رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


تحديث مِصر في مشروع طه حسين الفكري: التعليم نموذجًا

23-10-2020 | 11:15


يستحق الحديث عن عميد الأدب العربي صفحات طوال يسترسل فيها كاتبها عن موضوعات شتى شغلت عَقل الدكتور طه حسين، وأعملت الحيرة والبحث في نفوس دارسيه من مُختلف التخصصات ومن بينها: العلاقة بين العلم والدين، والعلاقة بين النقد الذاتي والموضوعي، والعلاقة بين السياسة والأدب، والعلاقة بين الدينوالسياسة، والعلاقة بين التعليم ونهضة الأمم...إلخ. وقَد وقع اختيار كاتب هذه السطور على ذلك الموضوع الأخير الذي أولاه العميد اهتمامًا كبيرًا وجعله محور مشروعه النهضوي والتحديثي، حَتى أن المسئولين في دار الكُتب المصرية حينما أرادوا جمع أعمال طه أفردوا مُجلدًا كاملًا لمقالاته عن التعليم جاوز الثمانمائة صفحة.

ولا تتعلق المسألة هُنا بإعادة تذكير القارئ بمقولات طه التأسيسية عن قيمة التعليم واعتباره كالماء والهواء، ولكنها مُحاولةلإعادة قِراءة مشروع طه حسين الفِكري وتحولاته من خلال قضية التعليم. فلم يكُن طه كاتبًا جامدًا وإنما مُفكرًا ديناميكًا يتأثر بمحيطه السياسي والاجتماعي كما يؤثر فيه. ولذلك، أتناول في هذه المساحة جانبًا من حياة طه الفِكرية شديدة الاتصال والتفاعل مع بيئتها في مُحاولة لفهم طبيعة الاشكالات الفِكرية التي واجهت طه في تأسيسه مشروعه تحديث المُجتمع المصري في القرن الماضي؟ وكيف كان موقع التعليم منها؟  وإلى أي مَدى كان طه موفقًا في مُعالجته الفِكرية هذه؟

ويُمكن تقسيم وَعي طه بالعلاقة الجدلية بين التعليم ونهضة/تحديث مِصر إلى ثلاث مراحل: الأولى ولعه بالتعلُم وإدراكه لطبيعة الصراع القائم بين التفكير الديني والتفكير العلمي، والثانية تأثره بالنموذج الفرنسي للتحديث القائم على قيادة العُلماء للفِكر والسياسة من أعلى، والثالثة تراجعه عن النموذج الفوقي للتحديث وتبنيه لنموذج آخر يهتم بالطبقات الدُنيا ويقوم على تعليم الأكثرية. وفيما يلي مزيدًا من التفصيل:

ففيما يتعلق بالمرحلة الأولى، والمُتعلقة بحُب التعلُم والوعي بالصراع بين الجامعة والأزهر،يُمكن القول إن علاقة طه بالتعليم بدأت من مَدخل الحُب والولع بالمعرفة، فصاحب الأيام وجَد في القراءة والمُطالعة، ما يُنير له عقله، ويُعوضه عَن فُقدان بصره، فيتعرف على ذاته ومن ثَم يُدرك العالم المُحيط به. وكعادة العباقرة، فقد بدا نبوغ طه وتفوقه مُبكرًا في صباه منذ كان في كُتاب قريته. ومع أن والده حين أرسله للأزهر كان أقصى أمانيه أن يُصبح مُدرسًا به، إلا أن طه قَد قَرر لنفسه أن ينهل من العلم أضعافٍ مُضاعفة وأن يستغل وقته في القراءة بما يجعله يتفوق على أساتذته وشيوخه. ونتيجًة لهذا الولَع بالتعلُم، لم يُعجب طه بطرائق الأزهريين في البحث والدَرس، حَتى كتَب أنه في أواخر أيامه بالأزهر هجر دروسه جميعها إلا دَرس الأدب نظرًا لتميُز طريقة أستاذه "المرصفي". وفي المُقابل،جاء افتتاح الجامعة الأهلية المصرية في 1908 وفَتح أبوابها لاستقبال الطُلاب بمثابة طوق نجاة لنفس الفَتى الشغوفة بالمعرفة.

اختلطت بداية وَعي طه بقيمة التعليم، بوعي من نوعِ آخر وهو وعي سياسي وثقافي بالأساس. إذ جاء افتتاح الجامعة المصرية في ذلك الوقت ترجمًة لآمال النُخب الليبرالية العريضة في أن تدخل مصر عصر "الحداثة"، وأن تبتعد عن طُرق التفكير الدينية العتيقة وتتبنى المناهج العلمية الحديثة. قَدم طه في "الأيام" تصورًا دقيقًا لما دار بنفسه من صراع حَسمه لصالح التعليم المدني، ومَنى نفسه بذلك إذ وجَد في الجامعة "أساتذة لا سبيل إلى الموازنة بينهم وبين أساتذته في الأزهر". وفي هذا السياق، لعَب أستاذ الجيل "أحمد لُطفي السيد" دورًا كبيرًا في تبلور وعي صاحبنا التاريخي بالصراع بين "بيئة العمائم" و"بيئة المُطربشين"، وكيف أن ذلك الصِراع على مَصدر السُلطة الثقافية يتعلق بمصير الأُمة ككُل،وأن نهضة الأُمة السياسيةتتوقف علىنهضتها العقلية والثقافية.

ونتيجة لذلك الوعي التاريخي الجَديد، ركَز طه على دراسته بالجامعة خاصًة بَعد اسقاطه في امتحان العالمية بالأزهر، حَتى حَصل على درجة الدكتوراه من الجامعة عام 1914 عن رسالته: "ذكرى أبي العلاء المعري" وقد طبق فيها المنهج العلمي الوضعي. لم يكتف طه بذلك بَل ألح في طلبه على الجامعة كي تُرسله لاستكمال تعليمه بفرنسا. وفي باريس، انقطع للدِّراسة والتَّحصيل العلمي وازداد وعيه بالمناهج التاريخية الوضعية وتنوعها، حتَّى حصَّل على ليسانس الآداب في التاريخ في يوليو 1917. ثُمَّ على درجةالدكتوراه عن رسالته: " فلسفة ابن خُلْدُون الاجتماعية" في العام نفسه،وكذلك دبلوم الدراسات العليا في التاريخ القديم مع أن الجامعة أرسلته للحصول على الليسانس وحَسب. وفي 1919عاد طه من بعثته ليُعين أستاذًا جامعيًا بكلية الآداب، ويُشرف بنفسه على تعليم وتربية النشء، وغَرس حُب التعلم في نفوسهم، وتدريبهم على طُرق التفكير العلمية الحديثة كي يكونوا عِماد الحركة السياسية والثقافية في مصر.

وبالنسبة للمرحلة الثانية، والمُتعلقة بالتصور الفوقي لتحديث مصر من خلال تعليم القلة، فقدبلور طَه منذ عودته من فرنسا مشروعًا نهضويًا يستمد أساسه الفلسفي من العلوم التي تلقاها في السوربون وعلى رأسها مذهب "السان سيمونيين" الذي درسه على يد أستاذه إميل دوركايم. ففي باريس، أدرك طه أن مراحل التغيير السياسي والاجتماعي الحاسمة لا تنجح سوى بقيادة العُلماء والمثقفين، وأن الحُكم الصالح يعني أن تؤول أمور الحُكم والسياسة إلى تلك الطائفة القليلة. وتماشيًا مع ذلك، امتلك طه تصورًا نُخبويًا عن التعليم يقوم على الاهتمام بالتعليم الجامعي بصورة أكبر من التعليم الأولي وقَد علل ذلك بأن "صلاح الجسم رهين بصلاح الرأس الذي يدبره".وذَهب طه إلى أن الحياة الدِّيمقراطية السليمة واستقلال مصر مرهونٌ بتخريج نُخب فكرية قليلة تقود جموع الأمة. أُعجب طه في مشروعه كثيرًا بنمط التحديث الفرنسي القائم على تخصيص فئة في المجتمع لإنتاج المعرفة. وبسبب ذلك، احتل تعليم فئة قليلة من الأمة موقعًا رئيسيًا في مشروعه باعتبار أنها – أي هذه الفئة-سوف تتولى مهام الاستقلال والحُكم في تلك الفترة من تاريخ مصر.

ومن الناحية العملية، فقد تأكد ذلك المعنى لطه حينشَهد بفرنسا كيف أن أساتذته الجامعيين كانوا على صلاتٍ بكبار الساسة في الجمهورية الفرنسية الثالثة. فقد كان أساتذته عُلماء وخُبراء للسُلطة في الوقت ذاته، يُؤثرون في صانع القرار السياسي،ويجعلونه يجنح إلى أكثر القرارات حكمة. عاد طه إلى مصر في لحظة حاسمة من تاريخها وهي لحظة ثورة 1919 الشعبية، وقد كانت الثورة بمثابة تفجُر لمجموعة من الطاقات الراغبة في استقلال مِصر من قوى الاحتلال، والحالمة بمُستقبل أفضل. ولذلك، امتلك طه مشروعًا للنهضة يضع التعليم كخُطوة أولى تسبق أي اعتبارات أُخرى. فاستقلال مصر في نظر طه رهنُ بتعلم شبابها، وبأن يقود حركتها السياسية والاجتماعية العُلماء والمثقفون.

وفق هذه الرؤية الفِكرية، انضم طه إلى الصراع السياسي الدائر في مصر آنذاك لصالح فريق "عدلي يكن" في صراعه مع سعد زغلول. كما شارك في تحرير جريدة "السياسة"-مع صديقه الدكتور محمد حسين هيكل-التي صَدرت عام 1922 لتُعبر عن حزب الأحرار الدستوريين الذي مثَل مصالح وطموحات مجموعة من كِبار المُلاك والمثقفين أو كما كانوا يسمون أنفسهم "عُقلاء البلاد".ففي تلك المرحلة من رؤية طه للتعليم وعلاقته بنهضة الأمم، جاء توجهه السياسي نتيجًة لتوجهه العلمي. فمذهب سان سيمون الذي يقوم على قيادة العُلماء لأمور السياسة والثقافة جعله يميل إلى مجموعة "الأحرار" ويُشاركهم مُعارضة حزب الوفد.

أما فيما يخُص المرحلة الثالثة، والمُتعلقة بالتحديث من أسقل ودور التعليمكقوة للتغيير الاجتماعي والطبقي، فإن الطابع الجدلي الذي اتسم به فِكر طه حُسين جعله دائم المُراجعة لأفكاره وتصوراته. ومع ثلاثينيات القَرن الماضي، مَرت مِصر بمجموعة من التغيُرات الهيكلية على كافة المُستويات. فعلى المُستوى العام: انتكست الآمال العريضة في الديمُقراطية بإلغاء دستور 1923 واستبداله بدستور 1930، ومَرت مِصر بأزمة اقتصادية طاحنة تزامنًا مع الأزمة المالية العالمية لعام 1929 حَتى هوت أسعار محصول مصر الرئيسي: القُطن، ولم تتمكن حكومة "إسماعيل صدقي" من مُعالجة الأزمة بل زادتها وطأة على الفلاحين والعُمال بأن رفعت قيمة الضرائب، وازدادت بطالة المُتعلمين وأُغلقت فُرص الترقي الاجتماعي أمامهم،كما تعرضت الأنظمة الليبرالية في أوروبا إلى أزمات شتى كان من مظاهرها بروز الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا. وعلى المُستوى الشخصي، تعرض طه لمحنة اقتصادية وصفتها قرينته بأنهم عاشوا في "مجاعة" إذ قام "صدقي" بفصل طه من منصبه كعميد لكلية الآداب بالجامعة، وحال بينه وبين السفر للخارج وذلك لأن طه رفض أن يُستخدم لدعم نظام حكمه الديكتاتوري.

في هذه الظروف، أحدث طه مُراجعة فِكرية في رؤيته لأكثر الطُرق نجاعة لتحديث مِصر. وأدرك أن أفكار السان سيمونيين التي أُعجب بها لا تتماشى مع السياق المِصري. فأفكار سان سيمون ودوركايم جاءت في مُجتمع صناعي توغلت قيم السوق في علاقاته الاجتماعية، وتكونت به طبقة وسطى عريضة لها رؤيتها ومصالحها الخاصة المُعادية لسُلطة "رجال الدين" وللحكومات "الديكتاتورية". وقَد ساعدت هذه العوامل الموضوعية على الدَفع بالعُلماء والمثقفين إلى موقع قيادة المُجتمع. أما في مصر فإن واحدًا من هذه التطورات لم يحدث بنفس الدرجة التي شهدتها فرنسا.

وتماشيًا مع ذلك الادراك الجديد، انضم طه لحزب الوفد بدلًا من الأحرار الدستوريين،وأحدث تحولًا في رؤيته للتعليم إذ تبنى اقترابًا قاعديًا يُعلي من شأن التعليم الأولي ويدعو لأن يكون مجانيًا في كافة مراحله كي تتكون لمصر طبقة وسطى عريضة أولًا. وفي مقال نشرته جريدة "كوكب الشرق" في مارس 1933، سَخر طه من فِكرة المجانية التي يزعمها البعض عن التعليم في مصر، فيقول:"إن الطالب المصري الذي يدفع ثلاثينَ جنيهًا في كلية الآداب أو العلوم لن يدفعَ في فرنسا إلا جنيهين اثنين؟". وجه طه سِهام نقده إلى طبيعة النظام الاقتصادي القائم قبل 1952 واعتبر أنه نظامًا مُجحفًا يوالي كِبار المُلاك والأرستقراطية المصرية ولا يحفل بالطبقات الاجتماعية المُهمشة والبسيطة. صحيح أن طه لم يتخل عن فِكرة مركزية الدولة التي أخذها من النموذج الفرنسي للتحديث وهو ما يتضح في كتابه "مُستقبل الثقافة في مصر" إلا أن تجربة ما بين الحربين العالميتين السياسية جعلته يُراجع أفكاره المُسبقة المُتعلقة بتحديث مِصر ودور التعليم في ذلك أو بتعبير آخر "أنضجت الأدباء" كما كَتب في مُقدمة كتابه ألوان عام 1952.

وخلاصة ما سبق، إن التحول الذي أحدثه طه في رؤيته للتعليم في مصر يرتبط بتحول آخر في رؤيته لكيف يُمكن تحديث مَصر. ففي العشرينيات، كان طه مؤمنًا باقتراب فوقي للتحديث أو "التحديث من أعلى" يقوم على تعليم القِلة وأن تقوم هذه القلة بقيادة المُجتمع. أما في الثلاثينيات، فقد أدرك طه عَدم دِقة رؤيته السابقة وعدم ملاءمتها لظروف مصر، ولذلك تبنى اقترابًا قاعديًا للتحديث أي "التحديث من أسفل" يقوم على تعليم أكبر عدد مُمكن من الأفراد كي تتبلور طبقة وسطى عريضة مُتعلمة تعليمًا حديثًا بما يُمكنها من تغليب النزعات الديمُقراطية في المُجتمع. وقد شهدت الأربعينيات ذروة تحول طه إلى الكتابة الاجتماعية تأييدًا لمنطق التحديث من أسفل وبدا ذلك في تركيزه على مظاهر فقر ومرض الطبقات الاجتماعية المُهمشة، وكذلك المُطالبة بإعادة توزيع الثروة والدخل في نظام ما قبل 1952.