في اليوم العالمي للتضامن مع ضحايا جرائم الشرف.. يوسف إدريس يحدثنا عن "فاطمة"
الأدب مرآة المجتمع ومنارته، هو الضوء
الساطع الذى يندد بأنساق المجتمع المهترئة وعاداته البالية، فلم يكن الأدب يومًا
بمعزل عن تجسيد الواقع وتمثيل صورة المرأة فى شتى ظروفها، ولم يتوان الأدباء في الدفاع
عن قضايا المجتمع المختلفة، وفى ظل احتفال العالم اليوم 29 أكتوبر "باليوم
العالمى للتضامن مع ضحايا جرائم الشرف" –بدأ ذلك منذ 11 عام عندما ثارت نساء
سوريا بعد الحكم ببراءة شاب قتل شقيقته عمدًا لشكوكه فى سلوكها.
وكان الكاتب
والطبيب "يوسف إدريس" حاضرًا وبقوة كُلما ذُكرت قضايا المرأة، حيث
يتناول دائمًا مشكلات المجتمع المعاصر فى الريف أو المدينة ويخوض دون خوف أو
مواربة في كتاباته، حول موضوعات إنسانية وإجتماعية
كالحب والجنس وغيرها من القضايا التى تثير الجدل حولها دائمًا.
كان "إدريس" دائمًا يملك
القدرة على لفت إنتباه القارئ وجذبه إليه، فالخيط دائمًا فى يده كالزمام يتحكم فيه
قادرًا، مسيطرًا وجرئ، فى الوقت الذى كان فيه آخرون قابعون في المنطقة الآمنة.
ومن خلال قصته القصيرة "حادثة شرف" استطاع
إدريس أن يغوص في أعماق البنية التحتة للمجتمع المصري، سواء في القرية أو
المدينة وذلك من خلال رؤيته الواقعية ونظرته النقدية التي تسعى إلى الكشف عن
الجوانب السلبية في المجتمع.
وفي "حادثة شرف" اقتحم يوسف إدريس موقعا غائرًا في المجتمعات
العربية، المجتمعات التي تنسحق فيها المرأة لمجرد الشك، فنجد إحداهن تخسر حياتها فى مقابل تمجيد السلطة
الأبوية التى تأصلت عليها المجتمعات الشرقية، لذا يمكن القول أن يوسف إدريس صانعًا
للإشكاليات، فهو من يستطيع أن يصف الأمراض الإجتماعية بلغته البسيطة، لغة الحياة
اليومية التى تشهد على أوجاع المجتمع وتعقيداته.
"حادثة
شرف" قصة قصيرة كتبها يوسف إدريس فى ستنيات القرن الماضى تدور أحداثها حول
"فاطمة" التي تبلغ من الجمال
منتهاه، تعيش فى إحدى القرى الصغيرة، ثارت
حولها شائعات عن حادث إغتصاب تعرضت له، فبات المجتمع من حولها يتسائل حول عذريتها
وبراءتها، يبحثون في أمرها ويخضعونها للنظرات والكلمات السيئة، حتى اكتشفوا جميعًا
بعد ما عانته من أهوال أن تلك الفتاة
مازالت عذراء. تلك كانت قضيتهم رغم ما تعرضت له، فانكشفوا جميعا، وانكشفت معهم
القيود التي تعاني منها المرأة ولا تستطيع الفكاك منها.
جاء عنوان القصة غير معرف بالألف
واللام، كما لم يذكر أي من الزمان والمكان الخاص بذلك الحادث، فلم نعرف أبدًا في
أي قرية كانت تعيش فاطمة –بطلة القصة- هذا لأنها ليست فاطمة فقط، هي المرأة في
مجتمع قد تفقد فيه حياتها بسبب مجرد ظنون لم تتأكد.
بدأ يوسف
إدريس فى تشكيل هوية المكان الذى تقع فيه الحادثة فيقول: "العزبة كأى عزبة،
لم تكن كبيرة، بضع عشرات من البيوت المبنية بحيث تكون ظهورها إلى الخارج، وأبواب
الدور تفتح كلها على حوش داخلى واسع، حيث الساحة الصغيرة التى يقيمون فيها الأفراح"
فيذكر لنا بساطة المكان وبساطته ليكون متوافقًا
مع نظرة ساكنيه الساذجة، حيث تفشى الجهل والإيمان بالخرافة وأوهام الجن والعفاريت
وغيرها.
يقول إدريس: "والمكان المفضل هو
عتبة البوابة الكبيرة، حيث الهواء البحري، وحيث يستحب النوم ساعة القيلولة" فتلك
العتبة الكبيرة هي مقصد الجميع، هي المكان الذي يلجأون إليه بعد إرهاقهم داخل حقولهم،
هي أيضًا المكان الذي تبدأ منه الشائعات، هي مبتدأ القيل والقال.
تبدأ أحداث القصة بصرخة إحداهن، واحدة
من تلك الصرخات الغامضة، التى ينشق عنها
فضاء الريف الواسع، "ماذا يقولون إنهم وجدوا فاطمة فى الذرة مع غريب،
ماذا يقولون وفاطمة ليست غريبة وغريب ليس غريبًا" هنا يحاول
"إدريس" أن يستكشف لب الحادثة، ففاطمة البنت الجميلة معروفة بأدبها
وأخلاقها ولم تكن غريبة عن أهل العزبة الذين يعرفون كل كبيرة وصغيرة عن بعضهم
البعض ويسألون فى أدق تفاصيلهم وشئونهم الخاصة دون إستشعار الحرج فهكذا تسير حياة
الريفيين، كما أن ذاك الغريب هو "ابن عبدون" من أهل العزبة، فالناس هناك
عائلة واحدة وبيت واحد، ولم تكن فاطمة ذات سيرة خبيثة بل كانت معروفة بطيبتها
وسلوكها الحسن، فأهل القرية يدركون ذلك حتى أخيها فرج يعرف أنها: "تعرف العيب تمامًا، وطالما
حدثها فرج عنه وعنفها، هى لا تفعل العيب، وليس فى نيتها أن تفعله، بل هى تفضل
الموت على فعله".
يعد جمالها هو العائق لأن تعيش حياتها بهدوء فقد وصف إدريس
" فاطمة " بأجمل بنت فى العزبة، تخالف معايير الجمال فى القرية التى لا
تعترف سوى بـ "البياض" كعلامة واضحة على جمال المرأة، فجاءت: "
فاطمة كانت سمراء، المسألة لها وجه آخر خاص بفاطمة وحدها، فلم يكن في استطاعة أحد
فى العزبة أن يعرف ماذا فى هذه البنت بالذات دونًا عن بقية البنات" كانت تثير
الرجال أو على وجه الدقة: "فكانوا
إذا شاهدوها قادمة من بعيد أحسوا برغبة فى تعرية أنفسهم أمامها، فقد كانت تملك
سحرًا خاصًا فكانت مثل البنات تهتم بجمالها دون تكلف أو اصطناع وكان أخيها فرج يعى
ذلك جيدًا إلا أن الألسنة التى لا تكف عن الحديث عنها، أو أعين الرجال والنساء
اللاتى يسخطن عليها لجمالها واحمرار خدوها الطبيعى، الأمر الذى يجعله ينهرها
ويعنفها حتى لا ترتكب العيب
، وكان
العيب هو الحب نفسه هكذا كانت تجرى الأمور فكان لا يذكرونه علانية أمام الجميع بل
نلمحه فى وجوه الرجال المتحيرة وحينما نلمح إحمرار خدود البنات وخجلهن .
أهل العزبة كانوا يدركون أن ذلك القدر الهائل من
الجمال لابد أن يرتكب العيب يومًا ما وها قد حدث ما توقعوه يومًا ما، فقد حاول ابن
عبدون "الغريب" ذلك الشاب قليل الأدب فارغ العين حاول أن يعتدي على فاطمة
لكنها استطاعت أن تفلت منه وتهرب.
كان الحادث ليس غريبًا، فـ"غريب"
هو في أعين أهل القرية أكثر الذكور ذكورة، وفاطمة هي أكثر الإناث أنوثة، لهذا كان
من الطبيعى أن تقترن الشائعات بهم
"ثار أهل العزبة، وبينما غريب ابن عبدون فر
هاربًا إلتف النساء فى بيت الخولى حول فاطمة يستفهمون منها حول الأمر، وفى أنفسهن
عدم تصديقها فيما تقول ، وبعد سجال طويل وافقت فاطمة وقالت "أنا مستعدة"
وبتلك الجملة تهدم أمراض المجتمع ومعتقداتهم وإيمانهم الراسخ بأن المرأة شرفها
مجرد غشاء بكارة ليس صحيحا فهى مازلت تعرف "العيب" وكان أفظع ما كانت تشعر به فاطمة حالها قبل
الحادثة وها هى الآن تدلف أما بيت الناظر لا مرغوبة أو مطلوبة وشرفها معروض على
"الست أم جورج" والتى كانت لولا ديانتها لتود أن تخطبها لابنها.
توافق فاطمة الجميع وتفعل ما يريدون، ثم
أخيرًا تنطلق زغرودة تشق فضاء الريف الجاهل تم يتردد على الألسنة قولهم
"سليمة، إن شاء الله، سليمة والشرف منصان" وقتها لم تدرك فاطمة أي مما
يحدث لكنها كانت تدرك أمرًا واحدًا هو أن "العيب" الذي يتحدثون عنه هو
نتاج أعراف المجتمع المعقدة فحياتها كانت تسير بأبسط من ذلك تبتسم لمن يبتسم لها
وتضحك إذا ضحك لها أحدهم، لم تكن تعرف أنها ستقع ضحية لوم الآخرين.
لكن لم ينته الأمر عند فاطمة فلم تعد مرة
أخرى كسابق عهدها البنت المحبوبة المدللة من الجميع، ولم يكتف أخيها بظهور براءتها
فقد انهال عليها بالضرب وأراد أن يسحقها سحقًا، فقد أراد: " أن يقوم بعمل ضخم كبير قاس ، يرد به على آلاف
الخواطر التى لابد قد دارات فى الرؤوس وعلى كلام الناس ..وكلام الناس كتير " وبذلك تنتهى قصة فاطمة فلم تُقتل بل عادت الحياة
إلى مجرياتها، الناس سارحون فى غيطانهم، يأكلون ويشربون والأطفال يلعبون، فى
إنتظار حادثة أخرى أو شائعة تلوكها الألسنة، غير أن فاطمة لم تعد أبدًا كما كانت .
فما أِشد ما تتعرض له المرأة لكونها
مرأة فقط، لذا ثارت النساء منذ11 عامًا فى مثل هذا اليوم لتندد بالظلم الذى يقع
عليهن، وهكذا، فاليوم صار "اليوم العالمى للتضامن مع المرأة ضد جرائم الشرف ".