بقلم – طارق الحريرى
تلوح فى أفق السياسة الدولية من حين لآخر الأزمة الكورية الشمالية المزمنة وفى أحيان كثيرة يستحضرها أحد الأطراف الرئيسية فى هذا الملف، بمعنى آخر، فإن اشتعال الصراع سياسيا وعسكريا فى ذروة جديدة فى كل مرة إما أن تكون كوريا الشمالية فاعل أساسى فيه بحثا عن مساعدات أو تقليل ضغوط تتعرض لها أو أن تكون مستدعاة لضبط إيقاع مصالح بين قوى كبرى تناور بأدوات مختلفة كما هو دائما حال السياسة الدولية، وهنا علينا أن ننتبه إلى أن الدول المنخرطة فى عملية التهدئة فى كل مرة يحتدم فيها الموقف هى الولايات المتحدة والصين واليابان وبالطبع كوريا الشمالية ثم ما تلبث أن تخمد ذروة النزاع بعد أن تكون التسويات بين الفرقاء قد تم التوصل إليها.
لذلك ليس من المستغرب أن يشيد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالصين لدورها فى ممارسة ضغوط على كوريا الشمالية، ودافع عن تعديل موقفه إزاء التجارة مع الصين: قائلا “لم أغير موقفى لأن الصين تسعى إلى مساعدتنا ربما لا أعرف إن كانوا سينجحون فى ذلك أم لا، ولكن كيف أصدر تصريحات قوية عن التجارة أو التلاعب بالعملة ضد من يسعى إلى وقف ما يمكن أن يتطور إلى وضع سيئ جدا؟، أظن أنه يمكنكم فهم هذا، وفى المقابل صرح “مايك بنس” نائب الرئيس الأمريكى إن كل الخيارات مطروحة على الطاولة فيما يتعلق بالتعامل مع كوريا الشمالية، واستطرد أن الرئيس دونالد ترامب عاقد العزم على العمل مع اليابان والصين وكوريا الجنوبية للتوصل إلى حل سلمي، وبذات التوجه نوه وزير الدفاع الأمريكى جيم ماتيس أمس فى تصريح حول الأزمة الكورية بأن بلاده ستتعاون مع الصين لمحاولة الحد من التوتر.
الحسابات والتساؤلات السياسية
الكوريون الشماليون ليسوا مفعولا به بين الأطراف الخارجية؛ إذ تدرك القيادة السياسية فى بيونج يانج أن نظراءها فى كل من واشنطن وبكين لديهم حرص شديد على عدم انهيار النظام الحاكم فى كوريا الشمالية؛ لأن ذلك يتعارض مع المصالح القومية العليا لكل من الإدارتين الأمريكية والصينية على السواء؛ لأن سقوط كوريا الشمالية معناه أن يسقط الحاجز العازل بين القوات الصينية من جهة والقوات العسكرية الأمريكية المتمركزة فى كوريا الجنوبية من جهة أخرى، وبصفة عامة فإن التساؤلات المطروحة منذ أكثر من عقدين مازالت تكرر نفسها، ومنها على سبيل المثال إذا ما تحققت الوحدة الكورية وهو احتمال قائم من قبل- من كان يظن إعادة توحيد ألمانيا - فهل ستوافق واشنطن على خفض أو سحب قواتها من شبه الجزيرة الكورية واليابان؟، وهل يمكن أن يدفع تدهور الأوضاع فى كوريا الشمالية إلى قبول بكين وواشنطن أن تمتلك كل من اليابان وكوريا الجنوبية السلاح النووي؟
ليس من الصعب التنبؤ بما ستؤول إليه التشاحنات الإعلامية والتلاسنات المملوءة بالتهديد والوعيد فى الوقت الحالى بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية؛ لأن ما يحدث الآن لما يبدو أنه صراع بين الطرفين قابل للاشتعال لا يزيد عن كونه حلقة جديدة من سلسلة طويلة من التجاذبات التى يصعب أن تنقلب إلى صراع عسكرى مباشرة على نطاق واسع.
نظرة تاريخية
منذ أن فصل خط العرض٣٨ بعد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب وكان الاتحاد السوفييتى السابق قادرا على أن يزيد بسهولة من مساحة كوريا الشمالية، إلا أن القيادة السوفيتية أحجمت عن هذا لدعم موقفها فى التفاوض بشأن أوربا الشرقية وبقى الشمال الكورى تحت حماية الصين والاتحاد السوفيتى؛ لذلك لم تتمكن أمريكا طوال فترة الحرب الباردة من تجاوز حدود التقسيم وواقعيا منذ يونيو ١٩٥١ وبعد سنة من المعارك العنيفة بين طرفى شبه الجزيرة الكورية التى لم تحسم على الأرض، فلا الأمريكيون وحلفاؤهم دحروا المد الشيوعى ولا الشيوعيون الكوريون وحلفاؤهم السوفييت والصينيون استطاعوا توحيد شطرى كوريا تحت اللون الأحمر وتدريجيا صارت الصين الطرف الفاعل، وفى النهاية اقترح مندوب الاتحاد السوفييتى فى الأمم المتحدة وقفا لإطلاق النار وتم التوصل إلى اتفاق فى الأمم المتحدة بتوافق الولايات المتحدة والصين فى ٢٧ يوليو ١٩٥٣ بقرية“بانمونغوم” وعلى الرغم من انتهاء الحرب؛ إلا أن النزاع الحدودى ما زال حتى هذا اليوم مستمرا بين الطرفين.
استراتيجيا، تغيرت المعادلة كثيرا بعد سقوط الاتحاد السوفييتى والتحولات الاقتصادية فى الصين التى أثرت على طبيعة علاقاتها الدولية وإن كانت الصين لاتزال ذات تأثير نسبى فى الملف الكورى الشمالى، نظرا لما تقدمه من مساعدات اقتصادية لبيونج يانج التى حصلت فيما مضى على دعم ضخم من جمهورية الصين الشعبية ودعم محدود من الاتحاد السوفييتى فى مجال المستشارين العسكريين والطيارين والأسلحة؛ لكن الأهم هو أن كوريا الشمالية انتهجت سياسة مستقلة منذ عام ١٩٧٠ فى صناعة أسلحة الردع وتحديدا فى مجالى الصواريخ الباليستية والأسلحة النووية، مستغلة فى ذلك مظلة الحماية من الصين والاتحاد السوفييتى فاستطاعت بناء قدرات عالية فى التخصيب ووصلت إلى السلاح النووى على عكس محاولة بناء مفاعل نووى فى العراق الذى تعرض للتدمير بواسطة القاذفات الإسرائيلية بمباركة ودعم استخباراتى ومعلوماتى أمريكى، وفى مجال الصواريخ الباليستية حققت كوريا الشمالية تقدما هائلا فى هذا المجال رغم بعض التجارب الفاشلة وآخرها تجربة شهر إبريل الحالي؛ إذ من المؤكد أن بيونج يانج تمتلك صواريخ متعددة المدي أى القصيرة والمتوسطة، وأنها قادرة بالفعل خلال أقل من عامين على أن تحوز صواريخ بعيدة المدى يمكن أن تطول الساحل الغربى الأمريكى وإن كان من غير المؤكد مدى دقة الصواريخ بعيدة المدى، لكن يبقى الاحتمال كبيرا بقدرتها على حمل رءوس نووية، مما يجعل من الآلة العسكرية مصدر تهديد خطير للولايات المتحدة وهذا ماحذرت منه أجهزة المخابرات الأمريكية.
عوامل التوازن الاستراتيجى
ومع هذا فإن التوازن الاستراتيجى فى معادلة القوة العسكرية والاقتصادية بين طرفى المعادلة بين كوريا الشمالية فى مقابل كوريا الجنوبية والولايات المتحدة يكشف إلى أى مدى يبلغ الفارق الهائل؛ إذ تبدو كوريا الشمالية كما لو كانت فأرا صغيرا لكنه قادر على إيذاء ديناصور مخيف وذلك للاعتبارات الآتية:
أولا: بالنسبة للقوات التقليدية وغير التقليدية فإن قدرات الجيش الكورى الشمالى طبقا لآخر تصنيف من مؤسسة جلوبال فاير باور تشير إلى أن عدد القوات من الأفراد فى الخدمة مليون ومائتا (١٢٠٠٠٠٠) ألف جندى والجنود فى الاحتياط أربعة ملايين ونصف المليون (٤٥٠٠٠٠٠) جندي، وفيما يخص القوات البرية تمتلك بيونج يانج ٤١٠٠ عربة مدرعة و٤٥٠٠ دبابة و٥٥٠٠ قطعة مدفعية ٢٥٠٠ قاذفة صواريخ تكتيكية ١٥٠٠٠ من المقذوفات الموجهة المضادة للدروع ٣٥٠٠٠ مركبة دعم لوجيستى و٢٠٠٠ من أنظمة الهاون المحمولة، وفيما يخص القوات الصاروخية تبلغ ترسانتها قرابة ٢٤٠٠ نظام صاروخى عبارة عن نودونج الذى يبلغ مداه ١٠٠٠ كم وتايبودونج١ الذى يبلغ مداه ٢٢٠٠ كم وموسودان ومداه ٤٠٠٠ كم وتايبودونج٢ بمدى يصل ٦٧٠٠ كم وتايبودنج ٢ المعدل، ومن المتوقع له مدى يصل إلى ١٠٠٠٠ على أقصى تقدير خلال عامين على الأكثر، أما عن القوات البحرية فهى تتكون من ٧٠ غواصة، ٢٥ كاسحة ألغام، ٣ فرقاطات، وحوالى ٤٠٠ قطعة من لنشات الصواريخ ومراقبة السواحل وسفن التموين، وفيما يخص القوات الجوية وهى تعد ضعيفة وهزيلة بمقاييس العصر؛ فإنها تتشكل من قرابة ١٥٠٠ طائرة ما بين طائرات هجومية ثابتة الجناحين واعتراضية ونقل وتدريب، أما فيما يتعلق بالرءوس النووية يوجد عدد غير معروف منها؛ لكن من المؤكد أنها تمتلك عددا منها يشكل خطورة بالغة فى حال استخدامها كما تمتلك أسلحة كيميائية غير معلن عن تفاصيلها وإن كان يعتقد أن مخزونها كبير، ومع كل هذا فإن ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية تبلغ ١٠٠ مرة مثيلتها فى كوريا الشمالية، وهذا يكشف بطبيعة الحال الفارق الرهيب فى ميزان القوة لصالح الولايات المتحدة.
ثانيا: كل هذه الترسانة الضخمة من الأسلحة التقليدية والأعداد الهائلة من الجنود جعلت الجيش الكورى الشمالى يأتى فى المرتبة الرابعة للقوات تحت السلاح بين كل جيوش العالم وفقا لما ذكرته وزارة الخارجية الأمريكية ومراكز الدراسات الاستراتيجية الدولية، ومع هذا فإن التقييم الواقعى للقوة فى كوريا الشمالية لا يجعلها تحتل موقعا متميزا فى مصاف القوى الكبرى؛ بل إن الولايات المتحدة تمتلك من الإمكانات ما يجعلها تستطيع أن تبيد كل المواقع النووية وأماكن تمركز الجيش ومنصات الصواريخ الباليستية لكن نتيجة مثل هذا التصرف يمكن أن يتسبب فى نتائج كارثية فى جنوب شرق آسيا بالكامل نتيجة الإشعاع النووى بعد انفجار المفاعلات والرءوس النووية التى تمتلكها كوريا الشمالية، وما يمكن أن ينتج من رد الفعل فى حال نجاح إطلاق صواريخ حاملة لرءوس نووية على كل من كوريا الجنوبية وقواعد الولايات المتحدة فى المنطقة.
ثالثا: تدرك القيادة العسكرية والسياسية فى كوريا الشمالية بالطبع هذه الحقائق، لذلك خرج تصريح من هيئة الأركان العامة للجيش الكورى الشمالى جاء فيه “إذا اعتدت واشنطن على بلادنا فسترد بيونغ يانغ بقصف القواعد العسكرية الأمريكية ومقر الرئاسة فى سيول”، وقال البيان الذى نشرته وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية “: سنقوض كل الاستفزازات والمكائد السياسية والاقتصادية والعسكرية ذات الطبيعة الاستفزازية وسينال أصحابها الرد القوى من جانب جيشنا وشعبنا”، ونوه ممثل جيش كوريا الشمالية أن رد بلاده سيتضمن خيارات توجيه ضربات استباقية برا وبحرا وجوا، وكأهداف محتملة للضربات الانتقامية قال المتحدث الكورى الشمالى إن الخطط جاهزة لضرب القواعد العسكرية الأمريكية فى “أوسان” و”كونسان” و”بيونجتايك” بالإضافة إلى مقر الرئاسة الكورية الجنوبية “البيت الأزرق” وهدد بأن هذه “الأهداف ستتحول إلى رماد فى غضون دقائق” ودعا إلى عدم نسيان أن الصواريخ الكورية الشمالية موجهة ضد القواعد الأمريكية فى اليابان وداخل الولايات المتحدة، كما أكدت الأركان الكورية الشمالية أنها جاهزة لقصف حاملة الطائرات الموجودة بالقرب من بلادها.
قواعد اللعبة مع أمريكا
السياسة الكورية تعيد الآن إنتاج الحرب الباردة بنسخة جديدة تكيف بها مقتضيات إمكانياتها ذات الحساسية الاستراتيجية وتجلى ذلك فى إعلانها عن خططها العسكرية عمدا وإعلان التأهب فى قواتها الصاروخية، لذا يمكن القول أن التوجه الكورى الشمالى يتأسس على مبدأ إرباك العدو وإشغاله، وفى إطار هذا التوجه الاستراتيجى فإنه ليس ضروريا أن يكون الهدف تحقيق انتصارات عسكرية بقدر ما يكون المحافظة على استمرار الصراع وتصاعد وتيرته ليتزايد الضغط على الجانب الآخر باستخدام وسائل محدودة ولكن بأساليب تتسم بالمهارة والمرونة مع تواصل الضغط المعنوى، مما يحدث مناخ من البلبلة لدى أجهزة الدولة الأمريكية، فى حين سيحقق هذا الموقف تماسكا للجبهة الداخلية فى كوريا الشمالية، وهنا أستطيع أن أجزم أن الولايات المتحدة لن تستطيع الإقدام على مغامرة توجيه ضربة لكوريا الشمالية مثلما فعلت فى سوريا.