السلفية.. دعاوى التكفير وإرهاب التنظيم
بقلم – سفير د. رضا شحاتة
لاشك أنه فى التدقيق فى اختيار المصطلح الصحيح فى وصف أنشطة الإرهاب وممارساته الدموية الأخيرة فى مسرح عملياته، أو مسارح عملياته الموسعة ما بين سانت كاترين بالأمس القريب فى سيناء فى تلك البقعة المقدسة بالوادى المقدس (طوى)، وما بين ضرباته العشوائية العمياء فى بيوت الله وسط جموع المصلين وهم يرتلون ويبتهلون إلى الخالق «جل وعلا» فى كنائسهم ووسط رهبانهم وهم يحملون صلبانهم وأناجيلهم ويرفعون أصواتهم بطلب الرحمة والغفران ويدعون للسلام والمحبة، ما بين تلك القلوب الموصولة مع السماوات، وما بين العقول الضالة، والأيدى المخضبة بدماء النساء والأطفال والشيوخ والأبرياء، تجىء الكلمات لأول مرة لوصف جرائم الإرهاب بأنها من فعل التكفيريين أو العناصر (التكفيرية).
ولأول مرة وبكل الصراحة توصف أوصافهم وصفًا أدق وأصوب بما يتجاوز الوصف (الجنائى) أو السياسى أو الاجتماعى، ويكشف عن واحد من أكثر وجوه الإرهاب قبحًا وخطورة والتباسًا عند كثير من أبرياء الناس وهو ما يفرض على شيوخهم ونخبهم وعلمائهم وفقهائهم كشف ولا أقول فضح حقيقة ما يسمونه «بأيديولوجية التكفير» تلك ومخاطرها ليس فقط على أمن البشر وحياتهم واستقرارهم بل وعلى دينهم الصحيح وعلى عقيدتهم السوية فى ضوء الخلط المشوه ما بين حقيقة الإسلام وأباطيل خصومه مما يدعونه يومًا (بالسلفية) التى يذهبون بتأويلاتهم إلى حدودها القصوى إلى حد رفض الاجتهاد والتجديد، ثم يذهب بهم الغلواء والانحراف إلى وصفها فى صديق قاصدين عامدين بما أصبحت تطلق عليه «السلفية الجهادية» حتى باتت ترى «السلف الصالح» وهم الأسوة والقدوة للمسلمين فى عصورهم السابدقة وأقطارهم المترامية معادلًا لفكر أنصار الفكر الجامد، ودعاة رفض للإصلاح والتجديد ودون الحرص على عدم النيل من جوهر إسلامنا بنقائه وسماحته وبساطته، بل وحتى بات ذكر لفظ الجهاد والجهاديين مثارًا للجدل والتشويه لمن أساء التفسير وانحرف عن الفهم القرآنى القويم ووظف آياته الكريمة لمقاصده وغاياته السياسية.
وإذا كانت اليوم تلك الجماعة الإرهابية المسماة بتنظيم الدولة الإسلامية التى تنطلق فى أصولها الأيديولوجية من عقيدة التكفير قد واجهت عديدًا من النكسات على جبهات كثيرة ولم تزل تتعرض كل يوم وعلى يد قواتنا المسلحة فى وسط سيناء، وفى صعيد مصر ودلتا النيل لضربات قاصمة فى شكل من يتخفى تحت عباءات مفضوحة لجماعة الإخوان المسلمين ذات الصلات التنظيمية والتكفيرية بجماعات «السلفية الجهادية» أنصار بيت المقدس وما يطلق عليه طمعًا وعدوانا ولاية سيناء إذا كانت خلايا هذا التنظيم تتلقى الضربات القاصمة داخل مصر وخارجها (فى سوريا وفى العراق حيث تتراجع سيطرتهاعلى غرب الموصل وحيث يشتد الحصار حول الرقة السورية فهى كذلك تنسحب فى تأثيرها الدعائى والدينى وتواجه برفض واسع من الدول والشعوب الإسلامية بسبب استغلالها وتشويهها لصورة وحقيقة الإسلام داخل دوله وداخل دول العالم حتى فقدت الشرعية حين تفقد الشرعية حتى وصفت وعن حق أنها تنظيم لا تعدو أن تكون حركة مرتدة منحرفة لا علاقة لها ولا شأن لها بالإسلام عقيدة ومنهجًا وسلوكًا.
بيد أنه كلما كان لهذا التنظيم اللاإسلامى المرتد يفقد الكثير من تأثيره وكلما كان ينحسر عن مساحات كثيرة من أراضيه حتى إنه أوشك على مقربة من انهيار ما يسمى بخلافته المزعومة فقد حان الوقت لتكثيف الجهود مكافحة الأيديولوجية التكفيرية للتنظيم بما فى ذلك مفهوم الجهاد العنيف أو الجهاد القائم على اللجوء للعنف والقتل، والتفجير الانتحارى أو الانتحار التفجيرى، وما يسمونه بفلسفة أو عقيدة التكفير والهجرة حتى إنه بات حتميًا فضح نقائص هذه العقيدة إن كانت حقًا عقيدة لما تمثله من عدوان وافتقاد على أسس ومبادئ الإسلام الصحيح، وعلى منهج وأصول الفقه الإسلامى المستقر.
على أنه يجدر فى البداية القول أن جمهرة علماء المسلمين قد أجمعوا على أدانتهم لكل صور التشويه والتحريف التى لجأت إليها عقيدة التكفير فى تنظيم الدولة اللاإسلامية بدءا من مفاهيم الجهاد ومفاهيم الهجرة إلى دعوة الخلافة إلى معاملة غير المسلمين وإنزال العقاب بخصومها أو أعدائها، إذ وصف أكثر من مائة وعشرين عالمًا من علماء المسلمين فى خطاب مفتوح جرائم التنظيم أنها تشويه للإسلام فى شكل دين يدعو إلى الشراسة ويدعو للتعذيب والقتل فأساءوا إلى الاسلام والمسلمين، بل وأدينت تلك العقيدة التكفيرية بأنها تعادل وتناظر فى رأى كثير من فقهاء المسلمين جماعة الخوارج التى رفضتهم جماعة السنة فى القرن السابع الميلادى.
العناصر التكفيرية التى تصدت لها قواتنا المسلحة وعناصر الأمن الوطنى المتقدمة فى وسط سيناء، فى سانت كاترين، وفى صعيد مصر وفى دلتا النيل التى تعتنق فكر التفجير الانتحارى وتشوه مفاهيم الجهاد وتستحل العنف والقتل للمسلمين ولغير المسلمين تحت مسمى «القتل باسم الرب» ـ هذه العناصر إنما تنطلق من عقيدتهم التى تعلن وتقضى «بردة» المسلم أى أن المسلم يصبح مرتدًا فى حالات ومواقف حددتها حصرًا فى بياناتها حتى تبرر استغلال هذا المفهوم لقتله وذبحه أو تفجيره لا تستثنى منهم حكاما أو عامة، أو مثقفين وعلماء أو فقهاء ورجال دين، وعلى الرغم من أن التكفير أو الاتهام بالكفر كبيرة من الكبائر «فالجماعات التكفيرية» المتطرفة لا تتردد فى إساءة استخدام هذا المفهوم، وقد شرحت نشرات هذا التنظيم اللاإسلامى مواقفها من تكفير طوائف المسملين على اختلافهم فيما أسمته «عقيدة ومنهل» الدعوة الإسلامية فى التكفير، وفى هذه عقيدتنا ومنهجنا وهى تصنّف المسلمين بالكفار فمنهم على سبيل المثال الشيعة الاثنا عشرية، وكل من يؤمن بالشيوعية والعلمانية والقومية والليبرالية وكل من يدعو ويناصر الديمقراطية أو يشارك فى عملياتها، وكافة الحكومات التى لا تطبق الشريعة وكافة عناصر القوات المسلحة وضباط الشرطة والمخابرات والأجهزة التنفيذية والقضائية وكل من يسعى للحكم والقضاء بالقوانين المدنية.
والأخطر بل والأشد خطرًا من دلالات هذه العقيدة التكفيرية أن التدقيق فى المنظور الأيديولوجى للجماعات التكفيرية «الجهادية السلفية» تلك تكشف عن الكثير من التصريحات والمواقف والآراء المتناقضة لما تدعيه من التزام وتمسك بأهل السنة ومذاهبهم إذ إن ما تدعيه من تكفير للثقاة من فقهاء المسلمين وزعمائهم وساستهم من خلال المجلة التى كانت تلك الجماعات تنشرها إعلاميا والتى تسمى «دابق» ـ والتى غيرت اسمها الآن إلى ما يسمى «بالرومية» لا أساس لها ولا منطق يبررها فى ضوء ما استقرت عليه الشريعة الإسلامية «إذ أعلنت تكفير رئيس كلية الزيتونة فى بروكلى بالولايات المتحدة وهو المسمى «بحمزة يوسف»، كما كفرّت عميد الدراسات الدينية فى «كلية رودس»، وهو فى نفس الوقت عميد الشئون الأكاديمية فى معهد المغرب، ووصفتهما بالمرتدين لإدانتهما الهجوم الإرهابى فى يناير ٢٠١٥ على مجلة «تشارلى إبدو الفرنسية» حيث قتل اثنا عشر شخصا، وإذا كانت الشريعة الإسلامية الصحيحة لا تقضى بتكفير المسلم أو ردته بموجب (الظن) لا بموجب اليقين كما هو مستقر لدى جمهور الفقهاء فإن هذا التحريف والتشويه لشريعة الله هو الكفر ذاته للحكم بإزهاق النفس التى حرم الله إلا بالحق.
بل إن عقيدة (التكفير) التى تروجها جماعات السلفية الجهادية التى تشن حربها على المسلمين وغير المسلمين معًا تكمن فى قضائها بأن كل مسلم يقبل بالديمقراطية ومبادئها ومناهجها، إنما يخالف الإسلام شريعة وعقيدة لما تروج له تلك العقيدة التكفيرية من تناقض ما بين الإسلام والديمقراطية.
هذه الدعوة التكفيرية ذهبت فى غلوائها وتطرفها إلى الحد الذى دفع أكثر من مائة وعشرين من علماء المسلمين من كافة الأقطار بإدانتها ورفض دعاويها وقد وقع على هذا الخطاب كبار علماء المسمين أمثال «عبد الله بن بيه» رئيس منتدى الدعوة للسلام فى المجتمعات الإسلامية والدكتور شوقى علام مفتى الديار المصرية والدكتور صيام شمس الدين رئيس الجمعية المحمدية ورئيس مجلس علماء أندونيسيا.
ولعل مجمل القول فى تفنيد الدعاوى التكفيرية لجماعات الجهادية السلفية المنتشرة فى خلاياه التى تتلقى النكسات تلو النكسات وفرارها من جحورها فى الصحراء والأودية إلى السهول المفتوحة فى وادى النيل ومدنه الكبرى. لعل مجمل القول يكمن فى أن أيديولوجية التكفير تلك إنما تخرج على إجماع الأمةـ أمة الإسلام، التى لا تتجمع على باطل ـ هذه الأمة بفضل وحدة كلمتها وحكمة علمائها وفقهائها تستعصى على الانهيار والسقوط، ما دامت قد استمسكت باعتدال قيمها ووسطية فكرها وتعايش شعوبها مع غيرهم من الأمم الأخرى.
ولعلنا فى سياق هذا الطرح المكثف لبعض مضامين الأيديولوجية التكفيرية لعناصر التنظيمات الإرهابية السلفية الجهادية ـ المنتمية لفروع موصولة بتنظيم أنصار بيت المقدس الذى بايع تنظيم الدولة الإسلامية منذ ظهورها عام ٢٠١٤ تعود ولو قليلًا إلى تحليل المنظور الغربى والأوربى أو الأمريكى لظاهرة السلفية الجهادية التى يرى فيه صورة مجسدة لحركة التطرف المتأسلم العنيف، والذى يكاد يكون قد اجتاح الدول الإسلامية والعربية فى العقدين الأخيرين على الأقل، ثم تحاول إلقاء أضواء قوية على علاقات هذه الظاهرة السلفية الجهادية بالتنظيم العالمى والإقليمى والداخلى للإخوان المسلمين خاصة فى مصر ممثلة فى أنشطتهم خاصة فى صحراء سيناء أو وادى النيل.
علماء الغرب وفى مقدمتهم (أوليفر روى) من كبار المتخصصين الفرنسيين فى الحركات الإسلامية وآخر كتبه «الإغواء فى عقيدة الموت» (عن الجهاد والموت)، وفهم شيراز ماهر الأستاذ فى كنجز كولديج فى لندن الذى تطرق لدوافع التطرف وتطور «حركة التأسلم أو تطور الفكر السلفى، وكتابه تحديدًا عن «السلفية الجهادية» وكلاهما يرى أن حركة السلفية كرؤية فلسفية تسعى لإحياء تقاليد الإسلام فى القرون الثلاثة الأولى بعد البعثة المحمدية أما السلفيون الجهاديون كما يسميهم شيراز ماهر فهم جماعة من الرافضين الذين يلجأون لاستخدام العنف لاستعادة مكانة عفى عليها الزمن باستخدام الوسائل المسلحة وهو يصف حركة السلفية الجهادية تلك بأنها مشروع يسعى لتحقيق التقدم عن طريق التأخر والتخلف والرجوع إلى الماضى أو الارتداد إلى الماضى، ومثل هذا المشروع وإن كان محصورًا فى فئة محدودة أو شريحة صغيرة من المسلمين فى العالم، لكنها ذات تأثير واسع لا يتناسب مع عددها أوحجمها وقد بدأت فى التوسع منذ التسعينيات فى الحرب الأهلية فى الجزائر وفى الحرب التى دارت فى البوسنة (البلقان) وفى يوغوسلافيا السابقة ( وفى جمهورية الشيشان ) فى روسيا إبان منتصف التسعينيات، ثم فى الحرب الأفغانية والصراع مع السوفييت، ثم فى المواجهات بين الدولة فى مصر وجماعة الإخوان المسلمين، فكانت تلك الجماعات تبحث وتنقب عن أيديولوجية تنطوى تحتها، ووجدت فى أيديولوجية العنف التى «ثبتتها القاعدة» والحركات المنتمية لها وفى كل عمل من أعمال العنف والإرهاب كانت تلمس المرجع والتأويل والتبرير فى النصوص الدينية المحرفة وفى الأحاديث الشريفة (غير المسندة) حتى إن الكثير من الفقهاء يذكرون الإمام العلامة (ابن تيمية) فى القرن الرابع عشر الميلادى الذى رأى أن غزو المغول جعل من (الجهاد) فرضًا على كل مسلم ليحارب الكفار المرتدين، ويقارن (أوليفر روى) وشيراز بين عواقب الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١ وبين ظاهرة التكفير ـ لغير المسلمين التى لجأ إليها ٢٠٠٤ (أبو مصعب الزرقاوى)فى خوض الحرب الأهلية ضد شيعة العراق.
وقد تمخضت أحداث سبتمبر ٢٠٠١، ثم أحداث الغزو الأمريكى للعراق ٢٠٠٣، كما يحلل الأكاديمى الفرنسى المرموق (أوليفر روى) عن أسلمة حركات التطرف أو تطرف الحركات الإسلامية المعادية للغرب، والتى تزعمتها جماعات المتطرفين من السنة مستهدفين ليس الشيعة فحسب بل المواطنين من الدول الديمقراطية، ثم المؤيدين للحكومات الديمقراطية ثم تحولت إلى الشعوب الإسلامية ذاتها لدفعها لرفض الفصل بين الدين والدولة والعودة إلى تأكيد السيادة «الحاكمية» لله سبحانه وتعالى، ومطالبة المسلمين بالتمرد على الحكام الكفار حتى تطورت الأمور إلى أن أصبح تنظيم الدولة اللاإسلامية (داعش) هو أقوى التنظيمات السلفية الجهادية ـ التكفيرية ـ سواء فى منظورها السياسى أو العقائدى أو فى سيطرتها على كثير من المساحات الجغرافية فى العراق وسوريا وغيرهما.
ويرى الباحث (شيراز ماهر) فى كينجز كولديج فى لندن أن الأيديولوجية المعتمدة لتلك السلفية الجهادية إن هى إلا أيديولوجية ظلامية عدمية تحتل مكان المقدمة فى الفكر السلفى عامة وهو مع كل ذلك ينتقل من طور إلى طور وليست المراحل الحالية للفكر السلفى هى آخر مراحله بعد فكر «أبو الأعلى المودوى وسيد قطب»، فالفكر الذى يسعى وتقاتل من أجله تنظيم الدولة اللاإسلامية ليس إلا خطوة جديدة على طريق حركة التطرف الدينى، إذ إنه من أهداف (السلفية الجهادية) إن عملية التمزيق والتفتيت الناتجة عن شن الحرب وخوض القتال فى كثير من أجزاء الدول الإسلامية هى لتحقيق التغيير كما أنه يفرض على الشعوب انتهاج سلوك مختلف فهى كما توصف لدى بعض المؤرخين العسكريين (مايكل هوارد) إن هى إلا أيديولوجية عسكرية الطابع والجوهر، وهى تركز على الفكرة والجوهر بأكثر ما تركز على التنظيم ذاته، أى أن التنظيم السلفى الجهادى يركز على مفهوم أو فكرة الشهادة وعلى الأحلام التى تتطلع لتحقيقها وأنها لن تهزم حتى لو قتل قادتها ومؤسسوها.
أنصار السلفية الجهادية وخلاياها المسلحة فى مصر بدءًا من شمال سيناء وامتدادًا إلى قلبها فى دير سانت كاترين، ثم فى انتشارها فى دلتا النيل فى طنطا وسواحل المتوسط ـ كنائس الإسكندرية، وتغلغلًا فى صعيد مصر ليست بالظاهرة الطارئة بمعنى أن أيديولوجية التكفير، وطبيعة التنظيم ليست بالمشكلة العارضة التى تظهر وتختفى، بل هى نتاج ممنهج لهذا التنظيم السلفى الجهادى وأنصار بيت المقدس ـ تحت مسميات متغيرة فى الداخل طبقا لانتماءاته وولاءاته (حسم وغيرها) وطبقًا لأصوله التى تعود كلها فى التحليل الأخير إلى فكر الإخوان المسلمين منذ بداياتهم الأولى.
هذا التنظيم السلفى الجهادى (السيناوى) يطبق ثلاث مراحل عبر تطوره منذ عام ٢٠١١ إبان الانتفاضة التاريخية فى ٢٥ يناير، حتى سقوط حكم مرسى الإخوانى فى يونيو ٢٠١٣ ومنذ ذلك الوقت ٢٠١٣ حتى إعلان ولائه لتنظيم (داعش) ٢٠١٤ ومنذ ما أعلن عما أسماه (بولاية سيناء).
ويدل تحليل أعمال العنف والعدوان التى لم يزل يسعى إليها هذا التنظيم المتقهقر عبر سنوات خمس على أنه يستخدم ويكيف قدراته ويعمل على تطويرها بل وقد حول الاهتمام الأول من استهداف إسرائيل بقصف بعض صواريخه عبر الحدود (فى ٣ يوليو ٢٠١٥) إلى استهداف مصر ذاتها فوسع من حجم عملياته وركز على مواجهاته مع قوات الأمن، مما أوضح تطوير قدراته العملياتية خاصة داخل شبه جزيرة سيناء وهو فى هذا يسعى لتحقيق عدة أهداف متزامنة ومترابطة أولها تهديد السكان المحليين، أى سكان المدن، وزعمائهم خاصة فى مناطق الشيخ زويد وثانيًا السعى للسيطرة على مساحات من الأرض ـ كقاعدة للعمليات حتى تتاح له حرية الحركة فى الجزء الشمالى الشرقى من شبه الجزيرة وإن أخفقت كثيرًا فى الخروج من دائرتها الضيقة المحاصرة وهو ما يفسر تركيزها فى الهجوم على القيادات القبلية والعشائريةـ وثالثها تزايد تغلغل عناصر المقاتلين الأجانب إلى داخل سيناء وتجنيد بعض المصريين العائدين من الحرب فى سوريا والعراق أو المناطق الساخنة الأخرى التى تسيطر عليها العناصر الجهادية السلفية حتى إن (البغدادى) قائد تنظيم الدولة اللاإسلامية فى مايو ٢٠١٥ كان قد دعا الموالين للتنظيم داخل الأراضى المصرية من العناصر المبعثرة إلى السفر إلى أقرب المحافظات فيما يسميه بالخلافة أو الولاية الإسلامية للانضمام للجهاد وجدير بالذكر فى هذا السياق، أن ثمة تاريخا طويلا لجماعات محددة وافدة من العناصر السلفية الجهادية التى تلقت التدريب ومارست العمليات القتالية مع الجماعات المحلية سواء فى منطقتى شمال سيناء أو الجيزة.
وبرغم ذلك فإن تدفق المقاتلين الأجانب إلى سيناءـ ودخول المصريين أنفسهم من وادى النيل يعتبر ظاهرة حديثة وغريبة فى نفس الوقت، وقد ترجح الكفة لصالح تنظيم الدولة اللاإسلامية (داعش) وانتشار عقيدتها التكفيرية والسلفية الجهادية فى مواجهة المصالح القومية للبلاد ونستخلص من هذه الظاهرة المستحدثة تدفق العناصر الخارجية التى قد لا تدرك أو قد لا تأخذ فى اعتبارها الظروف المحلية السائدة، أنها قد تفسر تزايد عمليات الهجوم على سكان سيناء ومصالحهم وعلى قوات الأمن المتمركزة حول محاور سيناء ومدنها ونقاط العبور إليها أو الخروج منها.
لكن من الأهمية البالغة أيضًا فى سياق تأكيد خطورة طبيعة الأيديولوجية التكفيرية لمنهج السلفية بوجه عام والسلفية الجهادية بوجه خاص متجسدة فى تنظيمها الحاضن ـ «تنظيم الدولة الإسلامية المركزى» ثم التنظيمات الموالية له والتى عقدت له البيعة مثل تنظيم أنصار بيت المقدس وجماعاتها المنضوية تحت لوائها تحت مختلف المسميات سواء فى مصر، سيناء، أو داخل مدن وادى النيل والصعيد وخلايا الإخوان العسكرية من العائدين من جبهات القتال فى سوريا خاصة.
من الأهمية بمكان إبراز استراتيجية واستجابة القوات العسكرية المصرية التى ظلت تعمل بكفاءة واضحة وبدرجات مختلفة من التأثير المباشر وغير المباشر ضد الجماعات السلفية الجهادية فى سيناء منذ ٢٠١١ بدءًا من عملية النسر صيف ٢٠١١، حيث كانت العمليات الهجومية العسكرية تتبع نمطًا واضحًا أى نمط العمليات العسكرية الكبرى متعددة الآجال ردًا على الهجمات الإرهابية المؤثرة فكانت عملية النسر عام ٢٠١١ بمثابة استعراض للقوة ضد تلك العناصر بعد أن كانت تلك الجماعات السلفية الجهادية قد دفعت بقافلة من قواتها داخل العريش عاصمة شمال سيناء وأعلنتها إمارة إسلامية، فشنت العملية العسكرية للقوات المسلحة أول عملية لنشر الدبابات والطائرات فى سيناء برغم الحد من استخدامها بموجب اتفاقية السلام مع إسرائيل، وفى أعقاب تلك العمليات العسكرية انتهت بإعادة نشره فيما وراء قناة السويس أو إلى مواقع ثابتة بعيدًا عن مسرح العمليات، ورغم تمكن قوات ما سمى بعناصر ولاية سيناء تلك من تحقيق بعض الهجمات الإرهابية فإن نجاح القوات المسلحة المصرية فى عملياتها تتمثل فى عجز تلك العناصر عن توسيع قاعدتها أو مسرح عملياتها خارج المثلث الضيق من الأرض فى الركن الشمالى الشرقى من شبه جزيرة سيناء إذ إنه من الصعوبة بل من الاستحالة أن تتحرك تلك العناصر الإرهابية فى أعداد كبيرة بفضل العمليات العسكرية المكثفة المتتابعة التى أعاقت حركتها وأفقدتها القدرة على التنظيم وإعادة التمركز وبرغم الخسائر فى الهجوم الإرهابى فى ١٩ مارس ٢٠١٦ على كمين يقع جنوب العريش فإن الهجوم لم يتجاوز هذا الكمين (بلغت خسائر القتل الإرهابى (١٥) من رجال الشرطة بالمقارنة إلى عمليات هجومية متعددة شمال شرقى سيناء فى النصف الأول من عام ٢٠١٥.
لكن التحول الكبير فى الاستجابة العسكرية المصرية تمثل فى تطورات الموقف فى أحداث أكتوبر ٢٠١٤ بعد هجوم «كرم القواديس» حين طبقت ووسعت الحكومة قانون الطوارئ شمال سيناء وفرضت حظر التجول الليلى داخل مدينة العريش وإقامة الكمائن ومراكز التفتيش عند مداخل مدن المحافظة وعبر الطرق الرئيسية.
لكن الجهود العسكرية المصرية المكثفة تجددت بقوة ملحوظة منذ يوليو ٢٠١٣ بعد ثورة ٣٠ يونيو التى أسقطت حكم الإخوان.. فظهرت تنظيمات الجهادية السلفية فى شبه جزيرة سيناء حيث احتفظت القوات المسلحة بمستويات غير مسبوقة من القوات والمعدات شمال سيناء وحتى وإن كانت اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية قد حددت بعض مناطق سيناء الحدودية مناطق منزوعة السلاح، فإن الحكومة الإسرائيلية قد توافقت مع القاهرة على أن تقوم بالمهام وتضطلع بمسئولياتها الضرورية لدحر ذلك الخطر المشترك الذى تمثله العناصر السلفية الجهادية ومن الواضح أن تلك العمليات المصرية قد تمكنت عام ٢٠١٥ فقط من القضاء على ثلاثة آلاف من العناصر الإرهابية فى ضربات جوية موجهة لمناطق شمال سيناء وعبر غارات واقتحامات عنيفة ونيران مكثفة وقد أثرت هذه العمليات تأثيرًا واسعًا (كما تشير وتؤكد التقارير والدراسات فى المركز الدولى لمكافحة الإرهاب فى لاهاى بهولندا) وقد انعكس سلبًا فى الحد من قدراتها على القيام بعمليات هجومية واسعة النطاق ومن ثم كانت استراتيجيتها وتكتيكاتها فى الشهور التالية تتجه للتركيز على العمليات الانتحارية وعلى ما يسمى بعمليات الذئاب الشاردة أو العمليات الفردية الأحادية.
ولما كانت عمليات العناصر الإرهابية فى شمال سيناء تستهدف تعويض صفوفها بقوى بشرية تعتنق السلفية الجهادية وعقيدة التكفير تلك كان من الضرورى أن تلجأ القوات المسلحة المصرية للسيطرة بقوة على كافة المداخل لشبه جزيرة سيناء ولو بتكثيف وتوسيع نطاق العمليات العسكرية الهجومية منذ مذبحة رفح عام ٢٠١٢ والتسلل عبر الأنفاق من غزة وتحت خطوط الحدود ولولا لجوء الحكومة لإعادة توطين بعض من سكانها فى رفح إلى مدن أخرى لإنهاء إشكاليات الأنفاق لولا ذلك لكانت الأوضاع الأمنية بفضل العمليات العسكرية الهجومية أسوأ بكثير إزاء تدفق السلاح دون عائق، وإزاء التسلل المستمر عبر خطوط الحدود والأنفاق وهو ما كان سوف يحيل حياة السكان الآمنين إلى أوضاع فى غاية السوء تؤدى إلى ما يشبه استعباد السكان المحليين واعتبارهم رهائن تمامًا مثلما تفعل وتمارس خلايا تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق وسوريا.
ولا شك أن ذلك الخطر والتهديد التى تمثله العناصر الإرهابية ذات الانتماء السلفى الجهادى، وذات العقيدة التكفيرية الصريحة إنما تشكل تهديدًا وخطرًا مباشرًا ليس فقط على مصالح الأمن القومى لمصر بل وعلى المصالح والأمن الإقليمى الدولى وهو ما يستوجب ويستدعى توفير الدعم القوى والمباشر من المجتمع الدولى كله لكل الجهود العسكرية والتنموية والأمنية التى تقوم بها المؤسسات المصرية برغم دعاوى كثيرة تروج للدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق المدنيين فى سيناء وانتقادات لتشديد قبضة الأمن فإنه أضحى من مسئوليات وواجبات حكومات الدول الأوربية وحكومات الولايات المتحدة زعيمة ذلك التحالف الدولى لمكافحة الإرهاب.
أن تقف وأن تساند بكل القوة جهود الدولة المصرية من منطلق شراكة المصالح فى الحرب ضد الإرهاب وأخطاره الداخلية والإقليمية والدولية.
ولعل ما أذاعه مجلس الوزراء فى مصر فى الحادى والعشرين من سبتمبر ٢٠١٥ بعد تشكيلها حكومة جديدة فى ذلك الشهر من خطة شاملة لمكافحة الإرهاب فى سيناء تلبى احتياجات سكان سيناء وتوفير المساعدات الإنسانية لهم والرعاية الطبية اللازمة ووضع الخطط اللازمة لتعويض السكان عن آثار مكافحة الإرهاب، لعل فى ذلك ما يمثل خطوات الحكومة باتجاه تنفيذ رؤية شاملة أمنية وإنسانية وتنموية تهدف استمرار الحرب على الإرهاب وحماية المدنيين والتصدى للأخطار المحتملة فى تلك المناطق.
إن الاستجابة الرسمية للدولة المصرية واعترافها بالحاجة لتلبية المتطلبات التنموية وإيجاد الحلول للمشكلات الاقتصادية والتحديات الأمنية تمثل الخطوة الإيجابية فى هذا الاتجاه وإن كان الأمر يتطلب الاستمرارية وقوة الدفع فى عمليات القوات المسلحة المصرية ضد عناصر التنظيم السلفى الجهادى فى شبه جزيرة سيناء مع تغيير الخطاب المناهض للحرب التكفيرية بخطاب أكثر حداثة وتوافقًا وتطورًا بما يعكس التفسير الصحيح للقرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ولإجماع فقهاء الأمة كما يتعين أن تكون الأولوية الأعلى لدعم الجهود التى يبذلها علماء مصر ومثقفوها وساستها وراء قيادتها المؤتمنة على مستقبل هذا الوطن والدفاع عن أمنه وسلامة أراضيه من الأخطار التى تروج لدعوات السلفية الجهادية وتتخفى وراء تراث السلف الصالح الذى تشوه ما خلفه لنا من خطاب يستحق اليوم التجديد والاجتهاد، كما تتخفى تحت دعاوى (الجهاد) التى دعا إليها بعض أئمة الإسلام فى سياق تاريخى مختلف فى الزمان والمكان فى القرن الرابع عشر الميلادى عندما هاجم المغول بلاد المسلمين فى عصر الخلافة العباسية فى بغداد ويحاولون اليوم إسقاط الماضى على الحاضر بل وعلى المستقبل فى إحياء جاهل وظالم لعصور الحروب الصليبية واللادينية على الإسلام وإحياء ما كان قد دعا إليه منذ أكثر من عشرين عاما يومًا ما فيلسوف صدام الحضارات «صموئيل هانتجتون» الذى يستعيد أطيافه وأفكاره لإشعال حرب إسلامية غربية متجددة.