رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


كـــورونـــا/ كـــــوفــــيــد 19 : دوّامـــــة مـن الأسـئلة الـمُـحــيّـرة

27-10-2020 | 21:16


 مـنـذ مارس 2020، بــاتَ مصطلح فـيروس كورونا سـاريا على كـلّ الألـسِـنة، عـابـرا ًمـن أقصى الـقارّة الأسيوية لـيغـمر البسيطة كلها، حاملا معه الخـطـر الـمُـداهم لـيــنـشـُــر الموت والـفـزع ويجعل الخـوفَ وجـبة يـومية، يسـتحيل الإنسان معه إلى حشـرةٍ في مهبّ الرياح... لكنْ، في غـمرة الـفزع والخوف، ومن خلال ردود فـعل العلماء والباحثين في مجال الأوبــئة والفـيـروسات، تبـيّـن أن هناك سـياقا راهنا يبرر هجـــمة كـورونا الشـرسة ويضيء بـعضا من خلفياتها وما تحمله من أخطار وتـحديات. ذلك أن صـراع الإنسانية مع الأوبــئة جـدّ قــديـــــم  ينــدرجُ ضـمن رحـلـتها من المعلوم إلى المجهـول، أي ضـمن الـجـهود التي يـبذلها الـعلمُ وتجارب الإنسان من أجـل إخضاع الطـبيعة والتحكم في مــسارها وأسـرارها...غـير أن ما أنجـزه العـلم البشـري، على أهميته، يــظلٌّ قاصـرا عن اسـتـيعاب جميع مجاهــيـل الكون وإماطـة اللـّـثام عـن مكـنوناته. وقد لا يكون هذا القصور ناجما عن نقـصٍ في البحث العلمي، بـل يـعود إلى إســرافٍ في "الاعــتداء" على الطبيعة وقوانينـها من خلال المنــجزات الهائـلة في العــمران والاخــتراعات التكنولوجية والمراهنة على الــذكاء الاصــطنـاعي وصولا ًإلى الـروبوتْ وأتـمتـة الحياة البـشـرية...ومـثل هـذا التـحويل الـجذري في العلاقة بالـطبيـعة يـستـتــبع تــشــويه الـبـيئة والاستـهانة بقـوانين الطبيعة الـمتحكمة فــي ذلك التـوازن الذي جـعل اســتيطان الإنسـان للطـبيعة مُـمـكـنـا مُــنـذ الأزل.  نتيجة لـهذا الاختلال في العلاقة مع الطبيعة، يمكن القول بـــــأنّ هـجمة فيـروس كـورونا الجامحة تـذكـرنا، هذه المـرّة، بـشـيـئـيْن : أن العــلم،على رغــم فـتـوحاته الـمــذهــلة، لا يـزال قـاصـرا عن تــدجــيـن الأوبــئة والـجـــوائــح والبــراكين والـزلازل...، ومن ثــمّ ضـرورة مـراجعة العلاقة بيـن معجزات الـعلم وسـياق البيــئـة الطـبيـعــــية الـــتــي تـسـتـقــبل مـغامـرات وطـموحــات الإنــسان في هذا الــعالم الذي يـلـفـُّـهُ الـغموض مـنـذ الـنـشأة وفـرضـيات التـكــوّن... والشيء الثاني الذي يذكــّـرنا به كوفـيد 19، هـو أن هناك عـنـصـرا ســيـظـلٌّ مُــتـأبّــيـا على جـهود الإنسان وأبحاثه، وهو أن يضـع حـدّا للــموت ليعوضه بالخلود في الحياة الدنــيا.


  في هذا السياق وضــمن هذه الـحيـثـيات، تـتــمـيّـز زيارة فيروس كـورونا لـِـدُنــيا البشـر عـن زياراتٍ أخـرى لـلأوبـئة والجائحات، بأنـــــهـا ولِــدتْ مـلفـوفة في قِــمـاطٍ عـالــمي، يـجعـل داءَهـا يتـــغــلــغل في مجموع أرجاء الــبسيـطة ويــحـصد الأرواح، في غـمضة عـين، ويـفــرض الـحَــجْـر والاعـتــزال وتــغـيـيـر أنماط السـلوك وطرائــق العيش داخل البيـوت وفي ردهات المـجتمع...بعبارةٍ ثانية، لم يـعد المــوت قـــدرا مـجهول الـتـوقيت، بـل أصبح ماثـلا لـلــعيـان، حــاضرا في كل الفــضاءات، مُـخــتـرقـا الهواء والحـصون، زارعــا ًطـعـمَ الفـناء والـعدم في كـل حيـن...على هـذا الــنـحو، أصبح الموت حاضـرا بـيـنـنــا وهو يــرتـدي جُــبّــته الـمـيــتافـيزيــقية، مُـثــيـرا الشـكوك والــقلق، ونــاشـــــرا الــهـشـاشة والشــعور بالــعبث...


 طــبـيــعي إذن، أمــام مثل هذه الـكارثة الـطاحنة،أن يتـحرك الســياسيــون ومَنْ بـيـَـدهمْ أزمّـــة الـحُـكم والــسـلطان لـيـنظمــوا مـكــافــحــة الجـائحة، ويُـطـمـئــنوا المواطنين بما يعـلمون وما لا يــعلمون، خــوفا مـن أن تـفـلت الأمور من أيديهم، فـتــهــتـز "الشـــرعية" التـي تـُخوّلــهم  فــرض الســلطة واقــتراح الــحلول.  ومــثـل هذا السياق يــبـرّر فـرض الــحَــجــر والتـعـبئة الشاملة، واسـتـنْـهاض الـهـِـمَـم وروح التضامن بيـن المواطــنيـن...إلا أن هـــنـاك سـيــاقا آخــر يـلــتـصق بـهذه الـزيارة الــكورونيــة للــكون، ويتـمـثـل في ظـاهـرة الـعـولمة التي امــتـــدّت واســتــشــرتْ مـنـذ عــقود، في ظــلّ وحــماية الـنــظام الـرأسمالي بـكـلّ تـفــريــعاته وتــنـويـعاته الــمُـعانــقة دوْمـا ًلِــلــّربْـحية والـــــرّيْــــع. ذلك أن الــعولمة كما تـتـجســد اليوم، لا تــتـوخى تـنـظيم الاقـتصاد العالمي وتـيـسـيـر الـتكنولوجيا ونتائج الأبحاث العـــلمية على أسُـــــــــس كـونية عـادلة، إنســانية، وإنما هي قائمة على تــأبـيـد مصـالح وامـتــيازات الـمـتـحكميـن في رؤوس الأموال والشركات عابرات الـــــــقارّات وقائمة على المـــتاجرة بكـلّ شيء، بما في ذلك الـلــقــاحات المضادة لــلأوبـئة والتي تُــدرّ أرباحا طائلة على من يملـكون حقوق اكـتــشافها...


ومـمّـا يــستـرعي الانـتــباه، وقــد مضى أكثـر من شـهر على حـلول كـورونا في أرجاء العــالم، تــلك الخصومات الـمُـــسـتـعِــرّة بـيـــــن الـدول الـمــتحكمة في مـراكــز البحث العلمي وفي شــركات الأدوية ومــنظومات التـجارة الـرأسماليـة:


 كـلّ جانب يـريد أن يســتـأثر بالسبق في اكـــتـشاف الـلّــقاح الـمُــداوي، لــيـجنـيَ أرباحا تـعـوضه عـن خســائــر اقتــصاده خلال حقبة الـحــجْـر وتـبــطـيئ عجلات الإنتاج. لذلك كــثــُـر التـشـكيك في مصدر الجائحة، وهل هي نابعة من صلب الطبيــعـة أم أنها مـصطــنعة دبّــرتْـها قـوى بشـرية من أجـل البحث عــــــن أرباح تـجـنيها من اللـقاح الـمُــعدّ ســلفـا ؟ بـل هـناك مـن يـذهب بـه الـتــخـمين إلى أن فـيروس كورونا هـو مـن اخـتـراع الماسكـين بمفاتـيـح الرأسمالية، أرادوا مـن وراء إطــلاقه أن يُــلـجـموا الـتوجهات السياسية والأيديولوجية الـرافضة لاستـمـرار الاستـغلال الـرأسمالي للـــعــالـــم فـعمـدوا إلى هذا التــحايُــل لـيـثـبـتوا دوْرهُم في الإنـقاذ والـحفـاظ على نــمط الـعيش الـمُـعـتــمِـد أكثـر فأكثـر على الـرّقمنة والـبـرمجة؟ وممّا يـؤكـد التــكــالُـب على اسـتــغلال واقـعة كـورونا لـتدعيم مـركز سياسي أو تحقيق فـوزٍ انتـخابي، مـا بـادر إليه الـرئيس الأمريكي ترامب، إذ قـرر يوم 6 أبريل أن تـعتـمد الـمستـشفيات الأمريكية لمعالجة كوفـيد 19، على لـقاح "هـيدكـوسي/كـلـوروكـيـن"  الذي كان يُستـعمل لمعالجة المــلاريا مـن قبل. وهو قــرار يـعارضه الباحثون والخبراء في الولايات المتحدة وفـرنسا. وقـد بـرر قـراره بأن الـكلـوروكين أعطى نتائــــج إيجابية في بعض الحالات، ومن الأفضل أن يكون هناك لـقاح ناقص من أن لا يكون !


  مـهـما يكن، فـإن هذه الـمُـمـاحكـة والتـشـويش والاخــتلاقات التي تـصاحبُ مـحنة كورونا على مســتوى الــــــــــعالم، لــن تـســتطيـع أن تــحــجـب عـــنّـا جــسامة الـخـطر وأهـمية الأســئلة التي قـذفــتْــنـا إلى دوّامــتـها والـمــتـصلة بـمـصـيـرنا خلال التـجربة القاســية وبــعـد انــحســارهـا: مـاذا نــستــطيع أمام كـوارث من حجم كـوفـيد 19؟ وما الــذي سيُـتـيـح لنا وللــبـشر قاطبة أن نُـــكــمِـل رحــلـتــنا الـحياتية في شــروطٍ تُـــبـقـي على ذلك الــحد الأدْنَى الذي يـجــعـل الحياة جـديــرة بأن تـعاش، بـعيدا مــن الــخوف والـتـدليس والـحَــجْــر ومـعـاداة الطبيعة؟


  مــثـل هذه الأسئــلة الشــائكة، مــا مِــنْ أحــدٍ يســتـطيع الـزّعــمَ بأن لــديه أجوبة عـنها، خاصة في جانــبها الـوجودي والـميــتافـيزيقي. لأجل ذلك، أكــتـفي بـالـتلـميح إلى بــعض الـشروط الأولية التي أفــتـقــدها في الفضاء الـعربي الذي أنتــمي إليه، وافــتــقادها جـعلني أشعـــــــر بالخوف مُـمــتزجا بــنوع مــن الــيأس. ذلك أن الفضاء الـعربي يـواجه جائحة كـورونا وهو رهــيــنُ أوضاع ســلبـية في الســياسة وتـدبــيــر شؤون المجتمع وفي مجال البحث العلمي. هي أوضاع سـلبية لا تـسمح بـتـحـفيـز الناس على مقاومة هذا الـفـيروس الـفتــاك،لأن الأنظمة السيـاسية المعانقة لـلاســتـبداد والـحُـكـم الفــردي، تُــلغي وجود الـمواطــن كـقيــمةٍ حقيقـيـة، فـاعلة ومـؤثـرة، تـُسـهم بالرأي والموقف فــــــــي التـدبيـر واتـخـاذ الـقرار...وهذا يتـجلى أيضا في نـمـوذج التـعـليم الـمُـطبـّـق الذي هـو بـعـيــد عـن روح الـعصـر ومـقتضيات البحث العلمي والإسـهام في إنتاج الـمعرفة، بـدلا من البقاء عــالـة على مـا يُــنــتجـه الآخـــرون. إن اسـتــمرار الــتبـعية لــذوي الـقــرار الـمـتحكـــــم فــي العــالم، والخضوع لاســتيــراد مـا يُــعـزز الاستــلاب والاستـهلاك الـزائـــد، ظـاهـرة لا تـســتطيع أن تـعبئ المجتمعات لـمقاومة الــنـزعــــة الصـناعية والتـكنولوجية الـمـضادة لـتوازُن الــطبيعة وتـحسيـن شـروط الــعيش الـبشــري.  لأجـل ذلك، يـتـحتم على الجميع، وبـخـاصةٍ في الــفضاء الـعربي، أن نـجعل من مـحنـة كوفــيد 19 فـرصة للــتأمـل ومـراجعة طــرائق الـعيش والتـعامل مع الـطبيعة وإعــادة الاعــتــبـــار لــلإنــسان بــوصفه مـواطــنا لا تـكــتمـل حياته على الأرض إلا من خلال احتــرامه وإشــراكه في الـقـرار والتـدبـير، وتـزويده بالمعرفـــة الـضرورية لـمقاومة كـلّ ما يُــنـغّـص رحـلــته في هذه الحياة الــدنيــا.


  إن الأمــل كــبـيـر في أن يتـمكــن العالم قـريبا مـن مُــجاوزة هذه الـمحنـة الأليــمة؛ لـــكـن علامــــاتٍ كــثيـرة تـنـبـئ بأن الـعالم، في شكلــه الــحالي، ســيـظـلٌّ مُــعـرّضـا لـلــغــزو مـن الـفيروسات ونــكـبــات الطبيـعة. لأجـل ذلك، لا يمكن الـقبول باســتـمرار هذه الاختلالات التي هي وراء محـنة جـائحــة كورونا. من ثــم، نـجـد أصواتا كـثيرة تـرتـفـع لتؤكد أن الـعالم لن يكون هو نفسه بـعد مـرور عاصفة كـوفيد 19؛ غـيـر أن هذا الـقـول لا يخلو مـن إلتـبـاس: هل يـعني أن الـمـتحكميـن في الاقـتصاد والشركات وآلــيات الـعـوِلــمة هـم الذين ســيـغـيــّـــرون خطـطــهم لـتــثــبــيــت مـنافعهم وأرباحهم على حســاب الـمــستـضعــفـيـن؟ أم أن هذا الـرأي يــقصــد اســـتـنــهاضَ هِــمــم الأغلبيــة مـــن شـــعوب الـــعالــم لــيــفـرضوا ســياسة تمــحـو الـفوارق، وتحتـرم الــبيــئة، وتــدعــم الأبحاث التي تحمي صحة الإنسان ؟