رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


طه حسين والثقافة اليونانية

23-10-2020 | 14:04


أكانت مصادفة أم قصدا أن بعثة طه حسين إلى فرنسا بين سنتى 1915 و 1919 قد حملته إلى أجواء جديدة غير أجواء الثقافة العربية الخالصة من أدب وفلسفة وتاريخ ؟ إن طه حسين لم يذهب إلى فرنسا ليتتلمذ للمستشرقين الذين كان قد درس فعلا على عدد من فحولهم فى الجامعة المصرية القديمة، أو لم يذهب لها وحده، ولكن بعثته تركزت بقصد منه أو من الجامعة التى أوفدته إلى دراسة المجتمعات القديمة، فدرس اليونانية واللاتينية والتاريخ اليونانى والرومانى، وكانت رسالته التى نال بها درجة الدكتوراه من السربون “الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون” هى فى الواقع رسالة فى علم الاجتماع، والأستاذ الذى أشرف عليه فى إعدادها هو شيخ علماء الاجتماع الفرنسيين فى عصره المفكر الكبير “إميل دور كايم”.

وهكذا كان أول عمل تولاه طه حسين فى الجامعة المصرية هو أستاذ التاريخ القديم “اليونانى والرومانى” وبقى هذا المنصب من سنة 1919 إلى سنة 1925 عندما انتقلت الجامعة إلى إدارة الحكومة فأصبح أستاذا لتاريخ الأدب العربى فى كلية الآداب .

واستأثرت الثقافة اليونانية بالجانب الأكبر من إنتاجه فى هذه الفترة: “صحف مختارة من الشعر التمثيلى عند اليونان” (1920) “نظام الإلينيين” (1921)- “قادة الفكر” (1925).

على أن طه حسين فى هذا الإنتاج الأدبى لم يكن مجرد أستاذ شاب متحمس، يريد أن يثير اهتمام الجمهور القارئ بالعلم الذى يدرسه لطلابه بين أروقة الجامعة كما أنه فى تخصصه وعكوفه على الثقافة اليونانية زمنا لم يكن مجرد عضو بعثة ترجمة الجامعة إلى نوع من الدراسة ليعود فيضطلع بتعليمه للطلاب.

لقد كان اقتران عصر النضج عند طه حسين بالثقافة اليونانية- بل بهذا المزيد بالذات من الثقافة اليونانية والدراسة الاجتماعية- حلقة حاسمة فى تطوره الفكرى، ومن ثم في تطور ثقافتنا المعاصرة جميعا كانت له أسبابه العميقة فى المناخ الفكرى كما كانت له آثاره التى تشابكت بقوة فى نسيج حياتنا الثقافية من بعد.

إن طه حسين - الطالب الأزهرى الذى أبعد إلى الجامعة الناشئة- لم يكن ليستريح قط إلى دراسة أدبية أو لغوية مقفلة على نفسها، تمنح وتهب في نفس البشر التى لم تعد قادرة على أن تردى أحداً أو شيئا ولعل “ذكرى أبى العلاء” هى أول دراسة فى تاريخ الأدب العربى تستخدم الدراسات الاجتماعية والنفسية استخداما واعيا لإضاءة الظواهر الأدبية.

وما كانت الثقافة العربية فى عصور ازدهارها لترضى بالعزلة والانطواء، إنها لم تكد تخرج من أحضان شبه الجزيرة العربية حتى انطلقت تغترف من ينابيع الثقافة العالمية للذلك العهد، ثم أصبحت هى نفسها لغة الثقافة العالمية الأولى فى العصور الوسطى فإذا أرادت أن تعود لغة للثقافة العالمية مرة أخرى فلابد لها أن تستأنف ذلك التعامل الحر بينها وبين ثقافات العالم، بل بينها وبين الثقافة اليونانية بالذات، فهذه الثقافة هى أم الثقافات الأوروبية الحديثة جميعا.

لن يفهم المرء شعر كورنى، وراسين، وميلتون، وجوته، إلا إذا قرأ "هوميروس وأسكيلوس، وسوفوكليس، ويوربيديس"، ولن يعرف أصول فلسفة أوجست كونت إلا إذا درس أرسططاليس، بل إن العلم الأوروبى الحديث لا يتنفس إلا بروح البحث العقلى التى نفخها فيه الفكر اليونانى.

تلك أفكار لابد أنها راودت طه حسين الشاب قبل بعثته، وإن لم تتجسم إلا فى كتبه التى أنشأها بعد أن تزود بما شاء من الثقافة اليونانية ومن الثقافة الأوروبية الحديث وستظل تنمو معه وتتطور من “الصحف المختارة” و”قادة الفكر” إلى “من حديث الشعر والنثر”- الذى يجب أن تؤرخ بظهوره لنشأة الأدب المقارن عندنا- وترجمانه عن سوفوكليس.

على أن العوامل التى دفعت طه حسين نحو الثقافة اليونانية ونحو الدراسة الاجتماعية فى الوقت نفسه لم تكن عوامل نوعية متصلة بالإنتاج الفكرى فحسب، بل كانت فى الوقت نفسه عوامل  حضارية عامة معبرة عن روح العصر..

كانت سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى فى مصر مزيجا من الثورة الرومانسية ومن عصر التنوير ومع أن الألوان تختلط وتتداخل فإننا نستطيع أن نميز بين التيارين بوضوح.

نستطيع أن نميز بين عاطفية المنفلوطى الممزوجة بالغالب الإنشائى وتشاؤمية عبدالرحمن شكرى وانفراديته من ناحية وبين محاولات فرح أنطون لتقديم التفكير الاجتماعى العلمى فى قالب المقالة والقصة والمسرحية من ناحية أخرى.

على أن التيارين لم يكونا- كما سبق أن أشرت- مجرد تيارين أدبيين أو ثقافيين بل كانا تيارين حضاريين أصليين، ولعلهما أقرب إلى تفسير تاريخ تلك الحقبة ومعقباتها فى المراحل اللاحقة من الكلام عن المحافظة والتجديد اللذين يتضاءل خطرهما بالتدريج كقوتين متعارضتين.

كان مصطفى كامل هو التعبير القومى عن الثورة الرومانسية، وكان لطفى السيد ممثل عصر التنوير، وكانت الثورة الرومانسية تستأثر بولاء الأغلبية العظمى.. ولكن سلطان العقل كان يفرض نفسه بقوة واستمرار على الفكر والمجتمع والسياسة جميعاً.

كان الرومانسيون يتعلمون باسم الحق والعدل ويندفعون إلى إثبات وجودهم بقوة الحياة نفسها، وكان العقليون يتكلمون باسم المنطق والواقع ويطالبون أولا باستقامة التفكير ووضوح الأهداف وكان الفكر اليونانى- والفكر الأرسطى بوجه خاص- هو عمدة أنصار العقل وهكذا لم يذهب طه حسين إلى الفكر اليونانى أديبا فحسب ولكنه ذهب إليه أديبا يغلب عليه طابع المفكر ومن هنا لم تكن مصادفة أيضا أن جاءت الكتب الثلاثة التى ألفها عن الفكر اليونانى عقب عودته مقسمة على ميادين ثلاثة "الأدب، والسياسة وتاريخ الحضارة".

وبينما كان الكتاب الأول محاولة - لم تستكمل - لعرض أعمال الشعراد التمثيليين اليونان فى صورة تصلهم بجمهرة القراء من أيسر سبيل، فقد كان “نظام الإلينيين” ترجمة دقيقة محكمة لنص من أهم نصوص التاريخ اليونانى، ولعل طه حسين قد أراد أن يقدم فيه مفهوما واضحا لمعنى “الديمواقراطية” التى كانت قد أصبحت هدفا من أهداف الحياة السياسية وهو يصرح بذلك بقوله فى مقدمة الكتاب:

“والكتاب كما هو أحسن صورة موجودة تمثل الحياة السياسية اليونانية، وهو مع ذلك صورة حية لنشأة الديموقراطية واستحالتها ورقيها قليلا قليلا حتى تعمل إلى أقصى ما يقدر لها من النمو وسعة السلطان”.

أما الكتاب الثالث “قادة الفكر” فإنه يعبر عن فكرة متكاملة فى تاريخ الحضارة وطه حسين لا يترجم لهؤلاء القادة (هوميروس- سقراط- أفلاطون- أرسطو- الإسكندو- بوليوس قيصر) حتى يوضح فكرته عن القادة، وكيف أن القائد ليس شخصية منبئة عما حولها بل هو قبل كل شىء ممثل لعصره وبيئته .

فإذا تنقل بين فصول الكتاب رأيته يعرض فكرة فى تاريخ الحضارة قد لا يمكننا أن نسميها “نظرية” ولكنها على الأقل تهيئ الأذهان لقبول هذا النوع.

فالمجتمعات فى تطورها تحتاج أولا إلى قيادة الشعراء ثم الفلاسفة ثم الحكام المفكرين، وهذا هو أساس اختياره لمن اختارهم من القادة، ولكنه لا ينفصل بنظريته عن الواقع قط، وإن كان الواقع الذى ينظر إليه أكثر من غيره هو واقع الحضارة الأوروبية.

ولهذا يتحدث عن قيادة الدين للفكر فى العصور الوسطى ثم عن تعدد القيادات فى العصر الحديث، فلا الشعراء ولا الفلاسفة ولا العلماء ولا الحكام هم قادة الفكر فى العصر الحديث، ولكن هؤلاء جميعا، ومعهم كثيرون غيرهم.

وكانت سياحة رائعة تلك الذى قام بها طه حسين فى مجال الفكر اليونانى، سياحة جسمها بعد ذلك فى “رحلة الربيع” (1948)، ولم ينقطع قط عن الإلمام بمشاهدها، وما من شك أنها كانت ذات أثر كبير فى تشكيل ما استطعنا أن نسميه “أسلوبا كلاسيكيا” فى أدبنا الحديث.

أسلوب طه حسين فى امتداده وتماسك أجزائه وتصفحه لجوانب الموضوع الواحد فى موسيقاه وتوازن مقاطعة ووقار عبارته مهما تمتلئ بالعاطفة. أسلوب لا يمكن أن يكون إلا ثمرة التقاء الثقافة اليونانية بالثقافة العربية فى ذهن خلاق.