"القضية 43 اللبان"... قصة مُصورة للفنانة السكندرية ميّ كُريّم، صدرت مؤخرًا عن منصة "كُتُبنا" للنشر الشخصي، في 308 صفحات من القطع الكبير، وبإخراج فني لشهاب إسماعيل.
يبدو هذا الكتاب جزءًا من مشروع ميّ الفني، المُهتم بتاريخ مدينة الإسكندرية بشكل خاص، وبتاريخ من عاشوا فيها من شخصيات مؤثرة. ففي عام 2015 أصدرت قصتها المُصورة الأولى: "حين تخلت الآلهة عن كفافيس"، التي تعاونت فيها مع القاصَّة الشيماء حامد، وصدرت وقتها عن دار نشر فابريكا السكندرية. وفي لقاء مع الفنانة والكاتبة، ذكرت ميّ اهتمامها الشخصي بتسجيل ملامح عمرانية ومعمارية للمدينة ذات الطبقات المتعددة تاريخيًّا واجتماعيًّا، واستغلال وسيط القصص المصورة - ضمن وسائط فنية أخرى - تعتمدها الفنانة في مشروعها التوثيقي الفني.
ويأتي كتابنا هذا مصداقًا لقولها ذاك. وتختار هذه المرة قصة شخصيتين شهيرتين، هما السفاحتان ذائعتا الصيت: ريا وسكينة، وهما على عكس شخصية شاعر المدينة – كفافيس - الذي عاش في زمن معاصر لهما، ومات بعد إعدامهما بأحد عشر عامًا، شخصيتان إجراميّتان، أو هكذا قُدِّرَ لهما أن تكونا.
تُقدم مي شخصيتي القصة الرئيسيتين على الغلاف الأمامي والخلفي للكتاب، بألوان طُفولية زاعقة، وخطوط تحديد بارزة. "رَيَّا" على خلفية فُزدقية، وعلى جانبيها سطور من حكم الإعدام والتحقيقات، مكتوبة بخط يدٍ يحاكي خطوط مُدوني التحقيقات السريعة، المتعجلة وغير المُنَمَّقَة، وإلى جانب رأسها طابع دمغة بقيمة 15 قرشًا يحمل رسم النسر شعار جمهورية مصر العربية (التي لم تكن قد وُجِدَتْ وقت إعدام رَيَّا وسكينة عام 1921). وتأتي "سكينة "على الغلاف الخلفي، وسط خلفية صفراء، بها سطور أقل من التحقيقات، وبعضها شبه مَمْحُوّ، بينما يسيطر على الخلفية جدول كبير، مكتوبٌ فيه أرقام السنوات من 1800 تقريبًا إلى 1954.
تستند القصة إلى أربعة مراجع توردها في ظهر الغلاف الأمامي: كتاب البنك الأهلي المصري 1898-1948، وكتابا "حكايات من دفتر الوطن"، و"رجال رَيَّا وسكينة – سيرة اجتماعية وسياسية لصلاح عيسى"، وذاكرة مصر المعاصرة (موقع مكتبة الإسكندرية).
تبدأ القصة بصيغة حكم الإعدام الصادر بحق رَيَّا وسكينة في قضية النيابة العمومية نمرة 43 لبَّان سنة 1921، بعد التأكد من تزعمهما عصابة قتلت (عشر نسوة من الطبقة القاطنة بدائرة المذكور) بنص الحكم، ثم تنتقل القصة لتتحدث عن (رَيَّا وسكينة في السينما والمسرح)، وكيف كانت البداية مع مسرحية كتبها بديع خيري بالاشتراك مع نجيب الريحاني، الذي أخرجها وقام ببطولتها مع بديعة مصابني عام 1922، لكن هذا العمل - رغم قربه زمنيًّا من وقت وقوع الأحداث - ابتعد عن التفاصيل الحقيقية للقصة، ففشل في اجتذاب الجمهور الذي كان يأمل في إغرائه بالحضور لمشاهدة عمل ارتبط في أذهان الناس بحادثة مُريعة جرت منذ قليل.
وتأتي السينما بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عامًا لتقدم - عام 1953 - فيلمًا للمخرج صلاح أبو سيف بعنوان رَيَّا وسكينة"، وبعده بعامين يقدم المخرج حماده عبد الوهاب فيلم "إسماعيل ياسين يقابل رَيَّا وسكينة"، وهو محاكاة ساخرة للفيلم السابق وليس للقصة الأصلية.
لا غرو أن يمتد الكلام إلى مسرحية المخرج حسين كمال التي قدمتها شادية وسهير البابلي في 1980، وامتد عرضها 4 سنوات، والتي يبدو أنها كانت حُلمًا راود شادية منذ المشهد الذي قدمته في فيلم عفريت مراتي، وحاكت فيه باقتدار الفنانة نجمة إبراهيم التي قامت بدور رَيَّا في فيلميْ الخمسينيات، وكذلك إلى الفيلم الذي قدمه المخرج أحمد فؤاد بطولة يونس شلبي وشيريهان بعنوان رَيَّا وسكينة عام 1983.
ولكن، في كل الأعمال الدرامية التي قُدمت حول حكاية هاتين المرأتين، كانت القصة تبتعد كثيرًا عن الوقائع الحقيقية.
وهنا لا يصحُّ أن نغفل مُسلسل رَيَّا وسكينة الذي قدمه المخرجه جمال عبد الحميد عام 2005، بطولة عبلة كامل وسُمية الخشاب، وأعد له السيناريو والحوار مصطفى محرم، استنادًا إلى كتاب صلاح عيسى "رجال رَيَّا وسكينة"، والذي اقترب كثيرًا - ولأول مرة - من الأحداث الحقيقية.
من المعروف أن فيلم صلاح أبو سيف قام ببطولته أنور وجدي ونجمة إبراهيم وزوزو حمدي الحكيم، وقد تحوَّل هذا الفيلم – بأغنيته وتفاصيله - إلى مرجع لقصة المرأتين، حتى كاد يحجب الحكاية الحقيقية. وفي أكثر من تسعين صفحة، تورد القصة المُصورة معالجة صلاح أبو سيف في كادرات مختلفة الحجم، مأخوذة من الفيلم مع جُمَلِه الحوارية، لكن بتعليق من مُبدعة العمل، مُستخدمةً الألوان التي اعتمدتها للكتاب كاملًا (ما عدا الغلاف كما أوضحنا من قبل)، وهي الأبيض والأسود والرمادي، مع لمسات من الأصفر أحيانًا، والبُنِّيّ الخفيف كخلفية للإعلانات والجرائد والمستطيلات التي ضمت الجمل الحوارية والتعليقات. كأنها تعيد تقديم الفيلم الذي قُدِّمَ بالأبيض والأسود، أو تأخذنا بهذه الباليتة إلى ذلك الزمن القديم، أو تعكس حقيقة الواقع الخشن والمظلم لهذه الحكاية وتلك الفترة.
ومن الطريف أنها تقدم خلال هذه الصفحات - المعالجة للفيلم - استراحتين (كأنها تعرض الفيلم في السينما، أو على شاشة قناة تليفزيونية)، وتقدم في هاتين الاستراحتين بورتريهات سريعة بالرسم وبالكلمة لأبطال الفيلم: في الاستراحة الأولى أنور وجدي وفريد شوقي، وفي الاستراحة الثانية زوزو حمدي الحكيم ونجمة إبراهيم. مع تدخلات فنية ظريفة مثل جملة "جرّي الفيلم" مع العلامة البصرية لزر تسريع الفيديو، وإعادة تقديم أجزاء من جرائد هذ الفترة، وإبراز إعلانات المُنتجات المختلفة من سجائر ومشروبات، مؤكدةً على حضور التوثيق جنبًا إلى جنب مع العمل الفني. ومع نزول لافتة النهاية على أحداث الفيلم، تنتقل القصة إلى ما تُسميه بـ"القصة الحقيقية"، حيث يبدو من خلالها أنها استندت إلى المراجع سابقة الذكر، وعلى رأسها كتاب صلاح عيسى المدهش "رجال رَيَّا وسكينة".
تُقدم مي القصة الحقيقية في أربعة أبواب، ومثلما فعل عيسى، فإنها تتابع قصة حياة هاتين المرأتين، منذ مولدهما وتنقلهما بين المدن المصرية، من الصعيد حيث وُلِدَتَا، إلى الدلتا حيث عاشتا أغلب عمرهما، ثم انتقالهما إلى الإسكندرية التي أمضيتا بها السنوات الخمس الأخيرة من حياتهما، والتي شهدت ذروة نشاطهما، سواءً في الدعارة المنظمة، أو التحول بعد ذلك إلى القتل بغرض سرقة مجوهرات النساء اللاتي كان أغلبهن من العاملات معهن في البغاء. لقد كَوَّنَتَا عصابتهما مع ثمانية رجال آخرين، واستمرت فترة عمل عصابة القتل هذه أحد عشر شهرًا، قُتلت فيه تسع عشرة امرأة.
تُقدم لنا ميّ هذه الحكاية المظلمة في كادرات مُتخيلة، وجمل حوارية بالعامية التي يغلب عليها اللهجة السكندرية، (يتساءل المرء أحيانًا كيف اكتسبتاها بهذه السرعة، وصارت لهجتهما الأساسية، وهما لم تعيشا فيها طويلا؟)، مع مساحة كبيرة من التوثيق للسياق السياسي والاجتماعي لتلك الفترة، والذي يفسر اتجاه هاتين المرأتين ومن معهما إلى الجريمة، لا بغرض التعاطف، وإنما بغرض الفهم.
عمل جريء وجهد لافت، رُبَّما لا يعيبه سوى أخطاء النحو والإملاء، التي كان يمكن قبولها في الأجزاء المُقتبسة من التحقيقات باعتبارها شيئًا واردًا، لكنها في أجزاء السَّرد كانت بحاجة إلى ضبط، وإن كان ذلك بالتأكيد مُرهقًا لعمل يتم بخط اليد وضمن لوحة مرسومة. لكن تبقى لهذا الكتاب أهميته البالغة في تناوله أولًا لهذا الموضوع الثري، وثانيًا بإضافته لمجال القصة المُصورة المصرية، الذي ما زال المُنْتَج منه قليل العدد، ولا يليق بتاريخ اهتمام القراء في مصر بهذا النوع من فنون الكتابة.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 47 - أغسطس 2020