رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الدكتور طه حسين وتجربته الذاتية

23-10-2020 | 12:52


بعد فترة وجيزة من تولى عميد الأدب الدكتور طه حسين وزارة التربية والتعليم فى مصر سنة 1950، زرته للتباحث معه فى دور وبرنامج الجامعة الأمريكية فى القاهرة، وكنت رئيسا لها حينذاك. وقد كانت مفاجأة لى أن أجد أن انفعال الوزير الرئيسى ، كان نقدا رقيقا لهذا المعهد لأنه -على حد قوله - ليس «أجنبيا» بدرجة كافية : قد قال يومذاك: «على الرغم من أن هذه الجامعة هى مؤسسة أمريكية . فما لكم لا تدرسون فيها منهجا واحدا عن الأدب الأمريكى ، أو التاريخ الأمريكى ، أو الأنظمة الأمريكية» وعندما أوضحت له أننا لسنا فى مصر لنشر قيم الثقافة الأمريكية ، بل بالأحرى للعمل فى سبيل تطوير الثقافة المصرية، كان رده رحمه الله «ولكنكم تستطيعون أن تحققوا هذا الغرض على نحو أفضل ، إذا يسرتم لنا معرفة قيمكم ، فنحن نستطيع تدريس ثقافتنا، أما الشىء الذى نريده منكم أن نتفهم ثقافتكم فهذا أفضل» .

لقد بدأ هذا القول بمثابة نغمة غريبة فى وقت كان الشعور فيه بالقومية يتزايد ، إذ كانت هناك حركة عامة ضد صور كثيرة من صور التغلغل الغربى ، وكان التراث الثقافى الرائع للماضى الإسلامى والعربى والمصرى يحقق ذاتيته، وكانت هناك أصوات وطنية كثيرة ترتفع مطالبة بتأميم المعاهد الأجنبية ولقد كان طه حسين إنسانا لا يعلى عليه من حيث الولاء العميق لتراثه، ومن حيث غيرته الشديدة على النهضة المصرية. ومع ذلك فلم يكن هذا على مايبدو ليتعارض مع تفهمه لقيمة الثقافات الأجنبية والحاجة إليها .

وقد عرض الدكتور طه حسين وجهة نظره هذه فى مقال نشرته مجلة «الاثنين» فى فبراير 1940، وكان لب الموضوع هو حث المصريين من جميع الطبقات على النهوض من الركود السياسى والثقافى والفكرى ، وتوكيد القوة والكرامة المتأصلتين فى مصر كأمة وكشعب، وجاء فى ذلك المقال قوله :

«إن الواجب الوطنى الصحيح بعد أن حققنا الاستقلال وأقررنا الديموقراطية فى مصر أن نبذل ما نملك وما لا نملك من القوة والجهد لنشعر المصريين أفرادا وجماعات أن الله قد خلقهم للعزة لا للذلة، وللقوة لا للضعف، وللنباهة لا للخمول، وأن نمحو من قلوب المصريين جميعا هذا الوهم الآثم الشنيع الذى يصور لهم أنهم خلقوا من طينة غير طينة الأوروبى ، وفطروا على أمزجة غير الأمزجة الأوروبية ، ومنحو عقولا غير العقول الأوروبية، فهذا كله باطل سخيف».

بهذه الروح عبر طه حسين عن تجربته الذاتية، أنه نهل العلم فى شبابه من المدارس التقليدية المعروفة فى أيامه حتى انتهى به المطاف إلى الأزهر الشريف، وهو المعهد الدينى العتيد الذى يرعى الفكر الإسلامى ويعزز الدراسات الإسلامية ثم سافر بعد ذلك طلبا للعلم فى جامعة السوروبون بباريس، حيث برز له فجأة عالم جديد للفكر الحديث، والتعليم الحديث . وقد عانى من شدة وطأة الصراع (بين القديم والجديد) شأنه فى ذلك شأن كثيرين غيره من طلاب زمانه الذين وجدوا أنفسهم يقفون بين عالمين . وقد كتب فى تلك الفترة يقول:

«إن الأيام قد ألقت ، مع كرامتنا وديننا ، فى ساحة أسود ضاربة» .

وقد رأى بعض المفكرين المصريين ، عندما واجهوا هذين العالمين المختلفين للعلم والثقافة ، أن يعودوا لماضيهم ، ووجدوا الملاذ فى تمسكهم بكل قيمهم التقليدية، ولم يروا فى الدراسات العصرية والغربية سوى التهديد والبطلان. هناك آخرون كانوا على استعداد للتخلى عن الماضى برمته والغوص بحماس فى الأساليب الأوروبية الجديدة ، دون تألم يذكر من هجرة الماضى الذى كيفهم ، اللهم إلا الإحساس بشىء من اللوعة . أما الدكتور طه حسين فكان ينتمى إلى فئة صغيرة العدد لم تقبل أيا من هذين البديلين . وهنا أذكر أن الدكتور منصور فهمى ، وكان صديقا حميما له ووزيرا سابقا للتعليم أيضا .. قال ذات مرة لفريق من طلاب البعثات المصرية، قبيل سفرهم الى أوروبا طلبا للعلم : «تذكروا أن الماضى يصرخ فى آذانكم ، إنكم قد تستطيعون تغييره ولكنكم لا تستطيعون أبدا احتقاره أو الازدراء به» .

إن طه حسين لايستخف بمنجزات وكنوز الثقافة الأصيلة التى ولد وترعرع فى ظلالها، والتى اغترف من ينابيعها دراسته الأولى ، إلا أنه كان يعتقد أن التغيير ضرورى إذا كان للعالم الإسلامى والشعب المصرى أن يقوما بدورهما الكامل فى النظام الجديد. وفى إمكاننا أن نلتمس السبيل الذى اقترحه لتحقيق ذلك التغير، فيما ألمحنا إليه من العبارات الأخيرة الواردة فى مقاله الذى سبق الإشارة إليه . لقد كان يعتقد أن الفكر بأنواعه ومناهجه ، وأساسه المنطقى ، وموضوعه ، هو ظاهرة عالمية باستطاعة أى فرد الانتفاع به وتطبيقه على ثقافته الذاتية ، وهكذا تقبل طه حسين فى أيام دراسته بالسوربون المنهج الديكارتى القائم على التشكك العام، ومن ثم بدأ يخضع كل عنصر من عناصر ثقافته الذاتية ، وكذلك عناصر الثقافات الأخرى ، إلى المعايير الدقيقة للفكر الحديث. فما صح منها يثبت. وما لم يثبت يصبح من تراث التاريخ ، ولكنه لا يكون مادة للإنسان الحديث.

وبهذا الاعتقاد أمضى الدكتور طه حسين حياته فى تطبيق تجارب العالم المعاصر ومنطقه فى جميع مناحى الحياة والفكر فى مصر. ولهذا أقدم، فى مجال النقد الأدبى على تقييم الشعر الجاهلى من جديد. وفى مجال التعليم راح يزن أساليب ومحتوى المدرسة التقليدية مقابل احتياجات الإنسان الحديث، وفى الفلسفة أخذ يقيم مرة أخرى فى ضوء المعرفة المعاصرة أفكار فلاسفة الإسلام العظيمة. ولقد قام بهذا كله لا هدما للتراث العربى الغني، وإنما توكيدا لقيمه الدائمة .

وهكذا لم يكن ثمة «أجنبي» بالنسبة إلى الدكتور طه حسين، فرأى فى تنوع الثقافات والأساليب التى جاءت من خارج مصر ، لا تحديا للعالم الإسلامي، بل فرصة مواتية كى يتحدى ذاته وينهض ويحيى قوته الخلاقة المبدعة. وهذا هو السبب الذى كانت من أجله كتاباته - فضلا عن حسن ديباجتها- تتحدث إلى وتعبر عن أجيال الطلاب الذين كانوا يسعون بشدة إلى توكيد كل طاقاتهم الفكرية مع البقاء على إخلاصهم لثقافتهم. وهذا فى النهاية ما كان يرمز إليه طه حسين فى زمانه ، وما أسهم به فى نهضة الفكر الإسلامى والروح المصرية، وهى نهضة تجلت بمنتهى الروعة فى العقود الأخيرة . «عن المجال» .