رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


محمد سليم شوشة يكتب: رحلة الدم.. الكوميديا من رحم المأساة ودروس التاريخ

23-10-2020 | 14:40


في رواية رحلة الدم العديد من الجماليات التي تبدو خاصة بسرد إبراهيم عيسى بشكل عام، والحقيقة أنها تحتاج إلى درس يطول وتأمل يليق بما فيها من جهد كبير وبما وراءها من صنعة وتخطيط سردي أو استراتيجية سردية شكلتها موهبة فذة وروح تجمع بين الفن والعلم في أعلى صور اتحادهما.

 

من الناحية المعرفية يمكن القول بأنها واحدة من أهم الروايات التي تقوم على استقصاء تاريخي واسع وتدقيق كبير وتقدم قراءة وتأملا عميقا للتاريخ، فيتحول السرد بذاته إلى حال من التأويل والتأمل، فوراء البنية السردية إجابات خفية عن الفتنة الكبرى وتتبع في غاية الرهافة والدقة لتكون جذور الصراع وخيوطه وبداية تشكلها حتى اكتمالها، بواعث الحرب والاقتتال بين المسلمين في العصر الأول وجدلهم وخلافاتهم يتم طرحها في هذه الرواية على نحو مدهش يجمع بين المعرفي العلمي التأويلي للتاريخ وبين الجمالي الذي يشكل في النهاية لوحة حياتية متسقة مع بعضها ونابضة ومؤسسة على منطق طبيعي وإنساني ونفسي واقتصادي، فتبدو هذه الحياة الصاخبة بالصراع والجدل ووصولها إلى الاحتراب وإراقة الدماء جزءا حقيقيا وطبيعيا من لوحة الحياة عموما ووفق منطقها وقوانينها الطبيعية الحاكمة  للبشر ولسلوكهم وطبائعهم، والطريف أن يكون كل هذا الاتساق لا عن خيال صرف بل الأساس فيه هو التاريخ والأحداث التاريخية بل بالأحرى الأساس فيه هو المقطوع به وشبه القطعي من الأحداث التاريخية، فشبه الإجماع العلمي لدى المؤرخين والدارسين للتاريخ الإسلامي أن الفتنة الكبرى فيها عوامل عديدة ولا ترجع لسبب واحد، طريقة تصرف عثمان واختلافه بعض الشيء عن أبي بكر وعمر، وكذلك توحيد المصحف، وكذلك زيادة الخيرات والعوائد ومحصلات الجباية واختلاف الناس عليها، بعض النزعات القبيلية والصراع بين القرشيين وغيرهم، بعض الخلاف على قوة الأمويين وأقارب عثمان، انضمام عمرو بن العاص إلى الحانقين على عثمان والأهم اختلاف علي بن أبي طالب وعائشة عن طريقة عثمان وعدم رضاهما عن حكمه، والأهم من هذا أن كثيرا من كتب التاريخ تجزم بأن مصر كان لها دور كبير، ليس بالشكل المباشر ولكن فتح مصر تحديدا وخيراتها والرجال الذين استقروا فيها وبخاصة قبائل اليمن كانت من الأسباب المهمة للفتنة الكبرى ومقتل عثمان بن عفان، ولهذا لا يمكن أن يتجاهل أحد الدارسين أن للفريق العائد من مصر أو تشكل فيها وبخاصة شخصيات مثل محمد بن أبي بكر ربيب علي بن أبي طالب ومحمد بن أبي حذيفة ربيب عثمان واتحادهما ضد عثمان وتكون رابطتهما في مصر، وأن بؤرة الثورة ضد عثمان كانت في مصر، وكذلك دور عبد الله بن أبي سرح في تأجيج الغضب من الخليفة المقتول.

 

المهم أن كل هذا هو مما تجزم به الدراسات التاريخية من قديم وحتى هذه اللحظة وهذا هو الجانب المعرفي الذي تتبعه الرواية بصرامة وتلتزم به التزاما علميا مذهلا وخارقا للعادة في الدقة وبراعة التتبع ودقة التأمل والقراءة وجمع كافة الخيوط وعرضها بشكل إنساني وفني متناغم ومتسق مع بعضه، كثير من هذه الأسباب للفتنة حين تعرضها الدراسات التاريخية تبدو متعارضة أو متناقضة، لكن تعامل السرد الروائي الذي يشكل لوحة حياتية كاملة يجسد تضافر وتلاحم هذه العوامل مجتمعة وتبدو متوالدة عن بعضها ومتفاوتة في القوة والمساحة واختلاف التأثير من سبب إلى آخر، فضلا عن اللمحة الجمالية الأهم وهي أن هذه الأسباب لا تتكون وتنفجر دفعة واحدة بل يعرضها السرد الروائي وفق قوانين الحياة وطبيعتها وكأنها جنين في رحم الأمة الإسلامية الناشئة يتشكل ويتكون بالتدريج ويكتسب ملامحه مع الوقت حتى تحين لحظة الانفجار وتضخم البطن بهذا الحمل الثقيل، هذا ما يجعل الرواية في أقصى درجات الجمال والتناسق في ملامح عالمها المسرود عنه وتبدو مشوقة إلى حد بعيد لأن القارئ يظل مشدود لما يتراكم ويتضاعف ويصعد من نقطة الذورة وينتظر لحظة الانفجار فيكون متابعا مشدود لتفاصيل هذا العالم ويتماوج نفسيا وعاطفيا مع حركته وما يموج فيه من بؤر صغيرة للغضب تظل تتمدد وتتسع والمتلقي يراقبها منفعلا وكأنه يمكن في أي لحظة أن يتدخل ويوقفها أو يتمنى أن يتدخل طرف قوي ويوقف الصخرة المنحدرة من قمة الجبل.

 

ما يجعل رواية رحلة الدم خطابا سرديا مالكا لكافة أسباب المتعة والدهشة بخلاف هذا التشويق الكبير أنه خطاب متنوع النغمات والوحدات الإيقاعية السردية، فهو يتراوح بين نغمات سردية عديدة وكلها لها تأثيرها على التلقي وعملية القراءة، بين وصف لتفاصيل كثيرة ومظاهر حياتية عديدة من ملابس وأطعمة ودواب وبناء وبيوت وقصور وجلسات وحوار ونقاش وجدل، وبعضها يكون فيها الإيقاع بطيئا أو هادئا بعض الشيء أو تكون حركته نفسيا بدرجة أكبر من أن تكون حركة أحداث أو حركة مكانية، ثم يحدث التحول إلى إيقاع سردي آخر فيه تلاحق للأحداث وفيه حروب أو غزوات صغيرة أو اقتتال أو سفر أو احتداد أو مشاجرة أو تلاسن وضرب وغضب وانفعال أو حركة وتفتيش وغيرها من الوحدات السردية التي يكون الإيقاع فيها أكثر سرعة، فيتم المزج بين هذا وذاك والمراوحة بينهما وفق نسق بنائي يعتمد على الموازنة والتنويع والمراوحة السلسة والعفوية.

 

من جماليات هذه الرواية كذلك أنها صورت المجتمع الإسلامي في هذه العصور الأولى تصويرا حيويا وشاملا، وبخاصة ما يرتبط بالمرأة والنساء ورسمت أدوارا درامية بارزة لبعض الشخصيات النسائية وبخاصة ثلاث شخصيات هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ونائلة زوجة عثمان الأخيرة الأقرب لقلبه وحبى المعروفة بحواء المدينة، وهذه الأدوار الدرامية البارزة لهذه الشخصيات النسائية ليست منفلتة من الحدود التاريخية أو العلامات المروية والوفيرة في كتب السير والتاريخ وبعض كتب الفقه وبخاصة ما يرتبط بعائشة ودورها المباشر في الصراع السياسي أو دورها الديني وصورتها العامة بوصفها واحدة من أهم رواة الحديث والناقلة للتعاليم الدينية الموروثة عن النبي وليست في القرآن.

 

 بما يعني أن كافة الشخصيات وربما هذا ينطبق على النساء والرجال تبدو ملامحها مرسومة بدقة في إطار السابق واللاحق من تاريخها والمشهور عنها أو أبرز الأحداث والتفاصيل المروية في الكتب. ولهذا نجد أن السمت العام في سرد هذه الرواية أن الشخصية تبدو مشكلة في إطار تاريخها الكامل ولا يتم طرحها بنوع من التسطيح وتوظيفها في إطار الحدث بحيث يكون الحدث هو الأهم أو الأقوى، بل النموذج الإنساني هو الأساس الذي تنبع منه الأحداث، ولهذا فإننا نجد هناك تكنيكا سرديا ثابتا أو راسخا في كل خطابها السردي وهو الاستعادات أو الاسترجاعات أو ما يسمى بالفلاش باك لمشاهد من تاريخ الشخصية وماضيها بما يجعل من هذا الماضي ميزانا للحدث الآني، فكل شخصية تتشكل في إطار جذورها وفي إطار لوحة كاملة لحياتها حتى تصرفاتها المستقبلية، وبهذا نكون في المجمل أمام نماذج إنسانية تاريخية نعم لكنها وفق هذا السرد نماذج مكتملة وواضحة الملامح بل راسخة وأنماطا قابلة للاستقرار في ذاكرة المتلقي ووجدانه والبقاء طويلا معه.

 

 بعض هذه الاسترجاعات حقيقية معروفة مثلما هو حاصل مع بعض تاريخ شخصية عبد الله بن أبي سرح الذي كان النبي قد أهدر دمه ضمن أربعة فقط عند فتح مكة حتى ولو احتمى بالكعبة، ويجسد كيف كان مطاردا وكيف نجاه عثمان فتشفع له وأنقذه وكيف أنه كان أول الصادحين لعثمان بعد ذلك بالبيعة في المسجد، وبعض الاسترجاعات تكون متخيلة ولكنها في ضوء تكوين الشخصية وسماتها وميزان بنائها الثابت والنفسي والإنساني مثلما نجد مع بعض الاسترجاعات عن عبد الرحمن بن ملجم الدالة على تشدده وذلك في إطار مشهد محاصرته من أجل نزع مصحفه في بيت سودان، فتأتي استرجاعات لامعة وكاشفة عن رحلة سفره وتصرفاته المتشددة وقت حضوره حفل إعادة ترسيم بنيامين بطريريك الأقباط في الإسكندرية وكيف صدح بالأذان في وسط هؤلاء المسيحيين الفرحين بعودة شعائرهم ونسي أنهم أهل عهد وأمان وشعائرهم محفوظة، ويحدث جدل بينه وبين صالح القبطي الصحابي الذي يختلف عنه تماما وهنا لمحة ذكية تسلمنا إلى جماليات أخرى عديدة أهمها أن القيم دائما في نهر هذه الرواية وفضاء عالمها هي قيم متصارعة ومتصادمة ومتنوعة ولا توجد هيمنة لقيمة على الأخرى إلا في لحظات قد ينحسر فيها العقل وينحصر وتحدد إقامته أو مساحة إعماله، فنجد قيما مثل الاجتهاد والرقة والتصرف والفهم والفكر تقابلها قيم أخرى من الجمود والجلافة والتضليل والثبات، وكل هذه القيم تأتي مجسدة في شخصيات ولا يتم البوح بها بشكل مباشر، بل يحدث لها تحويل تمثيلي فكل شخصية هي ممثل لقيمة أو عدد معين من القيم التي تتجسد فيها، وهذا ما يشكل لدينا في النهاية لوحة إنسانية ثرية وحافلة بالتناقضات والمفارقات التي يبدو كثير منها كوميديا أو مصدرا للفكاهة، وإن كان بعضها يتوالد من المأساة. فنجد مثلا عديد المفارقات والمواقف الكوميدية تنبع من شخصية عبد الرحمن بن ملجم المرادي الذي يمثل نموذجا للقسوة والشدة ومحدودية الفكر ويمثل الحرفية، وثمة عبارات كثيرة تحاول اختزاله وربما أحيانا التعاطف معه في سرد متوازن، فهو أحيانا ذلك الرجل الذي يشري آخرته بدنياه رأى الدنيا زيادة أو ملحقة بالآخرة التي هي هدفه الأساسي، والحقيقة أن الرواية هنا تكشف عن أمر مهم وهو أن الدين دائما أو أي فكر ديني بشكل عام إنما ينعكس في النفوس بما هي مجبولة عليه من البداية وبما في هذه النفوس من الأساس، وأن النفوس مرآيات مختلفة يتشكل الدين الواحد فيها بأشكال مختلفة فالدين والقرآن والفهم والأمة والإسلام تتجسد في نفس عمرو بن العاص بشكل مختلف عنه عند المرادي أو عند محمد بن أبي بكر أو عند أخته عائشة أو عند عليّ وهذه هي إحدى أهم رسالات الخطاب السردي لرواية رحلة الدم المتوارية في الأعماق أو غير المباشرة، أن هذه ليست أديانا أو دينا واحدا بل هي تمثلات عديدة للدين الواحد وفهوم مختلفة لكليات واحدة أو لأفكار كلية واحدة. فالمرادي يريد إعلاء كلمة الله على طريقته ووفق تربيته وجبلته وثقافته البدوية حيث نجران التي نشأ فيها عبدا معوزا فقيرا وتربى عند معاذ بن جبل الذي ضرب زوجته لأنها منحت في يوم طفلا بقية تفاحة كانت تقضم منها، كل هذا مما تجسده الرواية فتشكل عمقا تاريخيا لكل شخصية وتجعلها نموذجا إنسانيا كاملا ومقنعا في إطار اللوحة الشاملة لعالم الرواية وتفاصيلها أو أحداثها الكثيرة. في مقابل ابن ملجم هناك صالح القبطي ابن الحضر المصري الصحابي الذي آمن ولكنه يؤمن بالخلاف ويفهم الإسلام وفق هذا النهج ووفق طبيعته وثقافته ويذكر من تصرفات الرسول وخليفتيه أبي بكر وعمر ما يدعم فكره ويؤيد وجهة نظره، ويدور جدل طريف وفكاهي بينه وبين ابن ملجم المتشدد، وهي ذاتها النماذج التي تنطبق على حياتنا حتى هذه اللحظة وهذا ما يمثل أهيمة الرواية لأنها تقرأنا عبر هذا السرد التاريخي وتتماس من أسئلتنا وقضايانا الراهنة عبر هذه الفترة التاريخية الصاخبة، بل هي بالأساس تتماس مع ما هو إنساني مطلق من صراع الأفكار والمعتقدات بشكل عام عند أي أمة مما قد يؤدي إلى القتل والدم.

 

وهناك عدد من المشاهد المركزية المشحونة والتي تمثل نماذج سردية غاية في البراعة منها هذه المشاهد بين ابن ملجم المتشدد ومن يناقضونه من الآخرين وبعضها في غاية الظرف والكوميديا مثل ذلك المشهد الذي يغضب فيه على عمرو بن العاص لأن الجنود لا يسمعون له وحين يجيبه ابن العاص بأنها الحرب يقول ابن ملجم ولكنهم انشغلوا بالنساء، فيرد عمرو وهل تريد مني أن أخصيهم؟! وغيرها الكثير من المشاهد الأخرى المضحكة وغيرها مما يبكي، ومنها مشاهد فيها السياسة والحكمة في أعلى صورها وأخرى فيها الجهامة والعنف والتشدد وغشاوة القوة والغضب، وهذا كله ما يشكل اللوحة الإنسانية ويجعلها نابضة كما ذكرت وكررت، ولهذا يمكن القول بأن الغاية الجمالية لا تتحقق دون الكشف عن السمات الإنسانية من الغضب والضعف وغيرها من القيم المناقضة، وهذا ما قد يصور للبعض أن في الرواية إساءة لصاحبة أو تابعين، والحقيقة أنه ليس إلا إبراز للجوانب الإنسانية التي لا يمكن لعاقل أن ينكرها، فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يتوانى القرآن على التأكيد مرارا أنه بشر وهذا أمر مهم في جوهر رسالة الإسلام، فإذا كانت بشرية الرسول متحققة بل واجبة في الإيمان بها وترديدها فما بالنا بالصحابة والتابعين، ولا يفهم كثيرون أن عصمة الرسول إنما هي خاصة بالنقل وتبليغ الرسالة والقرآن وحسب وليست عصمة شاملة لكافة تصرفاته البشرية، وكثير من المرويات المتواترة تثبت أنه قدر أمورا بشكل خاطئ وأنه صلى الله عليه وسلم كان مجتهدا مثل ترك تلقيح النخيل أو اختيار مكان معركة بدر، والقرآن ذاته فيه لوم للنبي في بعض التصرفات.

 

ما يهمني بدرجة أكبر هو ما ينتج عن هذا الخطاب السردي من الجماليات ولكني أريد كذلك التأكيد أن هذه الجماليات كلها إنما كانت نابعة من الحقائق التاريخية المؤكدة وبخاصة في كل ما هو جوهري أو مفصلي من الأحداث. والحقيقة فإني أرى أن هذه الرواية دعاية عظيمة لعصر ثري على المستوى الإنساني وبخلاف كثيرين لا أرى فيها إساءة للصحابة بقدر ما أرى توازنها في تصويرهم بما يجعل الجميع يبدون في كثير من الأحيان على حق، فقد خضع السرد لمنطق كل شخصية وجسد أفكارها ووجهة نظرها بموضوعية وأمانة كبيرة ومن هذه المشاهد البارزة في الرواية والدالة على هذا التوازن ما يحدث في مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط بعد أن يغضب عمر بن الخطاب على عمرو ويرسل له محمد بن مسلمة ليأخذ نصف ماله، فيقع جدل وخلاف بينهم في الجامع فتتجلى ملامح كل شخصية ويتجلى منطقها وتوجهاتها وتتجلى بقايا ما في أعماقهم من التربية على ثقافة ما قبل الإسلام وعلى العصبية والمباهاة ولكن تتجلى كذلك أنماط من السياسة والعقل واللاعقل أو من الفهم والتجديد والاستحداث ومن الجمود والحرفية والتقليد الأعمى أحيانا، فتبدو هذه الصورة التي يشكلها مشهد خلافهم ونقاشهم في المسجد أشبه بجلسة برلمانية مصغرة أظن أنها صورة مشرفة وتبرز جانبا إيجابيا في هذا العصر وفي سمات بعض رجاله وتعقلهم الشديد وتطبيقهم لما يعتقدون فيه أنه صحيح الدين من القرآن والسنة.

 

ومن أمثلة هذا المشهد أيضا ذلك الذي يدور في بيت عائشة ويتناقش فيه عثمان وعليّ حول خلافهما وحول حكم عثمان واختلاف نهجه من وجهة نظر عليّ عن نهج أبي بكر وعمر وكيف كان الحوار في صورته الإجمالية بينهما نموذجا للمحاججة والحوار العقلي والمناظرة الحافلة بالبلاغة والذكاء والتكافؤ والمحيرة للمتلقي بحيث يتقلب في مشاعره بينهما مع كل مقولة يلقي بها أحد الطرفين، وهذا المشهد تحديدا في لغته وبلاغته كاشف عن لغة الرواية بشكل عام وكيف أنها تنحت لغة خاصة عصرية ولكنها تتشكل من لحم لغة ذلك العصر وروحه وقريبة في أنماطها البلاغية والتركيبية من النثر القديم، ولكنها برغم هذا التماس والقرب تبقى لغة سرد روائي حداثي وجديد تماما. وغيرها الكثير من المشهد المهمة والدالة والثرية ومنها مثلا مسألة تشبيه عثمان بنعثل اليهودي وبحث نائلة زوجته عن نعثل وإصرارها على معرفة ذلك الرجل اليهودي الذي شبهت به عائشة عثمان وقد كانت زوجة الخليفة تحبها وتلازمها وتأخذ عنها علوم الدين والدنيا، فتقودنا هذه المقولة إلى مغامرة طريفة مع شخصية فرعية في غاية الجمال لما في حياته القصيرة من المأساة والغرابة وتنفجر الحقائق عن رحمة عثمان وعطاياه في آخر مشهد نعثل في المقابر، وهكذا تبدو بعض المشاهد في غاية الثقل عاطفيا وتدفع المتلقي إلى البكاء أو الانحياز مثلما تدفعه مشاهد أخرى إلى الضحك ولو كان ضحكا من مأساة قابعة في أعماق الحكاية.