر سلوكيات المتنبي القميئة و أخلاقه الدنيئة يحكى ابن إياس في موسوعته التاريخية ( بدائع الزهور في وقائع الدهور ) المعروفة باسم " تاريخ ابن إياس" قصة قدوم المتنبي إلى مصر فيقول : إن المتنبي حين سمع بجوائز كافور الإخشيد السنية ( الثمينة ) لمن يمدحه من الشعراء طمع في هذه الجوائز فقدم إلى مصر و دخلها في كبكبة ( ضجة ) عظيمة من حاشيته و مماليكه و غلمانه ، و كان حين دخل مصر يلبس عمامة خضراء و يشد في وسطه منطقة و سيفا ؛ و كان يلبس في رجليه خفين أحمرين من الجلد
.
و يستطرد ابن إياس مندهشا و مستنكرا في الوقت نفسه : و مع ما كان بين يدي المتنبي من مال و ما كان عليه من سعة العيش إلا أنه كان بخيلا شديد البخل لدرجة أنه كان حين يحضر سماط الطعام ( السفرة ) مع كافور يحضر معه عبد أسود بيده قدر كبيرة من الخزف يجمع فيها عقب رفع السماط ( انتهاء الوليمة ) فضلات طعام الآكلين ليطعم بها غلمانه و مماليكه
.
و قد بلغ المتنبي من البخل و الحرص على المال حدا جعله يقتل أحد عبيده عقابا على ما كان يسرقه من متاعه و سواء أصح اتهام طه حسين له بأن فعلته تلك : تصور استهانته بالحياة الإنسانية و استباحته للدم الإنساني في سبيل متاع يقوم بالدراهم و الدنانير و أقل ما يوصف به هذا الإثم أنه لا يصور نفسا شاعرة متحضرة رقيقة الحس متأثرة بالفلسفة فضلا عن الدين الذي لا يبيح دماء الناس في مثل هذه الصغائر أم صح دفاع العقاد عنه بأن : قتله العبد لم يكن بخلا و لا حرصا على المال بل خوفا على حياته و خشية من تمادي الشر و اجتراء عبيده على اغتياله بعد اجترائهم على ماله ؟ فهذا - لعمري - يعد في ميزان القيم و بمقياس الأخلاق سلوكا قميئا منحطا لا يتأتى من إنسان كريم صاحب نفس كبيرة ( كما يزعم في شعره عن نفسه ) و خلقا دنيئا مسفا لا يستقيم بلا شك مع ما زخر به شعره من صلف و كبر و كأنه من طينة غير طينة البشر و الشواهد على ذلك في شعره ما أكثرها ، يقول مثلا في مقطوعة شعرية سخيفة
:
أي محل أرتقي ؟ .. أي عظيـــــم أتقي ؟
و كل ما قـد خلق الله و ما لــــــم يخلق
محتقر في همتي .. كشعرة في مفرقي
و في قصيدة أخرى يقول
:
و ما أنا منهم بالعيش فيهم .. ولكن معدن الذهب الرغام
و يقول في قصيدة ثالثة
:
أنا في أمة تداركــــــها الله غريب كصالح في ثمود
ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليهود
و يقول في قصيدة رابعة يرثي فيها جدته
:
و لو لم تكوني بنت أكرم والد .. لكان أباك الضخم كونك لي أما
أو قوله في قصيدة خامسة
:
واقفا تحت إخمصي قدر نفسي .. واقفا تحــــت إخمصي الأنام
و للمتنبي كثير من المثالب و النقائص الخلقية خلاف ما ذكرناه لا يتسع المجال هنا لتفصيلها و منها مثلا أنه الشاعر الوحيد الذى لم يكفه التهجم المقذع على الأحياء فتهجم على الأموات و استهان بكل القيم فلم تمنعه حرمة الموت من أن يهجو إنسانا أفضى إلى خالقه حين قال يهجو إسحق بن كيلغ بعد موته
:
قالوا لنا مات إسحـــق فقلت لهم .. هذا الدواء الذي يــشفي مـــن الحمق
إن مات مات بلا فقد و لا أسف .. أو عاش عاش بلا خــــلق و لا خلق
ما زلت أعــرفه قــردا بلا ذنب .. صفرا من البأس مملـــوءا من النزق
فسائلوا قاتليــه كيـــف مات لهم .. موتا من الضرب أو موتا من الفرق ؟
و لذلك نفذ إليه أعداؤه من ثغرة لاحظوها في شخصيته هي التناقض بين الصورة الفخمة التي يرسمها لنفسه في شعره و صورته الفعلية القميئة الدنيئة الزارية على قيمة كل إنسان عدا نفسه و من يطمع في جداه الجزيل و عطاياه السنية و المستهينة بحرمة الدم الإنساني ، فهجاه أبو الحسن محمد بن لنكك ( ت 360 ھ ) مثلا بقوله
:
ما أوقـــــح المتنبي .. فيما حكى و ادعاه
أبيـــح مالا كثيــرا .. لمــــا أبـــــاح قفاه
يا سائلي عـن غناه .. مـن ذاك كان غناه
و هجاه أيضا بقوله
:
أي فضل لشاعر يطلب الفضل من الناس بكرة و عشيا ؟
عاش حينا يبيع في الكوفة الماء و حينا يبيع ماء المحيا 
و هجاه أيضا أبو عبد الله الحسين بن الحجاج ( ت391 ھ ) بقوله
:
يا ديمة الصفع صبي .. على قفــــا المتنبي 
و يا قفــــــــاه تـــــقدم .. حتى تصير بجنبي
إن كنـــــت أنـــت نبيا .. فالقرد لا شك ربي
و كأن ابن الحجاج يرد في بيته الثالث على المظفر الطبسي حين مدح المتنبي فوصفه بأنه نبي المعاني
.
و على أية حال سواء أكان للمتنبي هذا الوجه الآخر المظلم الذي أشرنا إليه  فيما سبق إلى بعض ملامحه أم شاب هذا الوجه شيء من المبالغة كما شاب وجهه الآخر الوضيء المضيء ؟ فإن الشذوذ في شخصية المتنبي و غيره من العباقرة و النوابغ المتمثل في التناقض الصارخ بين أقوالهم و أفعالهم يرى المتخصصون في دراسة العبقرية بوصفها ظاهرة إنسانية أنه أمر طبيعي و أن أغلب العباقرة - إن لم يكونوا كلهم - و كثيرا من النوابغ مرضى و ذوو سلوكيات شاذة لأن التفوق الزائد في جانب يكون دائما على حساب جوانب أخرى في الشخصية ، و قد أفرط المفكر الألماني اليهودي ماكس نورداو تأسيسا على مقولات لمبروزو و موريل في التشنيع على كل معاصريه من عباقرة الأدب و الفكر بهذا الخصوص في كتابه " الاضمحلال " ، ويبدو أن ضريبة العبقرية أن يعاني من يتصف بها من مظاهر أو أعراض خلل في شخصيته تنعكس على أخلاقه و سلوكياته و تختلف تلك المظاهر أو الأعراض من عبقري إلى آخر
.