أثار عميد الأديب العربي الأستاذ طه حسين جدلًا واسع النطاق
بسبب كتاباته المستنيرة , على المستوى : الفكري , والعقائدي , والسياسي , سواءً في
حياته أو بعد رحيله، بدءًا من مطالبة أحد أعضاء الجمعية التشريعية (البرلمان) عام
1914, بسَحب درجة أستاذية الجامعة منه , لزعمهِ أنه كتب رسالة الدكتوراه بما يحمل
دلالات إلحادية , ودفاع سعد زغلول (وكيل الجمعية التشريعية وقتها) عنه وإنصافه ,
مرورًا بأزمة كتابه "الشعر الجاهلي" ومحاكمته أمام القضاء وتبرئته , ثم
هتاف طلاب جماعة الإخوان الإرهابية ضده في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) عام
1938؛ لإقراره على كلية الآداب - وهو عميدها - تدريس مسرحية "جان دارك"
لبرنارد شو, وكتاب "أحاديث خيالية " لسافينج لاندور؛ لإدعائهم وقتها
مخالفة تلك المقررات الدراسية لتعاليم الإسلام وتهجمها عليه، وصولًا لأصداء الثورة
علي كتابه "عثمان" ؛ المتناوِّل لقضية مقتل الخليفة عثمان بن عفان
والصادر عام 1947.
لا يفوتنا ونحن في مقام تناوُّل كتاب "عثمان" ,
إيراد شيئًا مما جابهه العميد بصلابة نادرة , جرّاء هجوم لاذع طاله - بسبب الكتاب
- من تعنُت ولعنات المتشددين ؛ إذ تركوًا أسباب ووقائع القضية الشائكة المروعة ,
وراحوًا يكيلون له اتهامات شنيعة ؛ ما وصل إلي حَد تكفيره واتهامه بالزندقة ,
وإدانته أخلاقيًا وكأنه قاتل عثمان لا الباحث عن الحقيقة . بيد أن الكاتب الجسور
لم يرضخ لوطأة الترهيب الفكري العنيف , أو يهاب جاعورة الأصوات الرجعية , بما
اشملته من لغط ونداءات وعيد وتهديد , وشرع يكتب الجزء الثاني من الكتاب
"عَلْيّ وبنوه" ليصدر عام 1953 .
يتناول كتاب "عثمان" القضية بحيادية كاملة ؛
بوصفها ظاهرة إنسانية وتاريخية وسياسية , تستلزم التنقيب في أسباب وقوعها درءًا
لحدوثها مستقبلًا , والدأب علي استقاء العبرة واستخلاص العظة من التاريخ . لذلك
جاء أكثر النقد - المنغلق - الموجّه للكتاب أنه : لا يري الفتنة قدرًا إلهيًا
بحتًا ؛ يجب غَض الطرف عن أسبابه , وعدم الإيغال في تفاصيله . والأهم أن العميد
انبري يؤكد - من وقائع الفتنة - نبذه لإعمال مبدأ "الحاكمية" , وعلا
صوته محذَّرًا من خطورته وفداحة أثره علي المسلمين , لينادي سيد قطب به - مبدأ الحاكمية
- في كتابه "معالم في الطريق" , وهو ذاته - سيد قطب - مَنْ اتهم
الأمويين (عشيرة عثمان) جميعًا وبلا إنصاف , بفساد العقيدة في كتابهِ
"العدالة الاجتماعية في الإسلام" !
يُعَد طه حسين أكثر من كتب عن الإسلام بشكل منهجي وعلمي ,
لينقذ عقول الكثيرين من آفات التدهور بكتباته السلسة ، عميقة الأثر والمضمون . ومن
هنا نجد أن كتاب "عثمان" يتفرَّد برصدهِ أثر التحولات الاقتصادية
المؤدية لتغيُّر مجتمع المسلمين بشكل كبير, وعَقد مقارنة موضوعية ما بين : سمات
منهاج اشتراكي - فطري - في عهد الخليفة عمر بن الخطاب , وتكريس لرأسمالية التجارة
- البدائية - في عهد الخليفة عثمان بن عفان , وكيف كان تغيُّر السياسة الاقتصادية
ضمن أسباب وقوع فتنة مقتل الخليفة عثمان . وهذه الرؤية اعتبرها غلاّة الرجعية ,
قراءة التاريخ الإسلامي من خلال المنطق "الماركسي" , القائم علي التفسير
المادي للتاريخ .
كتاب "عثمان" ؛ يطير فيه العميد بِنَا فوق بِسَاط
التاريخ , المزدان بروعة العبارات الساحرة , فيرتدُ بنا الزمن إلي ما بين أعوام 23
- 61 هجرية 644 - 680 ميلادية . يلتقمنا بين دفتيه بلا تمهيد , يُلقينا في ساحة
الأحداث بمدينة رسول الله , يتركنا مفجوعين من صليل السيوف المتعاركة بأثر
الوشايات الخسيسة , تُرَوعنا ألسنة اللهب المُشتعلة بمِدَادِ الخيانة والتآمُر.
يقع الكتاب في 31 فصلًا , يمكن تقسيمهم حسب الموضوع إلي ثلاثة أقسام :
* أولا - سياسة عثمان :
شيّدَ الشيخان (أبو بكر وعُمر) دعائم الدولة الإسلامية ,
وواصل عثمان أعمال سلفيه ؛ فأكمل فتح بلاد فارس وأفريقيا , هزم الروم برًا وبحرًا
. لكن السياسة الداخلية بينهم - عثمان والشيخان - كانت مختلفة كُل الاختلاف ,
عدَّدَّ الكاتب منها وجوهًا كثيرة تنوعت بين : حزم وقوة أبو بكر وعمر, ولِين عثمان
وحياؤه , تجرُّد الشيخين من عصبية القبيلة , ومشايعة عثمان لعشيرته من بني أمية .
لكنه انتهي لأن خطأ عثمان الأكبر, مخالفته مبدأ عُمَر بن الخطاب - ومن قبله أبو
بكر- في تقييد حرية كبار صحابة النبي داخل المدينة , ومنعهم من الترحال خارجها ؛
خوفًا عليهم وخوفًا منهم ؛ فلا يُفتن بهم عوام الناس . باستخلاف عثمان , فتح لهم
الباب علي مصراعيه ؛ فانتشروا في جميع البلاد المفتوحة , صار كل واحد فيهم - بين
الناس - بقربه من الرسول الكريم , زعيمًا روحيًا بشخصه , ولكل منهم مواليه وأنصاره
المستقلين , أمثال : طلحة بن عبيد الله , والزبير بن العوام , وعبد الرحمن بن عوف ,
وعمار بن ياسر, وعبد الله بن مسعود , وأبي ذَر الغفاري ( رضي الله عنهم جميعًا) .
* ثانيًا - بذور الفتنة :
جاهد الشيخان لإخماد جذوة الصراع ، وردم بؤر التحاسُد بين
بطون قريش السبعة , وبالذات بين قطبيها الكبيرين : الأمويين والهاشميين ، ونجحا
إلي حدٍ كبير . غير أن نَعرة العنجهية الأموية عَلَت مجددًا بعد توليّة عثمان
-الأموي- الخلافة ؛ إذ جاء اختياره لغالب الولاة محكومًا بالعصبية , والبعض الآخر
كان محيرًا لحد كبير؛ فمن الولاة اللذين عينهم الخليفة نزل فيهم قرآنا بالفسق .
عزل الخليفة الصحابي الجليل , أول من رمي في الإسلام "سعد بن أبي وقاص"
من ولاية الكوفة ، وولّي بدلًا منه الوليد بن عقبة , ثم عزل "عمرو بن
العاص" عن ولاية مصر ،وولّي بدلا منه عبد الله بن أبي سرح .
كثُرَت شكاية أهالي البلاد المفتوحة لفسق بعض ولاة عثمان ,
وساخت الأقدام من تجبرهم . لما طارت مكاتيب المظالم إلي الخليفة ، ارتدت خاوية بلا
ردّ أو حَل . رأي عثمان الفتنة تطل برأسها وأدرك أسبابها , ولكن قراراته السياسية
لم تكن حاسمة , بل جاءت في شكل أنصاف حلول , إذ قرر فتح باب شراء الأراضي في أنحاء
الدولة ؛ ليخفف هجرة العرب إلي مصر والشام والعراق , ولكن ما حدث عجّل بحدوث
الفتنة , حينما ظهرت ملكيات العرب الكبيرة في العراق والحجاز والشام ؛ ازداد العرب
غني والولاة اقتدارًا . إزاء تلك الأوضاع بلغ السخط مبلغه ؛ فجاشت مراجل الغضب ,
وخرجت السيوف من مغامدها , ليدفع الخليفة عثمان وَحدهُ الثمن .
* ثالثًا - مقتل عثمان :
أخفق سعيد بن العَاص - والي الكوفة - في تأديب بعض
المتمردين , فاعترضوًا طريقه بالسيوف ، وأجبروًا عثمان علي استبداله بأبي موسي
الأشعري . وكانت تلك الواقعة بدايةً لكسر هيبة الخليفة بشكل سافر؛ إذ اتخذ أهل مصر
والبصرة تلك السنة بعد نجاحها في الكوفة . ذهبوا إلي المدينة يطلبون لقاء الخليفة
عثمان . قابلهم ؛ ووعدهم بأن يغيِّر الأمور ويستبدل الولاة ولم يفعل . فتحزبوًا
وقدموًا عُصبة من بلادهم غاضبين , ودخلوًا المدينة مرة أخري , سكنوًا الضواحي , لم
يجدوًا مواجهة تُذكر من أهل المدينة ؛ فضربوًا حصارًا حول بيت عثمان . ومنعوه من
الخروج من الدار والصلاة في المسجد , وحاشوًا عنه المياه , وعثمان لا ينفك عن رفضه
بتدخُل جيوش الولاة ، يمنعهم ؛ لعل الثوار يثوبوًا إلي رُشدهم . ولما اشتد عليه
الحال ؛ استنجد بجيوشه يستقدمهم إليه لنجدته , والأهم بالنسبة إليه كان الحفاظ علي
قداسة مدينة رسول الله وأرض الهجرة . لمّا تسرّب إلي الثائرين أنباء قدوم الجيوش
للمدينة ؛ تسوّروًا علي عثمان داره , والله وحده أعلم بما حدث داخله , حتي ُأعلن
عن مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه .