رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


القاهرة التاريخية حاضنة التراث المعماري رموز معمارية مسيحية في جدران مساجد القاهرة

26-10-2020 | 20:24


هل سبق وأنت تتجول بين أرجاء القاهرة التاريخية وآثارها أن صادفت عنصرًا معماريًا غير مألوفًا لك، أو رمزًا ظننت أنه بعيدا عن الثقافة الإسلامية؟


 هل زرت أول مساجد مدينة القاهرة، الجامع والجامعة، الأزهر الشريف وسمعت بوجود أشكال طيور وصلبان في رحابه ما زالت ظاهرة للعيان؟!


إنها القاهرة المبهرة دائمًا وأبدًا.. حاضنة التراث المعماري السابق عليها.. موطن التعددية الحقيقة التي مارسها أجدادنا من المسلمين في العصور الوسطى وحتى قرنًا منصرمًا... تلك المدينة التي لا تكف عن إثارة إعجابك مهما بدا لك أنك خبرتها وعرفت خبايها التي لا تنتهي.


نشهد بين الحين والآخر تناغم صوت الآذان بجوار جرس الكنيسة حيث تتآخى المئذنة رمز العمارة الإسلامية بجوار صلبان الكنائس في مصر وكذلك أماكن عدة في العالم وأشهرها مدينة غرناطة بإسبانيا، كنموذج للتسامح الديني والتآخي بين المسلمين والمسيحيين على أرض واحدة، لكننا نجهل أن بعض الرموز المعمارية المسيحية لا تزال قابعة في العمائر الإسلامية كنموذج للتواصل الحضاري بين الإسلام والمسيحية ممثلاً في فن العمارة.

وقد ظهرت العديد من الآراء الفقهية التي تحرم أي تعامل أو استخدام للصليب، منقوشاً أو قائماً أو مجسداً، باعتباره الرمز الديني المسيحي الأبرز، وعلى الرغم من ذلك نستطيع أن نرصد عددًا من الصلبان والرموز المسيحية في منشآت مدينة القاهرة الإسلامية كدليل بارز على تعايش أجدادنا وفهمهم لمعنى الإنسانية وتقبل الآخر بصورة عملية.


احتوت العمارة الإسلامية في مصر، وبالتحديد في مدينة القاهرة، في عصور الحضارة الإسلامية المتعاقبة، جانبًا من التراث المعماري السابق عليها، احتضنت المناسب لها منه كما هو، أو كيفته من جديد لأجل الاستفادة من كافة موارد البناء المتاحة، بتوظيفها في تشييد منشآت جديدة، والتي تضمنت عناصر معمارية تحمل رموزًا تعبر عن الدين المسيحي. لذا، دخل في عمارة عدد من مساجد القاهرة، أعمدة منقولة من منشآت مسيحية، تحمل تيجانها زخارف مسيحية؛ منها ما هو منقوش عليه الصليب، ومنها ما هو منقوش عليه طائر بشكل حمامة أو نسر.


وقد نظن أن وجود صلبان في مساجد مدينة القاهرة حالة فردية أو استثنائية؛ إلا أن هذا الأمر تكرر في عدة مساجد ومنشآت ذات طبيعية دينية وفي عصور مختلفة. يحوي الجامع الأزهر، عدد ضخم من الأعمدة القديمة ذات طرز مختلفة، بأعمدة تيجانها مزخرفة بنحت بارز لأشكال طيور مثل الحمام والنسر الروماني، وتيجان أعمدة مزخرفة في أعلاها بشكل الصليب، وقد تناقل المؤرخون والرحّالة مثل ابن عبد الظاهر والمقريزي والمقدسي رواية حول تلك الأعمدة ذات زخارف الطيور المنحوتة على تيجانها باعتبارها طلاسم مفادها "فلا يسكنه عصفور، ولا يفرخ به، وكذا سائر الطيور من الحمام واليمام وغيره، وهو صورة ثلاثة طيور منقوشة، كل صورة على رأس عمود".


ونشهد بجامع "الصالح طلائع" الذي يحوي رواق قِبلته صليباً كاملاً غير مكسور بالقرب من المحراب، وأيضاً نجد جامع الناصر بن قلاوون به نموذجين من الأعمدة المنقوشة بشكل الصليب القبطي ومنها تاج به صليب كامل، كما يؤوي جامع زوج ابنته الطنبغا المارداني عمودين في كل منهما صليب كامل الأضلاع، وهي أمور تظهر مجدداً في مسجد الأمير أُلماس الحاجب الكائن بشارع الحلمية، ومسجد الست مسكة في السيدة زينب، وأيضاً في المدرسة الدينية "خانقاه" الأمير شيخون العمري بشارع الصليبة، ومن عصر الدولة المملوكية الجركسية نجد بمسجد المؤيد شيخ المحمودي عمودًا مزخرفًا بصليب ذو ثلاثة أضلاع، وكذلك ثلاثة أمثلة مشابهة أخرى بمسجد الأشرف برسباي بالخانكة.


وتجدر الإشارة إلى أن المباني التي أنشأها العرب في القرون الأولى للإسلام تم جلب أعمدتها من منشآت أخرى، غالبها مهجور أو في حالة سيئة من الحفظ توفيراً للوقت وإنجازاً لعملية البناء، بداية من جامع عمرو بن العاص وحتى الأزهر وغيره من المساجد التاريخية العريقة، لذا لم يكن بالغريب أن تظهر في تيجان أعمدة مساجد عريقة نماذج واضحة من المعمار القبطي، كأشكال طيور على الرغم من أن الشريعة الإسلامية تحرم التجسيد، وربما هذا الأمر الذي دفع البعض عبر الزمن للتطوع وإزاحة رؤوسها أو طمسها بأي طريقة أخرى خوفاً من الحرمانية، ولم نصادف نموذجاً طائراً بمسجد يحمل فيه رأساً كاملاً أبداً وكذلك معظم نقوش الصلبان التي يتم كسر أحد أضلاعها لتغيير معالمها الهندسية، إلا أن بعضها ظلت خفية عن الأعين فنجت من هذا المصير وبقيت حتى الآن.


وفيما يخص موقف المعماري المسلم من استخدام تلك الرموز المسيحية فحقيقة الأمر أن الفن الإسلامي ذو طابع مدني أكثر منه ديني، وأن الشريعة وإن كانت هي المحدد الرئيسي له، فإنها لم تكن الموجِّه الوحيد له، فالمعماريون المسلمون الأوائل كانوا يفرقون ببراعة بين ماهو ديني وماهو بشري، لذا كانت رؤيتهم في إعادة استخدام أبنية لصالح إنشاء أخرى بوجه عام اقتصادي بحت بعيد عن أي تزمت ديني، بجانب أن إعادة استخدام أجزاء من أبنية قديمة "ظاهرة إنسانية" عرفتها جميع حضارات الأرض، بعيدة تماماً عن أي تعصب ديني.


ينطبق ذلك على العمارة المسيحية نفسها التي حوّلت بعض المعابد الفرعونية إلى كنائس مثلما حدث مع معبد الأقصر، كما أن معبد جزيرة فيلة نُقشت الصلبان على حجارته، ولعل أوضح مثال على ذلك هو معبد حتشبسوت الذي تحول لدار للعبادة، ولا يزال حتى الآن يُطلق عليه اسم الدير البحري.


والحق أن يكون قد حدث أحيانًا استهداف من بعض الحكام العرب لبعض الكنائس والاستيلاء على مكوناتها من أجل تأسيس منشأة تابعة لهم، لكنها تلك الأحداث تظل ممارسات فردية لا تعكس بأي حال من الأحوال أي توجه للدولة معادٍ للعمارة المسيحية، بدليل بقاء كنائس كاملة منذ العهود الإسلامية الأولى وحتى الآن.


إنّه من الخطأ الحكم على تصرفات العصور القديمة بمنظورنا نحن، فقديماً لم تكن للآثار قدسية كبيرة كما هي الآن، فكانت الحضارات كثيراً ما تأخذ من إنشاءات بعضها البعض، وهو أمر يظهر في بلد شهد كثيراً من الحضارات كمصر، فإن كانت الدوافع العملية الاقتصادية هي المحرك الأول لتعامل المسلمين مع تلك العناصر المعمارية باعتبارها مواد بناء؛ فهي على جانب آخر تمثل نموذجا للتأثير المتبادل بين التراث المعماري القبطي والثقافة الإسلامية، بما تشمله من مفاهيم التسامح والعدل واحترام الأديان.