«بين التألق والهاوية».. كيف شكّل البحر المتوسط تاريخ مدنه؟
عن دار نشر " john murray" الإنجليزية العريقة، صدر عام 2010، للمؤرخ الإنجليزي فيليب مانسيل philip mansel، كتاب levant : splendour and catastrophe on the mediterrean، وتُرْجِمَ إلى اللغة العربية ضمن سلسلة عالم المعرفة، تحت عنوان "ثلاث مدن مشرقية: سواحل البحر الأبيض المتوسط بين التألق والهاوية".
يمضي بنا الكتاب في رحلة تقصي حقائق، تُنَقِّبُ عن نظرة مغايرة لتاريخ المشرق القديم، في ثلاثٍ من المدن الكبرى المطلة على ساحل البحر المتوسط (سميرنا، الإسكندرية، بيروت). ويؤكد أن توهج هذه المدن وتألقها الاستثنائي - في كل حقب التاريخ - يرجع إلى إطلالتها على الساحل المتوسطي العتيق، معتبرًا أن تفرُّد البحر المتوسط لا يعود فحسب إلى ربطه الجغرافي بين قارات ثلاث، بل إلى كونه أوربيًّا بامتياز، إذ أثّرت أمواجه الهيلينية (الإغريقية) في تكوينها الحضاري والثقافي والإنساني.
الكتاب مُدوّن بقلم مستشرق عتيد، متمكن وثريّ في مادته البحثية، لكنه - كسائر المستشرقين – ذو نظرة أُحادية، بعيدة عن الحياة المشتركة المتسامحة التي ينادي بها؛ فهو لا يقتنع أن المشرق بأسره عاني من ويلات وفظائع الاستعمار، ويرى الإنسان الأوربي يقدم إلى الشرق وردة بيده وهو يبتسم، بينما تُشْهِرُ يدهُ الأخرى في وجهه مدفعًا رشاشًا.
في قرابة السبعمائة صفحة، يعيد مانسيل صياغة تساؤلات افتراضية قديمة طالما بحثها المستشرقون، حول إمكانية التعايش في المشرق حياةً مجردة من التعصب القومي والعرقي والديني. اختيار المدن جاء مُغريًا للقراءة والغوص في أعماق الكتاب؛ فالمدن موضوع البحث (سميرنا، الإسكندرية، بيروت) تعبر عن ثقافات وحضارات متباينة، بل ومتصارعة تاريخيًّا. ثم يصل تشويق الكتاب لأقصى مداه باختياره للزمن الذي يدور فيه البحث، وهو ذروة الاستعمار الأوربي للمشرق، وفرض نفوذ الجاليات الأجنبية بقوة الأساطيل الحربية، فيما يُحدث تضادًّا منطقيًّا في استيعاب الفكرة رغم بريقها، إذ يعود وينعى ويتساءل في مقدمة كتابه الثريّ: لماذا فقد المشرق إنسانيته وتسامحه وقبوله نحو التعايُش السلمي؟!. وفيما يلي سنعرض آراء مانسيل في المدن المشرقية الثلاث.
المدينة الأولى "سميرنا "
* مدينة المذابح والمرح
سميرنا، مدينة أزمير التركية حاليًّا، ذلك الميناء المتوسطي، تلتقي فيه أوربا مع آسيا، ما يؤكد أن هجرة اليونانيين إليها - في زمن الإمبراطورية العثمانية - غيرت من شكلها الحضاري بدرجة كبيرة، واستطاعت الجاليات الأجنبية كسر جمود الأتراك وتأخرهم الثقافي، بما كوّنته من ثروات، وما جاءت به من أفكار مختلفة. إذ يستعرض المسارح وفرق الطرب التي أدخلوها، ثم يصف المذابح والحرائق التي تعرّضوا لها على يد الإنكشارية، وأسبابها المتعسفة. يعتبر الكتاب أن سميرنا - قبيل قيام الدولة الأتاتوركية - كانت مدينة مشرقية نموذجية للتعايش السلمي، فهي أول مدينة عثمانية تتخلى عن تقاليدها الرجعية، بل إنها المدينة الحاضنة لجماعة الاتحاد والترقي الثائرة ضد العثمانيين. ومن مظاهر العالمية والتعايش المشترك أن سميرنا - بحلول عام 1914 – كان بها 53 مسجدًا، و35 كنيسة، و17 معبدًا يهوديًّا، ويشارك في حكمها العثمانيون واليونانيون واليهود، ولكن هذه المظاهر كانت هي ذاتها من أسباب الثورة.
المدينة الثانية "الإسكندرية "
* باب مصر
يعتمد مانسيل في بحثه عن الإسكندرية على فكرة الحداثة الأوربية في مصر، التي بدأت مع نهاية الحملة الفرنسية وبداية حكم محمد علي لمصر، ثم يمضي في بحثه إلى الحقبة التالية لها مباشرة، وهي الاحتلال الإنجليزي لمصر. والملاحظة الأهم التي تتضح لنا في معرض الحديث عن الإسكندرية هي المفارقة الواضحة بينها وبين سميرنا. فالجاليات الأجنبية تمكنت من اختراق سميرنا - حضاريًّا وفكريًّا - رغم التعسف الحكومي العثماني ضدها. أمّا في الإسكندرية فقد كان الأمر على العكس تمامًا، فالجاليات الأجنبية كانت تحظى بدعم الحكومة الخديوية على حساب المصريين، ورغم ذلك سيطرت الثقافة المصرية على الحضور الأوربي، واحتوته وصبغته بلونها. وفي فصل كامل بعنوان "التمصير"، يحكي عن رحيل الأجانب عن الإسكندرية - وعموم مصر- بعد ثورة يوليو، وهم يبكون على أيامهم فيها، ورافقهم عشقها طويلًا في أحلامهم وخيالاتهم وكتاباتهم.
المدينة الثالثة "بيروت"
* جمهورية التجار
لم تستحوذ بيروت على مانسيل بنفس الشغف البحثي الذي أبداه مع سميرنا والإسكندرية. ومن ثَمَّ، لم يعرض لنا المدينة من منظورها التاريخي والسياسي قدر ما تناولها من منظور التجارة والسكان المحليين، وكيف أنها كانت مدينة عثمانية خربة عشوائية، وصارت مدينة عالمية بعد الغزو المصري لها عام 1832. لم يحتج مانسيل مجهودًا بحثيًّا كبيرًا ليقدم لنا سيرورة التعايش السلمية في بيروت، إذْ يرى أن تعادل الكتلة السكانية بين المسلمين والمسيحيين أدَّى إلى ذلك السلام المجتمعي. وساق ما أكده بيتر مانسفيلد في كتابه "تاريخ الشرق الأوسط" أن : ما حافظ على استمرار تعادلية القُوَى والأفكار في بيروت هو المدارس التبشيرية البروتستانتية الأمريكية والكاثوليكية الفرنسية. ويؤكد مانسيل أن بيروت مدينة طيّعة، رحّبت بالجالية الأجنبية - بمنطق التجارة - ترحيبًا لا عناد فيه ولا مقاومة، بل اندفعت توثق العلاقات من منطقها التجاري التاريخي، باعتبارها جزءًا من الشام الكبير، مهد التجارة في الشرق الأوسط. وهو ما جعله في آخر الكتاب يصفها بأنها المدينة الباقية حتى الآن على سجيّتها الإنسانية، وعساها تكون لوس أنجيلوس أو لندن. ولكنه خائف أن تمضي على طريق سميرنا والإسكندرية بعد صعود حزب الله واغتيال رفيق الحريري.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 47 - أغسطس 2020