"ليلة يلدا".. العالم ينتهي ليولد من جديد
الظاهر والباطن، المرئي والخفي، الروح والجسد، المجاهدة والسقوط والسمو، مركزية الكائن الإنساني في الوجود أو هامشيته... بعض المعاني التي يتحدث عنها الصوفية كثيرًا، وهي بعض ما دارت حوله رواية المبدعة المصرية غادة العبسي (ليلة يلدا)- دار التنوير، مصر، 2018م.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تتماس فيها غادة العبسي مع عالم الصوفية، أو تكتب بروح متصوفة، فلمحات كثيرة من ذلك نجدها في روايتها الأولى (الفيشاوي)، وفي عدد من قصصها القصيرة، لكنها تفرد كل رواية (ليلة يلدا) لهذا العالم النوراني الغامض، فماذا أرادت أن تكتب؟ وكيف كتبت؟
بداية تجد الكاتبة نفسها في معضلة، فرواية (قواعد العشق الأربعون) للتركية إليف شافاق فجرت الاهتمام الروائي بجلال الدين الرومي وشمس التبريزي وعالم الصوفية، فكتبت عشرات الأعمال مستفيدة من نجاح هذه الرواية، أو مستلهمة إياها، بما أشبه (الصرعة) في عالم الموضة، فكيف تكتب غادة العبسي رواية لا تحتسب على موضة كتابة الروايات التاريخية الصوفية، وتكون لها خصوصية طالما اعتدناها من الكاتبة؟
كما تجد الكاتبة نفسها أمام أسئلة أخرى إذ تقدم شخصية الشاعر حافظ الشيرازي، وهو شخصية مشهورة إلى حد كبير، فما الجديد الذي يمكن أن تحكيه عنه ولا يحصل عليه القارئ بضغطة زر على الإنترنت؟ وإذ تقدم رواية تاريخية في عالم صوفي عن حياة شاعر كبير؛ ما الذي يمكن أن تضيفه إلى الفن الروائي ذاته؟
كانت الكاتبة واعية تماما بمثل هذه الأسئلة وغيرها، فأجابت عليها روائيا، ويستطيع القارئ أن يجد هذه الإجابات في الفلسفة الكامنة خلف العمل الروائي، وفي الحكاية التي قدمتها الرواية، وفي البناء الروائي ذاته، وذلك في تداخل حكائي يعتمد لغة شفافة ذات روح صوفية تستبطن عالم الروح في حال تصادمه مع الذات ومع العالم الخارجي بمرئياته وأحداثه.
فمنذ العنوان تؤكد الكاتبة على فكرة الخلود، فالموت مجرد حدث ظاهري، أو مرحلة انتقالية، ستصفها الكاتبة بعد ذلك بلعبة الغميضة، فالفناء مجرد فكرة، لكن البقاء الدائم في عالم الإله هو الحقيقة المطلقة، لذلك تختار الكاتبة اسم ليلة يلدا، تلك الليلة التي تنهي عاما لتبدأ في اللحظة ذاتها عاما جديدا، فكأن البداية تولد من رحم النهاية، وكأنه لا بداية ولا نهاية إلا في وعينا البشري القاصر، ولكن استمرار دائم لحياة نفخ فيها الله الروح ولا يريد لها الفناء، لذلك تهدي الكاتبة روايتها إلى "جميلة" جنينها التي لم تخرج إلى النور، والإهداء نفسه قصة، أو رؤية كرؤى المتصوفة، ترى فيها الكاتبة/الأم روح ابنتها في عيني بطة بيضاء ذات جناحين ورديين في المحيط بسياتل بالولايات المتحدة الأمريكية، وتصف اختفاء الابنة بلعبة الغميضة التي تنتهي دائما بلقاء مودة وفرح وضحك.
ثم تضع الكاتبة مفتتحين لعملها، أولهما لعبد الرحمن الجامي:"إن سره على لسان كل ذرة، فاستمع أنت، فما أنا بنمًام". والثاني لحافظ الشيرازي بطل الرواية:"لا نهاية لمن لا بداية له". وكأنها بكل هذه المقدمات من عنوان وإهداء ومفتتح تغرس في وجدان القارئ وعقله فكرة الديمومة والخلود، وإمكانية التعاطي الحقيقي مع الخفي عنا إذا أصغنا السمع والبصر والفؤاد.
تدور الرواية كلها في ليلة واحدة، ليلة يلدا، أي ليلة الولادة، وهي الليلة التي يموت فيها حافظ الشيرازي، وكأن الكاتبة تؤكد منذ البداية أن ليلة الموت هي ليلة ولادة جديدة له. وتقدم الكاتبة بالتوازي خلال ليلة واحدة تاريخ حافظ الشيرازي ووالده بل وجده، وتاريخ بلاده، وتاريخ الصوفية، فكيف فعلت ذلك؟
تقدم غادة العبسي في (ليلة يلدا) ثلاث طبقات روائية، الطبقة الأولى تتمثل في أشعار حافظ الشيرازي التي تفصل وتربط بين كل فصلين في الرواية، والطبقة الثانية ما يرويه حافظ عن أسرته ونفسه، والطبقة الثالثة ما يحدث في روح حافظ ليلة وفاته أو ولادته الجديدة.
ففي الطبقة الأولى نقرأ: "لا نهاية لمن لا بداية له"، "كشجرة صفصاف أرتعد خوفًا على إيماني"، "حلّ عقدة القلب، ولا تفكر في أمر السماء"، "ليطُل طريق الوهم أمام سالكيه ألف عام"، "اغتنم المصادفات"، "صٍرْ عاشقا وإلا سينتهي أمر العالم ذات يوم"، "يقولون: لا تبوحوا بأسرار الحب، ولا تصغوا إليها"، "ناصح قال لي: أي فضيلة للحب سوى الحزن"، "أن تجرحني أنت خير لي من مداواة الآخرين"، "ما كل شجرة تتحمل قسوة الخريف"، "سافر من قاف الصحو إلى قاف الرؤيا، واجعل صمتك يا حافظ ذهب أبريز"، "أنا الذي يتنفس من دونك، ياللعار!"، "أنت عظيم، وأنا كالنملة في كف سليمان"، "لا يرجع السهم نحو القوس ثانية"، "العالم لا يعول عليه"، "إن مررتِ بي فارفعي ذيل ثوبك لئلا يلامس التراب والدماء"، "أحطم نفسي على ذكر عينيك"، "أحمل زادي وعصاي، أرحل من بيتي نحوه، ألوذ هناك بزاوية، لا يبصرها أحد، إلا وتمناها"، "يا حادي العيس، سقط حملي حبا، بالله أعني!"، "كيف للشعر البهيج أن ينضح من قلب حزين؟"، "انظر إلى متسول المدينة كيف أضحى أمير المجلس"، "حكم أمير النيروز قصير، خمسة أيام لا أكثر"، "إلى متى أربي حب الحسناوات القاسيات في قلبي؟"، "صحبة الحكام هي ظلمة ليلة يلدا"، "الحب ليس لعبة، هيا يا قلب قامر برأسك"، "إلى الحانة يرسلني القدر"، "احترق يا قلب وتحمل كما يليق بعاشق"، "إني سلطان العالم، أجلس متكئا فوق أريكة أيامي، الوردة في كفي، والخمرة في كأسي"، "حجاب الطريق هو أنت يا حافظ، فتنح جانبا"، "حكايتي مع الحبيب لا تنتهي".
وهذه الطبقة تؤدي ثلاث وظائف على الأقل، الوظيفة الأولى وضع الإطار الروحي والفكري للرواية، والوظيفة الثانية التعريف بخلاصة شخصية البطل وفكره وشعره، والوظيفة الثالثة الفصل والربط بين فصول الرواية للتأكيد على فكرة الاستمرار ولكن على مستوى الشكل الروائي، ونلاحظ دائرية الاختيار باعتبار الدائرة أكمل الأشكال الهندسية، وأقدرها على وصف فكرة الاستمرار والديمومة بلا نهاية، وتساوي كل النقاط عليها، فالاختيار الأول يتحدث عن عدم وجود بداية ولا نهاية، والاختيار الأخير يتحدث عن عدم انتهاء الحكاية مع الحبيب الأعظم؛ الله، بعد أن أشارت باقي الاختيارات إلى رحلة حياة حافظ، الحزن واليتم، الفقر، الحب، الشعر، الفشل، النجاح الدنيوي والاقتراب من السلطان، ثم الاكتواء بنار الدنيا، وإخلاص النية لله حتى أصبح حافظ نفسه هو العقبة بينه وبين الله فتنح جانبا حتى لا تنتهي حكاية الحب في الله.
أما الطبقة الروائية الثانية فهي تمثل الزمن الروائي، وهي ليلة يلدا، وبقدر ما هي محددة زمنيا، بقدر ما تنفتح روائيا لتمر على روح حافظ؛ المشوقة للصعود إلى الحبيب الأعظم، أرواح أقطاب الصوفية الكبار، حيث تفرد الكاتبة فصلا للحوار بين أحدهم وحافظ، بالتوازي مع حكي حافظ لقصة حياته وحياة أسرته، ثم تأتي بهم جميعا إلى حجرته، وإلى ليلة ولادته في الفصل الأخير، ليولد من رحم الدنيا الفانية صاعدا إلى عالم البقاء، ومن خلال هذه الفصول تقدم الكاتبة وجوهًا متعددة للصوفية، طرقًا كثيرة للوصول إلى الله، تختلف أشكالها، وطرق التعبير لدى كل منها، وتتحد في هدفها وهو عبور ظلمات ليلة يلدا/ الدنيا، للحصول على ميلاد مجيد يأنس بالقرب من رب الوجود، حيث يحيطون به ليصعدوا به إلي سماوات المحبة؛ الحلاج، فريد الدين العطار، ابن عربي، ابن الفارض، جلال الدين الرومي... (انتهى وجعي وأطلق سراحي... لا حاجة لي بهذا الجسد بعد اليوم، ولدت ولادة جديدة، وأخذتني ملائكة الموت والعشق إلى طريق الأرواح النوراني... روحي في الطريق إليه تحيط بي الصحبة من كل جانب)ص247.
أما الطبقة الروائية الثالثة فهي الحكاية الدنيوية لحافظ، حكاية جده وأبيه وحكايته هو شخصيا، من اليتم والفقر والعمل في مخبز، والعشق الضائع، والفشل في أن يكون شاعرا، ثم الإلهام الذي يجعله أكبر شعراء عصره ومقربا من السلطان، ثم وصول روحه إلى حقيقة الدنيا والمظاهر الخادعة، وركونها إلى محبة الله.
قد يقف القارئ أمام حكي الكاتبة لقصة حياة والد حافظ في حوالي سبعين صفحة ، وهو ما يقرب من ثلث الرواية، هل حياة حافظ وحدها ليست كافية لبناء رواية، فتعطي كل هذه المساحة لأبيه، لكن ما بنيت عليه الرواية يجيب على هذا التساؤل، الكاتبة تريد التأكيد على أن مركز الوجود هو الله فقط، وليس شخصا مهما تكن سلطته الزمنية أو موهبته الشعرية أو ولايته إلخ، وقامت بتحقيق ذلك في البناء الروائي، فالرواية عن حافظ، لكن حافظ نفسه فرد في أسرة، ورجل في عصر كامل، فقدمته بهذه الصفة، وهي الطريقة التي تخدم فكرتها الأساسية، فالحياة مجرد مظاهر خارجية غير حقيقية، وغير يقينية، والمهم فيها هو تأثيرها على أروحنا، تستطيع أن تلخص حياة حافظ كما وردت في الرواية في بضعة أسطر، لكن المهم تأثير هذه الأحداث على وجدانه وروحه، وكيف قادته إلى الشعر، فالدنيا، ثم نقلته إلى روح الوجود وعمقه، وذلك بحكي يستبطن تأثير الخارجي على الداخلي، والظاهر على الباطن، بلغة بها الكثير من الدقة والشفافية معا.
لم تقدم غادة العبسي في (ليلة يلدا) قصة حياة رجل، ولا عصر، ولا مكان، بل قدمت قصة ميلاد عالم نوراني ينبثق من قلب الظلام، وهو في حالة ميلاد دائم مهما يكن طول الليلة المظلمة.