يعيش الإنسان يخاف دائمًا من الفقد والنقص، لا يتخيل حياته أن تصير حطامًا
لفقده وظيفة، مال، أو شخص عزيز، ولكن ما إذا كان هذا الإنسان ولد والنقص يحدد
هويته، لا يرى، لا يسمع ولا يتكلم، محتجز داخل جسد عليل لا يستطيع الولوج إلى
الحياة ولا تستطع الحياة أن تمنحه شيئًا، يبحث عن السلام داخله ولكن لا يدرك معناه
ولا يعرف كيف يصل إليه، يجهله الجميع ويتجاهلون مشاعره ومصابه الجلل، فلا تصيبهم
منهم سوى الشفقة فقط، ولكن هل يحيا إنسان بشفقة الآخرين عليه فقط ؟!.
هذه قصة معاناة الكاتبة الأمريكية هيلين كيلر التي استطاعت أن تتخطى حواجز
الجسد وتتعدى حدوده المنيعة، وتصبح أشهر كاتبة استطاعت أن تتحدى الإعاقة وتحصل على
ليسانس الآداب، وتنشر أكثر من 18 كتابًا ترجمت للغات عديدة، فهي إحدى رموز الإرادة
الإنسانية التي أصبحت نموذجًا ملهمًا للعديد من ذوى الهمم.
قدمت السينما سيرتها الذاتية فى فيلم (The Miracle worker ) إنتاج 1962 للمخرج
آرثر بن وسيناريو ويليام جبيسون عن سيرتها الذاتية (قصة حياتي)، والفيلم من بطولة
آن بانكروفت والتي قامت بدور آنى سوليفان، وحصدت جائزة الأوسكار لأفضل أداء ممثلة،
وباتى ديوك والتي قامت بدور هيلين كلير والتي فازت أيضًا بجائزة الأوسكار لأفضل
ممثلة مساعدة وهي في عمر الـ16، وشاركتهما البطولة إنجا سوينسون بدور كيت كيلر (والدة
هيلين) وفيكتور جوري وأندرو براين .
يستعرض الفيلم مأساة هيلين بعد مرضها بالحمى حيث فقدت القدرة على الإبصار
وكذلك النطق وهي في سنٍ صغيرة ، تكبر يومًا وراء الآخر وتكبر معاناتها وتصبح شخصًا
صعب المراس، دللتها والدتها فأصبحت ملاذها الوحيد، فهي تريد مساعدتها ولكنها تجهل
الطريق، تود ولو أن يتوجد هناك لغة تجعلها تتواصل مع العالم الآخر، فهي محتجزة
داخل أسوار عالية لا تستطيع القفز ولا أن تستخدم حيلة أخرى، فالحيل تتنافى وجودها
في ظل ظلمتها الموحشة، تصر والدتها ولا تيأس من المحاولة رغم فشلها الدائم فترفض
أن توديعها الملجأ لذوى الإعاقات وترسل في طلب معلمة لها، فتلبي دعوتها أنى
سوليفان وهى معلمة مثابرة نصف عمياء حياتها لم تكن سهلة على الإطلاق وتمر بتجربة
هيلين القاسية فتقرر مساعدتها رغم شراستها وعنفها في تعاملها مع الجميع، تدرك
سوليفان جيدًا أن هيلين بمرور الوقت قد تحولت لإنسان همجي شرس فقد أصبحت كحيوان
أليف، يشفقون عليه فقط، حاولت سوليفان مواجهة كل من والد هيلين ووالدتها وأن
يتركوا أمرها لها، وأن يمتنعوا عن الشفقة لها بدافع الحب فهي يجب أن تتعلم كيف
تعيش كإنسان، فيوافقانها تارة وينهرانها تارة أخرى بسبب غلظتها في التعامل مع ابنتهما
المريضة، فقد كانت تدرك سوليفان جيدًا أن لا بد من أن تستشعر تلك الفتاة المسكينة
أن الإيمان هو قوتها التي سوف تخرجها من عالم المحطم إلى عالم النور حيث فيه تبصر
الأِشياء بقلبها لا بعينيها الغائمتين، بمرور الوقت تتعلم هيلين كلير عن طريق
اللمس ماهية الكلمات وقد وجدت صعوبة في التواصل والفهم فهي تطلب الكعك ولا تعرف
أنه كعك على سبيل المثال، فكان لابد من طريقة تجعلها تربط الكلمات بماهيتها، فسحر
الكلمة كان لها تأثير في تغيير حياتها، فقد أدركت أن سجن الروح بداخلها أكثر وقعًا
على حياتها من سجن الجسد ومن هنا بدأت حياة هيلين بالازدهار والنمو والخروج إلى
نور المألوف، وهنا نستطيع القول أن كل من هيلين وآنى سوليفان صانعة المعجزات
فهيلين لم تكتمل حياتها لم تكتمل بدون معلمتها سوليفان التي لازمتها طيلة حياتها.
وتعتبر السيرة الذاتية لهيلين كلير من أكثر السير التي قدمتها السينما في
أكثر من عمل فقد قدمت لأول مرة في عام 1962 وتم تقديمها مرة أخرى في عام 1954 في
فيلم وثائقي، فاز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي عام 1955، وتم تقديمها في
فيلم تلفزيوني في عام 1979 ثم مرة أخري في عام 1978 ( helen keller: the mircle
continue) ومرة أخرى فس عام 2000 قدمت سيرتها الذاتية للتلفزيون في فيلم مدته 95
دقيقة، ثم قدمت النسخة الهندية المقتبس عن سيرتها الذاتية فى عام 2005 فى فيلم
سينمائي (black) وهو من إخراج
سانجاي ليلا بهنسالي ومن بطولة راني موخرجي وأميتاب باتشان ويعتبر من أفضل الأفلام
التي قدمت سيرتها حيث فاز الفيلم بعدة جوائز وتقييم الفيلم على موقع imdb ( 8,2) فقد قدمت رانى
موخرجى أعظم أدوراها من خلال هذا الفيلم وبمشاركة المخضرم الكبير أميتاب بتشان .
فى النسخة الهندية نتعرف على جوانب جديدة من حياة هيلين كلير ولكن من خلال
رسم شخصيات مختلفة عن النص الأصلي حيث تدور الأحداث حول ميشيل ماكنالي التي لا
تسمع ولا ترى وتفقد أسرتها الأمل في تأهيلها للحياة بشكل طبيعي إلى أن يأتي معلمها
ديبراج ساهاى التى تبصر الحياة من خلاله، ونلاحظ في النسخة الأمريكية تتوقف حياة
هيلين في طفولتها فقط عندما أدركت ماهية الأِشياء من حولها، ولكن في فيلم بلاك
أراد المخرج أن تستمر حياة هيلين من خلال شخصية ميشيل فمن تلك اللحظة التي استطاعت
أن تخرج من ظلمتها الدامسة بدأت معركتها مع الحياة، فتتطرق فيلم بلاك إلى حياتها
كشابة ومقارنتها بحياة أختها الصغرى التي كانت ترى وجودها ينتفى في ظل وجود ميشيل
التي تحصل على كل الاهتمام والدعم، تكبر ميشيل وأصبح وجودها في المناسبات المهمة
يمثل عبئًا، إلى أن وصلت مرحلة تعليمها الجامعي فقد كان التحاقها بجامعة أشبه
بالمعجزة وقد كان من الصعب اجتيازها لسنوات الجامعة حيث استغرقت سنوات عديدة حتى
تحصل على شهادتها، يتطرق فيلم بلاك إلى الوفاء بالجميل والإخلاص حيث ظلت ميشيل
مخلصة لأستاذها الذى اختفى من حياتها إثر مشادة بينهما، فقد أدرك حينها أنها لابد
أن ترى العالم مرة أخرى بدون مساندته له ، يصاب معلمها بألزهايمر فتذهب إليه حاملة
شهادتها الجامعية وتقرر أن تعتنى به، فقد قدم الفيلم جوانب ملهمة من شخصية هيلين
الحقيقة ، معاناتها اليومية وانتصاراتها البسيطة التي قد تكلفها سنوات، ولكنها
تنجح في النهاية .