رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


د. نبيل فاروق يكتب: الحقيقة والسراب

25-10-2020 | 14:37


فى بدايات الألفية الثالثة، شاهد الجمهور الأمريكى، على شاشات التلفاز، إعلاناً عن سيارة حديثة، ذات مواصفات خاصة، والواقع أن هذا الإعلان أثار اهتمام المشاهدين إلى حد كبير، وأثار دهشتهم وانبهارهم أيضاً، صحيح أن تلك السيارة الجديدة كانت ذات مميزات مدهشة حقاً، بالنسبة لزمنها، ولكن اهتمام ودهشة وانبهار الكل لم يكن يعود إلى السيارة نفسها، ولكن إلى سائقها فى الإعلان، الذى اختلف عن كل ما شاهدوه من قبل، على شاشات التلفاز، أو حتى شاشات السينما، فسائق السيارة فى الإعلان، كان الممثل الراحل، وبطل سباق السيارات السابق ستيف ماكوين، وستيف ماكوين، أو تيرانس ستيفن ماكوين، من مواليد 24 مارس 1930م، فى بيتش جريفى انديانا، والتحق فى شبابه بقوات المارينز، ثم عمل كميكانيكى وقائد سيارة محترف، قبل أن يدرس التمثيل السينمائى، فى المعهد السينمائى النيويوركى الشهير (أكتورز ستوديو) (Actors Studio) عام 1955م، ليحصل بعدها على جائزة أوسكار فى التمثيل، عام 1966م، وتوفى فى 7 نوفمبر 1980م، فى مدينة خوارين فى المكسيك، متأثراً بأزمة قلبية، عقب عملية جراحية، الممثل الذى توفى عام 1980م، قاد سيارة أنتجت فى بداية الألفينيات، فى إعلان مصوّر متحرَّك.

 هذا كان البداية، بداية ما يعرف باسم التصوير الزائف (Fake Face)، أو وضع وجه شخص ما، على جسد شخص آخر، فى فيلم سينمائى قصير، مجرَّد لعبة تكنولوجية، بدأتها شركة أدوبى (Adobe)، فى بدايات الألفية الثالثة، ثم عملت شركة انفيديا (Invedia) على تطويرها، عبر برامج أكثر تعقيداً، اعتمدت على دراسة وعزل مئات الصور لشخص واحد، ثم استخدام شخص مماثل فى المواصفات الجسدية، لإضافة الوجه إليه، مع ردود أفعاله المناسبة، ولقد برعت الشركة فى هذا خلال العقد الثانى من القرن العشرين، حتى صار من الصعب على بعض الخبراء كشف زيف الصورة، إلا باستخدام برامج عالية الدقة، شديدة التعقيد، هذا جعل الصور الضوئية، وحتى الصور المتحرِّكة، غير مضمونة كدليل موثق، فى قضية ما، وجعل تزييف الواقع لعبة، يجيدها حتى بعض المراهقين، فى هذا العصر، باعتبار أن البرامج المساعدة صارت متاحة، وليست غالية الثمن، إلى حد محبط.

 وكتداع طبيعى، أدركت أجهزة الاستخبارات المدنية والعسكرية، أهمية هذا التطوّر التكنولوجى المدهش، وبدأت فى استخدامه، فى عمليات تستهدف بعض الشخصيات، أو حتى الأنظمة المعادية لها، بتلفيق صور وأفلام، تضع الشخص المستهدف فى لقاء مباشر، مع أحد أعدائه، أو مع امرأة سيئة السمعة مثلاً، ولأن معظم العامة لا يعلمون، ولا يتصوَّرون وجود مثل هذه التكنولوجيا، كان من الطبيعى أن يصدقوا ما يرونه، دون أن تراودهم فيه أيَّة شكوك، وأن يلجأوا إلى رد الفعل، الذى يسعى إليه عدوهم بالضبط، ثم جاءت مرحلة السوشيال ميديا، أو وسائل التواصل الاجتماعى، والتى يحلو لى أحياناً تسميتها بوسائل التناحر الاجتماعى، وصار من السهل دس أيَّة صورة زائفة، أو فيلم ملفق، عبر شبكات التواصل الاجتماعى، حتى يتم تناقله بين متابعيها، عبر منظومة "المتتالية الهندسية"، ليطالعها الملايين، فى كل أنحاء العالم، ويقعون جميعهم فى الفخ.

 اللعبة بدأت مع نشأة وسائل التواصل الاجتماعى، عبر اجتزاء أجزاء بعينها من خطاب أحد الرؤساء مثلاً، وإعادة تركيبها، بحيث يوحى الأمر بأن ذلك الرئيس يقول عكس ما قاله بالفعل، وعبيد السوشيال ميديا يصدقون، ويتحولون، دون وعى منهم، إلى جنود متحمسين، فى جيش العدو، الإسرائيليون بدأوا اللعبة منذ ثلاثة عقود، عندما دشن جهاز أمان، أو المخابرات العسكرية الإسرائيلية الوحدة 8200، التى يشار إليها باسم وحدة SIGINT، وهى فيلق استخباراتى عسكرى، بدأ كمسئول عن التجسّس الإليكترونى، وقيادة الحرب الإليكترونية، فى الجيش الإسرائيلى،كان هذا منذ ثلاثة عقود، وكان عملها يعتمد فى البداية على جمع المعلومات من العملاء البشريين، فى كل المواقع، التى تم تجنيدهم أو زرعهم فيها، والعمل على اعتراض الرسائل اللا سلكية للعدو الحالى أو المحتمل، وفك الشفرات، والتنصّت على الهواتف، وهكذا،ولكن مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعى، تطوّرت الوحدة 8200، لتبدأ فى تلفيق الصور والأفلام، ونشرها عبر وسائل التواصل الرقمية، إلى جانب السعى للتواصل مع الشباب العربى، عبر مجموعة من الفتيات، أو الشباب، الذين يدعون كونهم فتيات، لمداعبة هرمونات الشباب والعبث بعقولهم، وتجنيدهم لجمع المعلومات عن أوطانهم، دون أن يدركوا حتى خطورة ما يفعلونه، والوسيلة المستخدمة فى هذا، هى صنع موقع زائف، لشقراء فاتنة، مع بعض الصور لها، فى ثياب فاضحة، أو ألبسة بحر مكشوفة، مع تحديد أنها ألمانية الجنسية فى الغالب، وترك الباقى لهرمونات الشباب، التى تدفعهم للافتتان بالصور، والسعى للتواصل مع تلك الفتاة المزعومة، والتى اختارت الجنسية الألمانية بالذات، نظراً لما هو شائع، عن عدم حب الألمان لليهود، وبعد تبادل الحوارات والرومنسيات، تشير الفتاة المزعومة إلى أنها ترغب فى زيارة وطن الشاب، وقضاء بعض الوقت معه، ومن الطبيعى أن يتلهَّف الشاب لهذا، ويعلن موافقته وترحيبه بالزيارة المرتقبة، وهنا تخبره الفتاة المزعومة أنها تخشى من زيارة وطنه، لأنهم يقولون أنه يعانى من مخاطر أمنية عديدة، وهنا يبدأ الشاب الملهوف فى محاولات تهدئتها، وتهدئة مخاوفها؛ عبر إمدادها بالكثير من المعلومات عن وطنه، وهنا يتيقن من وراء جهاز الكمبيوتر، فى الوحدة الإسرائيلية، أن ذلك الشاب، أياً كانت جنسيته، مستعد لفعل كل شيء ممكن، حتى يصل إلى تلك الشقراء الفاتنة المزعومة، وهنا ينتقل الأمر إلى المرحلة التالية، مرحلة سؤاله عن عائلته وأقاربه، وفيم يعملون، ويتم هذا على نحو يبدو  تلقائياً؛ ليقود إلى أحد أمرين، إما أن يكون للشاب فرد من العائلة أو قريب من الأقارب، يعمل فى جهة سيادية أو عسكرية، وهنا يتم التركيز على التواصل معه، ودفعه للكشف عن المزيد عن كل ما يعرفه من معلومات، عن طريق عائلته، وأقاربه، تمهيداً لمحاولة تجنيده مستقبلاً، أو يتضح أنه ليس لديه أى قريب يمكن الاستفادة منه، وهنا تختفى الفتاة المزعومة، حتى تنتقل إلى هدف جديد،ومن الطبيعى أن يصاب الشاب بلوثة محدودة، ويحاول فى استماتة استعادة الاتصال، الذى لا يتم ثانية أبداً فى المعتاد،ربما مر بعض من يقرأون هذا بالتجربة، أو علموا أن أحد معارفهم قد مر بها، منذ عدة سنوات، باعتبار أنها لم تعد مستخدمة بنفس القدر الآن، بعد أن وضعت السوشيال ميديا قواعد جديدة للعبة، ومن هنا نشأت وحدة أو كتيبة القتال الإليكترونى، والتى تسعى لاختراق بعض المواقع، ودس أخبار ومعلومات زائفة عليها، وترويج تلك المعلومات والأخبار المغلوطة، على أكثر من ثلاثة ملايين موقع زائف، مما يوحى بصدق المعلومات، لدى عبيد وكهنة السوشيال ميديا.

 

وفى الآونة الأخيرة، انتشر ما يعرف باسم تسريبات المحادثات الهاتفية، التى صار الكل مهووساً بها، يؤمن بصحتها على الفور، ويسعى لنشرها على أوسع نطاق ممكن، دون أن يدرك أن هذا يجعله مجرَّد قطعة شطرنج على لوحة كبيرة، بحجم العالم كله، وأن هذا بالضبط الموقع، الذى وضعه فيه من يدير اللعبة،واللعبة ليست معقَّدة، بل هى سهلة للغاية، ولو تم سؤال أى مهندس صوت عنها، لأخبرك أنه يمكن لطفل عادى القيام بها، عبر برنامج صوتى بسيط، خاصة وأن تغيير بعض تردَّدات الصوت، لجعلها أشبه بصوت يتردَّد عبر هاتف، يجعل تمييزها بدقة أمرا شبه مستحيل، إلا بالنسبة لخبراء أو مهندسى الصوتيات،وحتى هذا صار جزءاً من العالم القديم، أما المستقبل، وحتى الحاضر، فى لحظة كتابة هذه السطور، فهو أمر شديد التعقيد ومخيف، إلى حد مروِّع،ففى جامعة أونتاريو بكندا، ابتكر ثلاثة طلاب خوارزمية متعلمة، يكفيها أن تستمع إلى صوت ولهجة وأسلوب شخص ما، عبر عدة تسجيلات، وتسجيل ترددات صوته، حتى يمكنها تقليده، على نحو يخدع الخبراء أنفسهم، ويكفيك مع برنامجهم، أن تتحدَّث أنت بصوتك ولهجتك وأسلوبك، ويسمع الكل ما تقوله، بصوت ولهجة وأسلوب الشخص، الذى جمع البرنامج معلوماته، على نحو لا يمكن تمييزه أبداً، الخوارزمية اسمها Lyrebird، وهى خوارزمية تعلم عميقة، تفتح الباب لكثير من المضاعفات والخداع المستقبلى، الشركة التى حصلت على حق استغلال تلك الخوارزمية الجديدة، هى نفسها التى أنتجت من قبل برنامج (Pandora) الذى كان يستخدمه العالم الفيزيائى الفلكى العبقرى الراحل ستيفن هوكيبنج (8 يناير 1942 – 14 مارس 2018م)، والذى مكنه من الحديث على نحو رقمى، على الرغم من عجزه عن هذا فعلياً، وهو برنامج يحوِّل الكمبيوتر إلى حنجرة صناعية، لمن يعجزون عن النطق، بسبب أو لآخر، وبرامج مثل لايربيرد، أو (Voco) تجعل المستقبل أمامنا غامضاً مجهولاً، ويجعل اعتمادنا على حواسنا الطبيعية مشكوكاً فى أمره، فكل ما نراه أو نسمعه، لن يعود بإمكاننا الجزم بأنه حقيقة، بحيث سيعتمد الأمر على عقولنا، وعلى القرار المسبق لنا، فلو أن عقلك يتبنى اليمين مثلاً، فستصدق كل ما يؤيّده، وترفض كل ما يخالفه والعكس، لهذا قال الأديب والمفكِّر الألمانى يوهان فولفجانج فون جوته (1749 – 1832م) عبارته الشهيرة: "لا يوجد من هو مستعبد بلا أمل، أكثر ممن يظنون خطأً أنهم أحرار"، المعنى هو أنه عندما تسيطر على عقلك وكيانك فكرة ما، وتقنعك بأن اغتنامها هو كل العزة والكرامة، ومخالفتها هى العار والهزيمة والاستسلام، فعندئذ لا تصير حراً، بل عبداً لفكرة تستعبدك، تسطير على كيانك، وتحدِّد لك اتجاهك، الذى لا تملك أن تحيد عنه لحظة، وكأنك قطار يسير على قضبان، وستقع كارثة، لو خرج عنها،والعبيد هم أكثر من يمكن السيطرة عليهم، وتسييرهم فى قطيع مطيع، وموجة طائشة، لا تدرك أن الشاطئ أقوى منها، لأنها تنكسر دوماً عليه، وترتد خائبة خاسرة،أما العقل الحر، الذى انتصر على عبودية الفكرة، فسيبقى وحده القادر دوماً على التمييز، بين الحقيقة،والسراب.