البَحْرُ في المُخَيَّلَةِ الأَدَبِيَّةِ.. سحر شواطئ «المجهول»
(Sea in the Literary Imagination: Global Perspectives)، أو كتاب (البحر في المخيلة الأدبية .. رُؤًى عالميةٌ) يغوص بنا في موضوعات عن البحر من خلال سياقات أدبية شتى، عبر عدة ثقافات. هذه الموضوعات تبرهن في جوهرها على عالمية التجربة الإنسانية مع البحر، وهي تركز على الإبداع الأدبي المُنْتَج على مدار ألف عام، بداية من قصص البطولة والمغامرات المسماة بالقصص الرومانسية في العصور الوسطى، وانتهاء بإعادة تخيل للنصوص الأدبية الكلاسيكية في الأفلام الحديثة. ويتميز الكتاب بتناوله لموضوعات ذات طبيعة بحرية من شتى البلدان، مثل الولايات المتحدة وتشيلي وتركيا والمملكة المتحدة وكولومبيا، بدلًا من تركيزه على أدب بلد واحد.
من البديهي أن أدب البحر منبثق من أدب البيئة، وقد شهد نموًا واضحًا في العقدين الماضيين. وإذا كانت الدراسات المبكرة تعاملت مع طبيعة البحر باعتباره خصمًا أو عدوًّا للشخصيات الأدبية، متجردًا من القصد والغرض، فإن الدراسات الحديثة تميل إلى إدانة دور البشر في الدمار الذي حل ببيئة البحر على نطاق واسع. إن البحر بِنْيَةٌ معقدةٌ، فنحن قد نلجأ إليه باعتباره صديقًا مُواسيًا ومصدرًا ملهمًا للإبداع، وقد نُضطر إلى استغلاله في عالم ما بعد عصر الأنثروبوسين – عصر التدخل البشري في البيئة - والذي يفرض على البشر النضال باستماتة من أجل البقاء على قيد الحياة. بالنسبة للدارسين اليوم، لم يعد البحر ذلك الكيان السامي المجهول مثلما جاء في كتابات الفيلسوف الشهير لونجينوس، بل إنه كيان عضوي واحد، وربما كان كيانًا حيًّا، تعول عليه البشرية كثيرًا. لقد اكتسب البحر على مدار التاريخ عباءة من التقاليد الأدبية، استمد منها الروائيون والشعراء والكُتّاب بعضًا من أقوى استعاراتهم. ولكن هناك الآن باحثين معاصرين يسعون إلى تجريد البحر من مكانته الأدبية، ووضعه على بساط البحث والنقاش والجدال، شأنه شأن سائر المفاهيم، مثل السلطة، والسياسة، والهوية الإنسانية، والبيئة.
الكتاب حَرَّرَه أربعة كُتَّاب، هم إيكترينا ف. كوبيلفا، وبين ب. روبرتسون، وشانون و. طومسون، وكاتونا د. ويدل. وبذلك يُعَدُّ مجهودًا عالميًّا عابرًا للحدود والقوميات، إذْ يتبنّى تعددية ثقافية وتأويلات خاصة بالأدب البحري حول العالم. ولمّا كانت المحيطات تغطي سبعين بالمائة تقريبًا من سطح الأرض، فلا عجب أن احتضنت ثقافات عديدة أدبًا مرتبطًا بالبحر. ورغم أن هذا الكتاب لا يجمع إلّا قدرًا ضئيلًا منها فإنه يؤكد سعة نطاق هذا الارتباط وحجمه.
ينقسم الكتاب إلى سبعة أبواب. جاء الباب الأول بعنوان "الأدب الأوربي: أخطار البحر". يتناول جايمي ماكنستري صورة البحر في روايتين رومانسيتين من العصور الوسطى، وهما (سير ايسومبراس) و(الملك هورن). وفي هذا الباب – أيضًا - تتفحص آنا فرنانديز كاسترو سجلات بيت التجارة المؤسس عام 1503 في إشبيلية بأسبانيا، الذي جعل البحر - من الناحية القانونية - كيانًا مُؤْذِيًا، مما تطلب إعادة نظر في القانون البحري. أما لوسي جونسون فتستكشف صورة المحيط في أعمال الشاعرين بيرسي وماري شيلي، بصفته مؤشرًا على الفردية أو الذاتية، وهي إحدى سمات الحركة الرومانسية. كما تناقش أليس كيلي الطبيعة المستغلقة للبحر في القصة القصيرة التي كتبها جوزيف كونراد (مُزارع مالاطا) (The Planter of Malata).
الباب الثاني من الكتاب جاء بعنوان "الأدب الآسيوي: مناظر البحر والبيئة". وفيه تناولت جالا ماريا فولاكو البحر من زاوية النضج الذي يُحدثه لشخوص أعمال الكاتب الياباني ناجاي كافو. أمّا الباحثة نيروجيتا جوها فترى أن البحر يتيح للنساء قوة تمثيلية أكبر في نصوص (ماناسا مانجل كافيا)، وهي نصوص بنغالية هندوسية مُقدسة، كُتبت في العصور الوسطى. بينما يستعرض إيركن كيريمان إشكالية أخلاقيات الأرض، والعلاقة بين الإنسان والبحر، في أعمال كاتبين تركيين هما يشار كمال وسعيد فائق عباسي.
الباب الثالث جاء بعنوان "أدب أمريكا الجنوبية: البحر المجهول". وهو ينقل بؤرة الاهتمام إلى أمريكا الجنوبية وغموض البحر. تتطرق إيلينا دي كوستا لأعمال الكاتبة التشيلية مارجوري أجوسين في سياق ذكريات المنفى، وكيف يشكل البحر الهوية التشيلية اليهودية. ويتعرض خوان مونوس زاباتا للشعر الكولومبي، ويربط بينه وبين مبدأ السمو التقليدي عند الفيلسوف لونجينوس. أما دنيت ديماركو فتختتم الفصل بمقال تشير فيه إلى وجود ارتباط مميز بين أدب الكاتبة الكاريبية مونيك روفي والكاتب الأمريكي هيرمان ملفيل.
الباب الرابع جاء بعنوان "أدب أمريكا الشمالية: ملفيل والبحر". ينتقل بنا إلى أمريكا الشمالية، ويركز بشكل حصري على أعمال الكاتب الشهير هيرمان ملفيل المرتبطة بالبحر. يعالج كلفن بيليل "السرديات المركبة" في رواية (ماردي) لملفيل، بينما تستعرض هانا ستراب سينول حوريات البحر في أعمال الكاتب، وذلك باعتبارها "أخريات" غريبة. وتفكك ميجان بارنز رواية موبي ديك من ناحية اللغة وعلاقتها بالبحر. أمّا ألكسندرا ميني فتستكشف الحيز المكاني وتشعب دوامات البحر في الرواية نفسها.
وجاء الباب الخامس بعنوان "أدب أمريكا الشمالية: التسامي والحداثة والبحر"، الذي جذب الانتباه إلى أدب أمريكا الشمالية من خلال أعمال هنري ديفيد ثورو، وكُتَّاب لاحقين. ترى كاتلين هيلي أن كتاب (رأس كود)، القائم على تأملات ثورو أثناء نزهاته، يربط بين لوحات الطبيعة المعاصرة ومفهوم القدر المحتوم Manifest Destiny. ويطرح بول بلوم تحليلًا سيكولوجيًّا للقصة القصيرة التي كتبها إرنست هيمنجوي (بعد العاصفة). بينما تنقل الباحثة التونسية مُنجية بسبس البحث البحري إلى استقصاءٍ ما بعد حداثيٍّ، وذلك باستعراضها لشخصيات سفينة الجنون من خلال نظريات الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو.
الباب السادس، الذي حمل عنوان "الأدب العالمي: الثقافة الشعبية والبحر"، ركز على الثقافة الشعبية المعاصرة. حيث طرحت تارا مور مسألة ارتفاع مستويات البحر في أدب المناخ للشباب باعتبارها دعوة أدبية قوية نحو الاستدامة البيئية. بينما ناقشت رايتشل كارازو الأفلام المقتبسة من الأدب الكلاسيكي، وتركيزها على صورة الكراكن، وهو وحش بحري خرافي يستوطن سواحل النرويج وجزيرة جرينلاند، ويروع البحّارة مثلما ورد في الميثولوجيا الإسكندينافية. كما استعرضت مفاهيم الاستهلاكية ووحوش البحر في رواية جين أوستن (عقل وعاطفة) في إطار مُتخيل حديث.
أمّا الباب السابع والأخير فجاء بعنوان "الأدب والبحر: تأملات ختامية"، وتضمن أفكارًا وملاحظاتٍ طرحها الكاتب الأمريكي بول جواخاردو، بشأن طبيعة البحر وعلاقته بالبشرية، عبر الأدب وعبر تفاعلاتنا مع حضوره المادي.
وأخيرًا، فإن هذا الكتاب يُعَدُّ مرجعًا مفيدًا وثريًّا للمتخصصين وللقارئ العادي على حد سواء؛ فالقارئ المتخصص - أو الباحث - سيجده مثيرًا للاهتمام بسبب رؤيته المميزة للنصوص الأدبية الفردية، أمّا القارئ غير المتخصص فسيفتنه الترابط الذي تكشف عنه التجربة الإنسانية مع البحر. صدر الكتاب عن دار نشر كامبريدج سكولرز بابلشينج في 2019، ويقع في 404 صفحة.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 47 - أغسطس 2020