من المسائل
الخطيرة التي حاول
معالجتها فلاسفة التاريخ، أطوار الحضارة
في مختلف الأقطار
و الأزمان : كيف تنشأ،
تم تنمو وتشتد
، ثم تتحول
وتتبدل ، ثم
يدركها الضعف ويعجل
إليها الفساء؟ وقد
ذهبوا في تناولهم
لتلك الظاهرة مذاهب
شتى ، فقال
بعضهم : إن مرجعها
إلى الظروف الاقتصادية
، وأرجعها آخرون
إلى ظروف عسكرية
، و قال
فريق إن مردها
إلى انتشار أمراض
جسدية أو وبائية،
وفريق آخر أرجعها
إلى علل اجتماعية
وروحية .
ولا نظن أن
الفكرة الأخيرة قد
قيلت في هذا
الموضوع الخطير ، أو أنه
قد وفي حقه
من البحث الكامل
الدقيق . لأن حضارات
الأمم ظاهرات - معقدة ، تشتمل على
عناصر عديدة وتحيط
بها ظروف شتی
و وتفاعل العوامل
المختلفة بجعل من
الصعب أن نضع
قاعدة واحدة مطردة
يسهل تطبيقها على
كل حضارة في
الأزمنة القديمة والحديثة
ولسنا بحاجة - ونحن نتحدث
عن أزمة الثقافة
في مصر في
الوقت الحاضر- إلي
الرجوع إلي بحوث
هؤلاء الفلاسفة ، وهي
في العادة بحوث
يكتنفها التشاؤم ، وتنطوي على
كثير من الافتراضات
التي لا تستند الى
واقع ملموس ، ولكنا سقنا
الكلام عنهم لأن
بعضهم يزعم أننا
إذا درسنا أطوار
المدنية في
مختلف الأقطار وعلى
الأخص في العصور
الغابرة ، رأينا
أن التقدم في
نواحي الثقافة وعلى
الأخص في الأدب
والفنون والعلوم النظرية
، كان يتلوه
دائما التقدم المادي
في الثروة ومظاهر
الرخاء والترف وفي
هذه الفترة تضمحل
الثقافة وتضعف ضعفا
ظاهرا، فهؤلاء الفلاسفة
استطاعوا - أو خیل
إليهم أنهم استطاعوا
أن يجعلوا للحضارة
في نشوئها وازدهارها
و فنائها مراحل
متتالية : أولاها التفوق
العسکری ، ثم
التقدم الفكري ، ثم الرقي
الاقتصادی ، ثم
يدب فيها الغناء
تدريجيا .
ولم يكن
من الصعب على
هؤلاء الكتاب في
فلسفة التاريخ أن
يجدوا أمثلة يستندون
إليها في تحقيق
أهدافهم ، اقتبسوها
من حضارة اليونان
أو الرومان أو
الفرس أو العرب
أو غيرهم من
الشعوب .
ولعل بعضهم
اضطر لأن يحور
بعض الحقائق التاريخية
تحويرا يلائم هذه
النظرية.
ولسنا هنا
بصدد الاستدلال على
صحة هذه الدعوی
أو بطلانها، لكنها من
غير شك قضية
جذابة لأنها تركز
في عبارة وجيزة
فلسفة عامة شاملة
للتاريخ ، وإن
تعذر أحيانا تطبيقها
على جميع الحضارات
في جميع العصور
. ولا بأس علينا
أن نحاول تطبيقها
على حضارة مصر
الحديثة، وهي حضارة
يجب أن ينظر
إليها نظرة مستقلة
، على أنها
مثل حضارة قائمة
بذاتها وليست وليدة
الحضارة المصرية في
العصور القديمة أو
الوسطى ، بل
هي نهضة جديدة
لها مراحلها الخاصة
بها ، وهي
إن دلت على
شيء فإنها تدل
على أن في
وادي النيل حيوية
ليست في أي
قطر آخر ، كان هذا
الوادي قد كتب
له أن يكون
دائما مبعثا لحضارة
قوية، تنشأ على
مر العصور ، و تشتعل
جذوتها بعد طول
خمود.
وقد كان
لمصر الحديثة من
غير شك نهضة
عسكرية خطيرة ، وعما قريب
تحتفل مصر بتلك
النهضة بإحیاء ذكری
بطلها الأكبر إبراهيم
باشا الذى قاد
جيوش مصر النافرة
في مختلف الميادين
والأقطار والأقاليم ، ثم جاءت
بعد ذلك من
غير شك نهضة
أدبية عربية أحيت
بها مصر العهود
العربية الأولى ، ونبغ في
سمائها نجوم في
الشعر والأدب نستطيع
من غير إسراف
أن نضعهم إلى
جانب النجوم التي
لمعت في العصر
العباسي ، وكان
هذا النبوغ الفني
أظهر ما يكون
في أواخر القرن
الماضي وأوائل القرن
الحالي. ونوابغ الأدب
إلى يومنا هذا
ينتمون جميعا إلى
ذلك الفريق النابه
الذي مازلنا نرتع
في ظله ، ونتعذی بثمار
أدبه.
ويمتاز العصر
الذي نعيش فيه
اليوم بنهضة اقتصادية
لا شك فيها،
فقد أخذت مصر
تضرب بسهم وافر
في ميدان التجارة
والصناعة ، وفي
الإنتاج المادي بمختلف
ضروبه وأشكاله . فهل صحت
فينا تلك النظرية الفلسفية
وانطبقت تلك المراحل
المزعومة الحضارة على
حضارتنا الحديثة؟
لا شك
أن ظواهر الأمور
تشير إلى شيء
من هذا القبيل
، ولكن الظواهر
قد تخدع ، والإرادة البشرية
أجلّ وأسمي من
أن تخضع لنظريات
وافترافات. ويختلف
العصر الحديث عن
العهود الغابرة بأمور
منها: حدة
الوعي القومي وتنبه
الشعب كله لمصيره،
واشتراكه في تكييف
ذلك المصير. وحرصه
على دراسة علله
وأمراضه ، و
بذله جهودا قوية
لمعالجتها والقضاء عليها.
فلا بد
لنا -إذن-
إذا
كنا حريصين على
تنمية حضارتنا الحديثة
وعلى تقدمها وازدهارها،
أن نكشف عن
أدواتنا وأن نسعى في علاجها ، ومن أخطر
هذه الأدواء تلك
النزعات المادية التي
لم يكفها أن
أغارت على دوائر
التجارة والاقتصاد ، بل مدت
مخالبها إلى حظيرة
العلم ، ونشبت
أظفارها في حرم
الفكر والفن ، کنا في
أيام حداثتنا ننشد
ذلك البيت الساذج
من الشعر العربی:
رضينا قسمة الجبار
فينا، لنا علم وللجهال
مال أما اليوم
فإن الإخلاص للعلم وللفن شيء
نادر لا تقره
النزعات الحديثة . وأصبحنا نرخص
العلماء إن بلغوا
باب الكسب والتجارة
بإذن رسمي من
الدولة. والأساتذة في
جامعاتنا، على الرغم
من سخاء الدولة
عليهم بالمرتبات الطيبة
التي لم يكن
يحلم بها آباؤهم
مصرون على أن
يرخص لهم في
طرق أبواب المكسب
والبحث عن الثروة
خارج الجامعة ، بعيدا عن
حجرات العلم والبحث.
وكان هذا الترخيص
فيما مضى من
الزمن مقصورا على
أساتدة الطب فإن
بعضهم لا يقضى
بين طلابه إلا
لحظات قلائل في
كل يوم وبعضهم
لا يزور معهده
الذي ينتمي إليه
إلا لمما ، مرة في
كل شهر . أما وقته
كله فليس مصروفا
في البحث العلمي
، بل في
المكسب المادي . وهذه الميزة
التي كانت للأطباء
وحدهم لم تلبث
أن نالها رجال
الهندسة ، فسمح
لهم بفتح المكاتب
الخاصة والاضطلاع بمشروعات
تدر عليهم ربحا
جزيلا ، ثم
تلاهم رجال القانون
والزراعة والاقتصاد ، وأصبح لدينا
اليوم جيل كبير
من رجال العلم
يتقاضون من الدولة
أجرا طيبا لتربية
الجيل الجديد وتلقينه
العلوم والمعارف ، ومساعدته على
النبوغ والتفوق.
وهم يهملون
هذا الجيل الجديد
الإهمال كله ، تاركين حبله
على غاربه . ويحدث هذا
كله بإذن الدولة
وبترخيص رسمي منها
، كأن الدولة
تعاون على إضعاف
مستوى الشباب ، في الوقت
الذي تزداد الأعباء
الملقاه على عاتقه.
وسرت عدوى
هذه النزعة المادية
إلى طبقة المعلمين
في المدارس، وفي
هذا الخطر كل
الخطر ، فقد
جرف التيار المادي
هذا الفريق من
أبناء الأمة كما
اجتاح غيرهم ، وابتكروا لتحقيق
شهواتهم المادية شيئا
سموه “ الدروس الخصوصية”
فأهملوا التدريس في
قاعات الدرس والتحصيل
، لكي يفزع
إليهم الطلاب ، ملتمسين منهم
درسا خاصا، ولست
أزعم أن جميع
المدرسين من هذا
الطراز ، ولكن
الشكوى المريرة التي
تتصاعد من أفواه
الآباء ، تؤكد
أن هنالك علة
خطيرة يجب استئصالها
والقضاء عليها.
وهنالك ناحية
أخرى ، لعلها
الركن الأساسي في
أزمة الثقافة في
مصر اليوم ، ألا وهي
السياسة التي يجري
عليها التعليم في
مصر، وهي سياسة
تتوخي الكم ولا
تتوخى الكيف ، وتحرص على
كثرة المدارس وعدد
الفصول و ازدحامها
بالطلاب ، أكثر
من حرصها على
جودة التدريس وحسن
اختبار المدرسين وتوفير
الوسائل التي ترقى
بالتعليم وتنهض بالطلاب
. وقد ظهرت هذه
النزعة منذ الحرب
العالية الأولى ، وأخذت تزداد
في العهد البرلماني
زيادة ملموسة، وساعد
في ذلك أعضاء
البرلمان أنفسهم، فجعلوا
يحثون الدولة على
الإكثار من معاهد
التعليم في بلدانهم
وقراهم ، وتضطر
الدولة إلى مجاراتهم
، تمشيا مع
السنن البرلمانية والأساليب
الانتخابية ورأى رجال
المعارف أن عدد
المعلمين غير كاف
، وأن في
العرض تقصيرا عن
الطلب ، فجعلوا
يخرجون المعلمين تخريجا
مفتعلا في فصول
نهارية أو ليلية،
او بواسطة دراسات
صيفية لم تستغرق
سوى بضعة أسابيع
، يخرج بعدها
المرء معلما، ر
ضينا ذلك أم
كرهنا، ويكفي أن
تكتب على الملح
أنه سکر أو
على الحمار أنه
حصان ، حتى
يغدو حصانا له
الحق الرسمي في
أن يحشر في
زمرة الخيل
واذا كان
كثير من المعلمين
قد أنتجوا إنتاجا
فجا، والطلاب يخرجون
إخراجا فجا ، فليس لنا
أن نندهش من أن
مستوى الثقافة أخذ
في التدهور ؛ لأن أبناء
المدارس وبناتها هم
المادة التي يبنى
بها صرح العلم
والثقافة والشباب الذي
يقدر دور العلم
وحظه من الثقافة
قليل مضطر لأن
يستمر بالغرور والادعاء
ما يعوزه من العلم
والعرفان ، وليس
من حسن السياسة
في شيء أن
نغلب الكم على
الكيف ، لأن
عددا قليلا ممن
حسن تعليمهم وتثقيفهم
أجدى على الوطن
وعلى الثقافة من
هذه الآلاف المؤلفة
من أنصاف المتعلمين
وأرباعهم، كما أن
ثمرة واحدة ناضجة
خير من مائة
ثمرة لجة ، وقد حاول
رجال التعليم إنقاذ
ما يمكن إنقاذه
فأنشأوا ما سموه
بـ مدارس “نموذجية” جعلت
تتقدم بالتعليم فترة
من الزمن ثم
لم تلبث أن
اشتد عليها الضغط
واكتسحها التيار الجارف،
فأصبحت كغيرها من
المدارس وفدت “نموذجية”
اثرا او حديثا يروی.
فانحطاط التعليم
في المدارس العلة
الكبرى في أزمة الثقافة
في مصر، لأنه
نزل بمستوى الطبقات
المسماة بالتعليمية إلي
درك لا تستطيع
أن تحتفظ معه
بهذا الاسم ، وقد ترتب على هذا
الانحطاط أن الجيل
القديم من علمائنا
الأعلام قد عجزوا
عجزا فاضحا عن
خلق جیل يخلفه
، وهذا واضح
وضوحا قويا مع
الأسف الشديد في
ميدان الأدب العربي
، وهو عماد
الثقافة كلها في
مصر . فشبابنا يغادر
معاهد العلم اليوم،
وإلمامه بالأدب ضئيل
هزيل ، وعجزه
عن الكتابة الصحيحة
ومن الكلام الصحيح
ظاهر كل الظهور
. واطلاعه قليل أو
دون القليل ، وتفكيره السقيم
بکسوه بعبارة أشد
منه سقما وهزالا، وكثيرا ما
تراه يستر جهله
باللغة وآدابها ، بأن يتهكم
ويسخر ممن يحرصون
على إحيائها والتمسك
برصانتها، فينعتهم بمختلف الأوصاف . ولقد مضى
جيل عظيم من
أقطاب الشعر في
نهضة مصر الحديثة
، الذين نستطيع
أن نفاخر بهم
شعراء الأجيال السابقة،
فلم نستطع أن
نجد بين شبابنا
من يخلفهم أو
یرتوي منهم ، وأعقبهم جيل
من النظامين ، أحسوا قصورهم
وعجزهم فأخدوا يحاولون
سترهم بما يدعونه
من مبتكرات ومستحدثات
ثقيلة الظل لا
تستسیغها سليقة ولا
يقبلها ذوق سلیم
، ولولا أن
رعاية الله قد
استبقت بين أظهرنا
عددا من أبناء
الجيل القديم يحملون
إلی اليوم لواء
الشعر والأدب ، لأقفر منه
ربعنا إلى اليوم
، وأصبحنا في
ظلام دامس.
ومع ذلك
فقد أتيح لشبابنا
جيل من الأساتدة
الأعلام ، فلما
أتيح للشباب في
العصور الماضية وتولى
تعليم اللغة والأدب
في جامعة فؤاد
عدد من أنبغ
رجال مصر ، وأشدهم قدرة
على العلم والأدب
. ظلوا يجاهدون في
تنشئة شبابنا وتعليمه
زمنا ليس بالقصير
وأفنوا في ذلك
ما أفنوه من
قوة وجهد. لم
تخرج جهودهم - في هذا
العهد الطويل وبعد
هذه الرعاية والعناية
- سوی قرات قلائل
لا تكاد تسمن
أو تغني من
جوع وبعد، فهل
معنى هذا أننا
في حضارتنا الحديثة
قد انتقلنا من
مرحلة التقدم العقلي
، إلى مرحلة
التقدم المادي، وستتلوها
مراحل الاضمحلال والفناء
بالتدريج، أو من
غير تدریج ، طبقا لنظريات
الفلاسفة؟
إننی أميل
إلى التفاؤل، ولا
أنزع إلى التشاؤم
في هذا الأمر
، ولئن كانت
ظاهرة الانحطاط الثقافي
في مصر راجعة
إلى فساد سياسة
التعليم ، فإن
العقل والمنطق يقضيان
بأن الداء ليس
مما يستحيل علاجه.
ولكن
الخطوة الأولى التي
يجب أن نخطوها
في التسليم بأن
هنالك أزمة ثقافية
في مصر لا
شك فيها وأن
من الواجب أن
نشخص العلة تشخيصا
بعيدا عن الهوى
، وأن نعمل
على معالجتها بكل
ما أوتينا
من قوة.
ولئن لم
تسعفنا الدولة بإصلاح
معاهد التعليم ، وظلت خاضعة
لهذا الضغط الشديد
الذي يفسد التعليم والمتعلمين
، فإن واجب
قادة الرأي في
مصر أن ينشئوا
معاهد حرة مستقلة
عن الدولة ، يختارون لها
أفضل المعلمين ، ويزودونها بجميع
الوسائل والنظم التي
تكفل للطلاب كل
رعاية ونجاح ، ولعل مصر
من البلاد القلائل
التي تعتمد على
الدولة الاعتماد كله
، على أن
أرقي المدارس في
كثير من الأقطار
الأوروبية والأمريكية ، هي المعاهد
الحرة التي أنشأها
رجال ونساء امتلأوا
فيها على أبناء
وطنهم وأرادوا أن
يهيئوا للجيل الجديد
فرصة الرقي والتقدم
، فإذا استطعنا
أن ننشئ أمثال
هذه المعاهد، التي
أنشأت نظراءها الجاليات
الأجنبية في مصر،
أمكننا أن ننقذ
الجيل الجديد ، وأن نجد
العلاج الناجع لأزمة
الثقافة في مصر.