قبل أن تأخذنا موسيقى الاحتفالات بافتتاح
الأوبرا الجديدة، خلنا نقف وقفة وفاء وذكرى فى ساحة الأوبرا القديمة.
فالأوبرا القديمة
عاشت مائة سنة وسنتين، تحفة معمارية فى وسط القاهرة ومنارة فنية وثقافية تأثرت بها
أجيال من الطلائع الثقافية للطبقة الوسطى المصرية ستة أجيال متعاقبة.
سبقت الأوبرا إلى
الساحة الثقافية حتى الجامعة المصرية، وسبقت بكثير كل المعاهد الفنية وكانت
الشرارة الأولى التى أوقدت مشاعل فن التمثيل فى مصر والحركة المسرحية الحديثة
بمصر.
وتأثير الأوبرا
القديمة فى الحياة المصرية كان أوسع من الحصر.
فلم تكن هذه الدار
الجميلة مجرد بيت للضيافة شاهد فيه الجمهور المصرى قمم الفرق الأوبرالية
الإيطالية، وإنما شاهد فيها الجمهور أيضاً سارة برنار أعظم ممثلة فى العالم فى أول
القرن، وشاهد فيها أرفع مستويات الفنون المسرحية من فرق الكوميدى فرانسيز الفرنسية
والأولدفيك (المسرح القومى)، البريطانية وباليه البولشوى الروسى، وأوركسترا فيلهار
مونيك لندن وفيينا وبرلين، والفرق الشعبية للرقص الفولكلورى «مويسييف» الروسية
و«مازوفشا التبولندية».
كانت أيضاً بيتاً
للتمثيل العربى جلجل فيها صوت جورج أبيض وعبقرى الموسيقى المسرحية سلامة حجازى،
ونجوم المسرح القومى العمالقة منذ 1935 تاريخ إنشاء الفرقة القومية المصرية، إلى
جانب الفنانة الرائعة فاطمة رشدى فى عز مجدها.
وكانت الأوبرا أيضاً
بيت الغناء المفضل للفنانة الخالدة أم كلثوم، ومنبر الخطابة للزعيم الكبير مصطفى
كامل إلى جانب الأمسيات التاريخية التى أنشدت فيها أشعار شوقى وحافظ ومطران.
فأى بيت كانت دار
الأوبرا!!
رجلان.. وأروع أوبرا فى التاريخ
ووراء دار الأوبرا المصرية القديمة رجلان لكل
منهما حكايته.. وأوبرا عالمية خالدة.
الرجلان هما الموسيقى
جيوسيبى فردى وخديو مصر إسماعيل، والأوبرا هى عايدة.
وكانت مصر تستعد
لافتتاح قناة السويس عام 1869 فأوفد الخديو إسماعيل وزير خارجيته نوبار باشا قبل
سنة من موعد الاحتفالات ليزور أعظم موسيقى فى العالم آنذاك «فردى» فى قصره الريفى
ويعرض عليه تأليف أوبرا مصرية كتب قصتها عالم الآثار الفرنسى وأول مدير لمصلحة
الآثار المصرية «مارييت باشا» لتكون قمة الاحتفالات بافتتاح قناة السويس.
القصة كانت عايدة.
وذكر فردى ذلك
اللقاء فى مذكراته وعلق عليه بقوله: «لو أن أحداً تنبأ لى قبل سنة أنى سأضع
الموسيقى لأوبرا مصرية لاتهمته بالحمق حيث لم أفكر قبل اليوم فى تأليف أوبرا
مصرية.
دفع نوبار باشا
للموسيقى فردى، 150 (مائة وخمسين) ألف فرنك (بنقود ذلك الزمان) أجراً لتنفيذ
التكليف.
وقد ولد فردى عام
1813 فى قرية رنكول الإيطالية وتقدم للالتحاق بكونسيرفتوار ميلانو وهو فى سن
الثامنة عشرة فرفض الكونسيرفتوار طلبه لكبر سنه.
ولكن فردى أصبح فيما
بعد أشهر موسيقى ومؤلف للأوبرا فى عصره وإلى اليوم، وقدم للمسرح عشرات الأوبرات
منها ماكبث وريجوليتو وترافياتا، وعلى رأسها كلها «عايدة».
أوبرا عايدة هى فى
نظر الدارسين «الأوبرا الكاملة»، وكل لحظة فيها أجمل من سابقتها، وتعتبر فرجة
مسرحية رائعة بديكوراتها وملابسها والذرا الرفيعة التى يبلغها الغناء فيها.
وهى أشهر أوبرا فى
العالم بإجماع الدارسين، ومارش النصر بها لا تبلى جدته أبداً.. ومن من الناس لا
يحفظه بمصر؟ لقد كان موسيقى الاستهلال لنشرة أخبار إذاعة القاهرة طوال الخمسينيات
والستينيات.
حكاية عايدة
وتروى الأوبرا أن القائد المصرى راداميس انتصر
فى الحرب ضد الحبشة ثم وقع فى غرام أسيرة هى الأميرة الحبشية «عايدة».
وكان أبوها
«أمونزرا» ملك الحبشة أسيراً أيضاً ولكنه يخفى شخصيته، وقد أغرى ابنته بأن تستغل
حب راداميس لها لتعرف منه أين يقع هجوم الجيش المصرى التالى ليتمكن الأحباش من
الإيقاع به.
وعايدة تحب راداميس
ولا تريد خيانته وأبوها يثير فى قلبها حب الوطن.
وتبلغ الأوبرا
ذروتها فى أغنية عايدة التى تقول: «يا وطنى الذى حرمت رؤيته إلى الأبد.. ستكلفنى
حبى.. فكم تكلفنى؟».
ويذيع راداميس سره
لحبيبته.. ثم يكتشف أنها أوقعته فى الخيانة، وتجرى محاكمته، والحكم على الحبيبين
بالموت فى المعبد.
وخلف أوبرا عايدة
قصة وجدانية لهذا الموسيقى الكبير الذى اشتهر بوطنيته وبأن موسيقاه كانت ذخراً
لكفاح الإيطاليين من أجل وحدة بلادهم الممزقة على أيام نضال غاريبا لدى لتحرير
وتوحيد إيطاليا.
وكانت إيطاليا تخوض
حرباً طاحنة منذ 1860 إلى 1870 ضد الإمبراطورية النمساوية والإمبراطورية الفرنسية
من أجل تحرير أراضيها وتوحيدها بقيادة الزعيم غاريبا لدى وتحت رئاسة الملك
عمانوئيل الأول.. فكانت أغنيات عايدة الممزقة بينحبها ووطنيتها تثير النار فى
أفئدة الوطنيين الإيطاليين الذى خاضوا حرب التحرير.
وتعتبر أوبرا عايدة
مكتملة فنياً إلى جانب قوتها الدرامية والقومية حيث تحتوى - كما يقول الدارسون -
على كل عناصر فن الأوبرا الدرامية المعروفة: الحب والواجب والحرب والخيانة
والمحاكمة والعقاب والقوة.
كتب فردى عن أوبرا
عايدة: «لعل هذه الأوبرا ليست أحسن أعمالى، ولكن الزمن هو الذى سيحدد موقعها من
مؤلفاتى».
وقد وضعها الزمن فى
قمة أعمال فردى، بل وفى قمة فن الأوبرا فى التاريخ.
يتميز غناء التينور
(الصوت الرفيع للرجال) فيها برجولة وقوة نادرة، ويضم غناء التينور بها أصعب خمس
دقائق للغناء فى أية أوبرا.. فكل غناء للأوبرا يسمح للمغنى بلحظات للتنفس، ولكن
هذه الدقائق الخمس الصعبة تبهر أنفاس المغنى.
ألف فردى الأوبرا فى
قصره الريفى الفاخر، واستغرق فى تأليفها 14 شهراً - متأخراً عن موعد افتتاح قناة
السويس - وقد اعتاد أن يتمشى فى حديقة قصره من الخامسة صباحاً ويعمل المجدافين فى
قارب بالبحيرة الصناعية الخاصة، ويعود ليقرأ التاريخ والفلسفة والشعر ويبدأ فى
عمله بالأوبرا بعد الظهر على البيانو الموضوع بغرفة نومه.. وهو يحلم بنهر النيل،
ويتأمل الصور التى جمعها للأهرام وأبى الهول ومعبد الكرنك والآثار المصرية.
انتهت الأوبرا عام
1871، بعد سنتين من افتتاح قناة السويس، وتم افتتاح أول عرض لها فى العالم بدار
أوبرا القاهرة فى ديسمبر 1871، وتلقى فردى برقية من مصر تقول: «نجحت الأوبرا وصفق
الخديو طويلاً».
ولم يصفق الخدو فقط،
بل أرسل هدية ثمينة للموسيقار العظيم استقرت للآن فى متحف بلدته.. هى مكتبة بديعة
مخروطة بالأسلوب العربى ومطعمة بالصدف ومكتوب عليها بالأصداف بيت من الشعر العربى.
الرجل الثانى
الخديو إسماعيل الذى أصدر التكليف لأعظم موسيقى
فى عصره واختار قصة عايدة بنفسه كانت له مع هذا الأثر الفنى البديع حكاية.
فقبل افتتاح قناة
السويس التى كانت أكبر مشروع هندسى فى العالم 1869 عمل الخديو على تحديث مدينة
القاهرة، فأعاد تعمير المثلث المعمارى المحصور بين شارع الجمهورية وشارع رمسيس
وشارع قصر النيل، وبناه على الطراز الأوربى وأنشأ المتحف المصرى للآثار فى طرف
المثلث ودار الأوبرا «الخديوية» فى رأس المثلث جوهرة معمارية أنشئت على طراز أوبرا
روما ذاتها.
وأنشأ إسماعيل قصر
لطف الله (فندق عمر الخيام الآن) ليكون قصر الضيافة للملوك والأباطرة المدعوين،
واستراحة الهرم (فندق ميناهاوس الآن) ليكون استراحة للضيوف بعد زيارة الأهرامات.
كما استجاب إسماعيل
لضغوط الرأى العام وافتتح أول مجلس برلمانى مصرى عام 1866 بخطاب للعرش على النظام
الديمقراطى لإنجلترا وفرنسا، وفكر خلال هذا فى أن تفتح بالقاهرة أثناء الاحتفالات
أوبرا مصرية تصور مجد مصر القديمة.
كان الخديو يردد أن
مصر قلعة من أوربا.
ولم يكن يعنى بذلك
إلا أن مصر دولة كبرى.. وقد عمد الخديو إلى تحديث مصر وإقامة الديمقراطية بها
وتجاوز فى عهده الجيش مائة ألف جندى مخالفاً بذلك الفرمان العثمانى لتوليه
الخديوية والذى ينص على أن يكون عدد الجيش 18 ألف جندى فجعل من مصر قوة عسكرية
كبيرة.
وقد كلف إسماعيل
حفلات افتتاح قناة السويس مليوناً ونصف مليون جنيه، منها 150 ألف فرنك ذهباً
أرسلها هدية إلى فردى بمناسبة قبوله تأليف الأوبرا.
وقد أضيفت هذه
الفاتورة فى كتب التاريخ إلى سائر فواتير «سفاهة الخديو» المشهورة!.
ماذا يريد الخديو؟
ولكن الخديو كانت له قصة أخفيت بإصرار مع حفلات
قناة السويس.
ففى كتاب حسن نشأت
باشا «إسماعيل بمناسبة مرور خمسين عاماً على وفاته» وفى كتاب القاضى كرايبيتس
«إسماعيل المفترى عليه» وفى كتاب الدكتور لويس عوض «تاريخ الفكر المصرى الحديث» أن
الخديو إسماعيل قد خطط لهذه الاحتفالات الباذخة لافتتاح قناة السويس ولإظهار جهوده
فى تحديث مصر.. ولم يكن غرضه إلا إعلان استقلال مصر عن تركيا أمام ضيوفه من الملوك
الأوربيين بعد أن يشهدوا بأن مصر أكثر تقدماً وحضارة من تركيا ذاتها، وأوبرا عايدة
ستكون جوهرة هذه الاحتفالات.
ولكن الإمبراطور
نابليون الثالث ملك فرنسا خذل إسماعيل باعتذاره عن عدم حضور الاحتفال، وخذله بعدها
ملوك آخرون باعتذارهم عن عدم الحضور خشية تورطهم فى موقف حرج.
وقد كانت فرنسا سنده
الرئيسى فى تلك الخطة، إلا أنها كانت تتوقع هجوماً بروسيا (ألمانيا) تم فعلاً عام
1870، ولم تكن تريد أن تتورط فى معاداة تركيا إلى جانب روسيا وإنجلترا.
وخذله الملك
عمانوئيل الأول ملك إيطاليا فى اللحظة الأخيرة حيث قرر أن يقوم بانعطاف سياسى خطير
ويحالف بروسيا (ألمانيا) ضد فرنسا فى الحرب الوشيكة حتى يضمن جلاء الجنش الفرنسى
المحتل عن أراضيه، ولم يشأ أن يغامر بخصام تركيا.
خابت آمال الخديو
إسماعيل فى أوربا كما أن فردى لم يكمل عمله فى الوقت المناسب فافتتحت دار الأوبرا
بألحان ريجوليتو بدلاً من عايدة، واستبدل الخديو خطاب الاستقلال بخطاب تحية
ومجاملة للضيوف.
خبراء عسكريون جدد
ولكن إسماعيل لم يتنازل عن أحلامه ولم يغفر
لأصدقائه الأوربيين خذلانهم له فقرر فصل الخبراء العسكريين الأوربيين من جيشه
وتعاقد مع خبراء من الضباط الأمريكيين الذين اشتهروا فى الحرب الأهلية الأمريكية
(1860 - 1865)، وقد خاطبهم حين توليهم العمل بخطاب قال فيه: «إننى أعتمد على
تكتمكم وعلى إخلاصكم وعلى حميتكم فى معاونتى على تحقيق استقلال مصر، وعندما يتحقق
هذا الاستقلال إن شاء الله سأمنحكم أعلى مراتب الشرف».. كما ورد فى كتاب اللواء
لونج شاييه الأمريكى «حياتى فى أربع قارات».
لهذا تواطأت إنجلترا
مع تركيا لعزل إسماعيل والتشهير به.. واختلاق الحكايات الكثيرة عن سفاهته فى رأى
كثيرين من المؤرخين.
ولعل فردى كان يعلم
ظرفاً من أحلام إسماعيل فلم يدخر وسعاً فى أن يضفى على الدولة المصرية والجند
المصريين فى أوبرا عايدة مجداً، وشموخاً، وأدخل الجيش المصرى إلى المسرح على إيقاع
أشهر مارش عسكرى حفظه التاريخ الموسيقى.
مائة سنة من الافتتاح
ومع أن أوبرا عايدة أخطأت موعدها مع افتتاح
قناة السويس عام 1869 فقد قدمت دار أوبرا القاهرة أول عرض لها فى العالم فى ديسمبر
عام 1871، فكان هذا هو الافتتاح الحق لدار الأوبرا البديعة التى كانت جوهرة
المعمار القاهرى.
وأصبحت الأوبرا
الخديوية بافتتاح أوبرا عايدة بها واحدة من أشهر المسارح فى العالم والتى تتمنى
الفرق الكبرى فى العالم إحياء أحد مواسمها بها.
ومن تصاريف القدر
العجيبة أن دار الأوبرا بالقاهرة احترقت بعد مائة عام بالضبط من افتتاح أوبرا
عايدة عام 1871، وأكلتها النار حتى طمست آثارها، وتجمعت حولها جماهير غفيرة ترقب
احتراقها وكنت بينهم أنظر إليهم ومعظمهم ممن لا يرتادون مسرح الأوبرا فى حياتهم
ومع ذلك كانت دموعهم تفصح عن ألمهم باحتراق هذا الأثر المعمارى الجميل الذى رافقهم
طوال حياتهم فى ميدان الأوبرا.
فمهما كان المصرى من
رواد المسرح أو لم يكن فإن قصة الطموح الوطنى والفنى التى كانت ترويها أعمدة دار
الأوبرا المهيبة كانت تمس شغاف القلوب.
هذه الأحلام التى
راودت قلب فردى وقلب الخديو إسماعيل.. ثم طواها النسيان، بقيت منها أوبرا عايدة
أثراً على طموح رجلين وأمانيهما البعيدة.
مرت على هذه
الذكريات وأنا أشهد البناء الجديد للأوبرا وقد أزيلت من حوله الأسوار.
بعض الناس سنتقدون
معماره.. ولكنى لا أذهب مذهبهم.
كانت الأوبرا
القديمة إيطالية الطراز وجاش قلبها بالغناء الأوبرالى الإيطالى ورقص الباليه
الروسى الذى تعدنا الأوبرا الجديدة باستئناف إحياء مواسمه الحافلة.
إلا أن طراز الأوبرا
الجديدة المصرى الشعبى والذى يشبه المعمار الريفى يدعونى للتنبؤ بأن هذه الأوبرا
الجديدة ستضيف إلى حياتنا الثقافية - إلى جانب استئناف برامج الأوبرا القديمة -
ليالى للأوبرا بالعربية وللباليه المصرى.
أن هذا المعمار
بالذات - إن أحببته أو كرهته - إيحاء وإشارة إلى ضرورة إنشاء فرقة للأوبرا مصرية
وفرقة للباليه مصرية يكون مقرهما الدائم ومواسمهما الطويلة تحت هذه القبة الريفية
الطراز الجديدة، فضلاً عن الأوركسترا السيمفونى والفرق الشعبية والموسيقى العربية.
إننا لا نريد
للأوبرا الجديدة مجرد التواصل مع عمل الأوبرا القديمة وإنما نريد لها أن تكون
تطوراً طبيعياً وحاسماً بتأصيل هذه الفنون العالمية فى ثقافتنا الوطنية، واستثمار
مواهبنا الكثيرة االمتفرقة والتى تخرجت فى الأكاديمية الفنون لأداء هذه الوظيفة
الجليلة وسجلت نجاحاتها إما خارج مصر أو خارج مجالى الأوبرا والباليه اللذين أعدت
هذه المواهب لهما.