رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


قراءة في ديوان تباريح الغروب والرحيل

31-10-2020 | 16:48


يثير ديوان "تباريح الغروب والرحيل" الصادر عن أفاتار للطباعة والنشر. 2019م. للإعلامي الشاعر الأستاذ زينهم البدوي- النائب الأسبق لرئيس الإذاعة المصرية، ونائب رئيس اللجنة الدائمة للبرامج باتحاد الإذاعات الإسلامية- كثيرا من القضايا الشائكة، المطروحة بقوة على الساحة الأدبية الآن. 


القضية الأولى: تكمن في كون الشاعر إعلاميا ذا صيت واسع، ومكانة اجتماعية مرموقة. 


الشاعر منذ العصر الجاهلي وهو وسيلة إعلامية للقبيلة، ولم تكن سعادة القبيلة بنبوغ شاعر إلا دليلا قويا على اهتمام القبيلة بالدعاية والإعلام للترويج لها، والدفاع عن معتقداتها، ومن ثم حظي الشاعر بمكانة اجتماعية كبيرة، فراح يتكلم بلسان قبيلته، متغافلا نفسه، وما يدور في باطنها من أفكار ذاتية، تشي بمكنوناتها الداخلية، وبواطنها العميقة. 


فالشاعر الجاهلي في الغالب انشغل بفكرة الآخر، ولم ينشغل بأفكاره الداخلية، فبدا منفعلا، لا فاعلا، مهتما بالقيم الاجتماعية للقبيلة، غافلا عن اكتشاف ذاته، وقد كانت الحياة الجاهلية بطبيعتها لتساعد أحدا على التحرر من سيطرة الجماعة، وتلاشت الإرادة الفردية إلى حد كبير(). 


ورث الأستاذ زينهم البدوي هذا الإرث الشاق، فذابت في وجدانه الباطني روح الجماعة، والاهتمام بالقيم والمثل المتوارثة، عن أجداده القدامى، فبدا إعلاميا حقيقيا في شعره.


تأمل قصائده: شدو البلابل وما تلاها من عنوان جانبي: إنصافا لنا نحن الإذاعيين الذين أدركتهم حرفة الأدب، جادت القريحة بهذه الأبيات..  عود حميد وما تلاها من عنوان جانبي: في رسالة الأدب والإبداع.. البلبل الغريد وما تلاها من عنوان جانبي: صفحات جلية من السيرة الذاتية، ولا تخفى دلالة كلمة البلبل من الترنم والغناء بأمجاد ذاتية في مظهرها، لكنها تخفي في باطنها التغني بأمجاد روح الجماعة والمجتمع، فتأمل معي هذه الأبيات في هذه القصيدة لتجد أن روح الجماعة لا الفرد هي المسيطرة على وجدانه، في شدو ظاهره ذاتي باطنه عام: 

يهتز عطف الكون من خفقانه ** ويميل أغصان القلوب مع الصبا 

والبوم والغربان رهن كآبة **   هل تدهش العقلاء ألا تطربا؟

وهو الذي غمر الوجود نشيده **   فانزاحت الظلماء من فيض السنا 


فالكلمات الدالة على التشبع بالقيم الجماعية، والاستمساك بروحها كثيرة منها: عطف الكون/العقلاء/البوم/الغربان/ الوجود/الظلماء/ السنا. وكلها كلمات دالة على الانغماس في القيم والمثل والمبادئ الاجتماعية التي نشأ عليها، محاولا الولوج إلى الذات وفي يقينه دائما تلك المبادئ العامة للمجتمع.  ولا تثريب على الشاعر في ذلك، شريطة ألا ينشغل بذلك عن نطاق التحرر الذاتي، واكتشافها. 


والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل نجح الشاعر في التعبير عن نوازع النفس الإنسانية وما يعتمل في داخلها، مع الحفاظ على روح القيم والمبادئ والمثل المتوارثة؟ 


ظل الشاعر متأرجحا بين ذاته وذات العصر، فتارة يميل إلى الذات الداخلية المأزومة، وتارة أخرى يجنح إلى ذات العصر وروحه، فجاء شعره معبرا عن حالة التوتر والقلق اللتين تصيبان الذات جراء ما يتراءى أمامها من محن تؤجج حفيظة الذات الداخلية، وتنحو بها نحو الشعر الذاتي وربما الوجداني فتظهر تلك الذات ثائرة تارة، ومتوترة قلقة تارة أخرى، ولذا لا نعدم انكشاف الذاتين معا في هيئة شعر مأزوم متوتر ينم عن تشطي الذات وتماهيها في الأشياء من حولها. ومن ثم يمكننا القبض على سمات الشاعر الثائر في هذه الأبيات ذات النبرة عالية الصوت: 


ما في الأوائل والأواخر   مثل احتفائك بالمآثر 

يا نفحة الرحمن في   زمن العجائب والنوادر 

أنت المضحي بالنفيس   وليس يعبأ بالمخاطر 

تمضي إلى العلياء لا   يثنيك إبطاء المحاذر 

لم تلق بالا للمغانم    أو حسابات الخسائر 

يا صاحب الشرف الرفيع   ومنبع الشيم النواضر 


إن المتأمل في هذه الأبيات يلحظ بجلاء عذابات الذات الداخلية المأزومة، ويؤكد من خلال التعبير عن مكانة الشاعر واهتمامه بالقيم المتوارثة عن الأجداد، فنزع إلى الوصف الخارجي للآخر(زمن العجائب والنوادر-إبطاء المحاذر-المغانم- حسابات الخسائر) في مقابل(احتفاء بالمآثر - نفحة الرحمن- المضحي بالنفيس- تمضي إلى العلياء- صاحب الشرف الرفيع- منبع الشيم النواضر)هذا الوصف الخارجي أشبه ما يكون بأحكام عامة لم تخضع لتأمل ذاتي، فوقف عائقا أمام تفقد الذات الداخلية واكتفى بالنقد الصادق والصارخ معا في آن واحد،وأعلن عن انهزامه أمام الآخر الذي تسلق مجدا زائفا على أكتاف الشرفاء. 


وهنا نتساءل أيضا هل جنى الإعلام على جنوح الشاعر إلى محاولة اكتشاف ذاته، وتأملها، باحثا في دهاليزها المتشعبة عن رونق التجربة وتفاعلها مع الآخر؟ 


إن الشعراء المؤمنين بقضية ما، دينية، أو وطنية، أو اجتماعية، أو سياسية، .. تتضاءل رؤاهم الذاتية أمام قضيتهم، فهم ملتزمون، ومنتمون إلى روح المجتمع ووجدانه الجمعي، فتقل لديهم نبرة التمرد الفني والاجتماعي ومن ثم فشعر المنصفات أو شعر الصعاليك أقرب تمثيل لروح العصر الجاهلي من شعر المعلقات، وبناء عليه فقد جنى الإعلام على الشعراء المنتمين فنيا واجتماعيا، أما التمرد الفني فقد بقي الشاعر فيه ملتزما ووفيا للشكل التقليدي للقصيدة العربية، لم يشذ عن المتن العروضي للخليل، بل ظل وفيا له، مدافعا عنه في تمسكه بهذا الشكل إلا في النزر اليسير من القصائد التي جنحت إلى التحرر الشكلي؛ وعلى مستوى التمرد الاجتماعي فقد توافر لدى الشاعر مساحة كبيرة من النقد الصادق لعيوب المجتمع والتصدي لآثارها بقوة، وتبدى ذلك من خلال قصائد الديوان ككل. 


الأستاذ زينهم البدوي شاعر قدير بحق، لم يكن ذلك حكما على شعره، بل نتيجة مستخلصة من قراءة شعره، على مهل وروية، فالديوان برمته صرخة مدوية، ونقد اجتماعي صارخ لبعض مثالب المجتمع .


إن المتأمل في الشعر الوطني لدى الأستاذ زينهم البدوي يكشف عن رؤية جلية لا تختلف كثيرا عن التزام طرفة بن العبد بالصحراء والألوان والطيور المغردة رؤية تنم عن وضوح الرسالة ومباشرتها تغليبا للحس الإعلامي لديه، هذا الحس البادي في كل قصيدة من قصائد الديوان(مفاسد الإعلام- في مصر الآن – أيا وطني- بين الفاروق وشاعر النيل..) لا نستطيع إدراكه دون الرجوع إلى مخزون السيرة الذاتية للشاعر المنتمي إلى الأصالة روحا وثقافة وإلى الانتساب إلى أسرة الإعلاميين الشعراء، ولعل هذا الحس الإعلامي أيضا فرض عليه التزاما من نوع آخر، فهو وريث أصيل للقاموس العربي القديم، والمتن الشعري العربي في تمسكه بالتقاليد الفنية العربية فجنح إلى المبالغة كأحد المظاهر التي استمسك بها الشاعر الإعلامي أو الإعلامي الشاعر منذ القدم. 


والمبالغة عند الشاعر الإعلامي زينهم البدوي لها ما يبررها ويخفف من حدتها في النص الشعري، إن تمسك الشاعر بالمسلمات الاجتماعية القائمة في مجتمعه جعلت للمبالغة دورا في ترسيم حدود القصيدة لديه، وكانت إحدى الدعامات القوية لتوصيل الهدف والغاية فلجأ إليها لا واعظا ولا خطيبا، بل حقيقة قارة في باطنه الشعري، والحقيقة الشعرية تختلف عن الحقيقة المطلقة، فالحقيقة الشعرية تتأتى نتيجة انفعال لا افتعال، بحيث تكون أقرب إلى النفس لا إلى الواقع المعيش.  


أترجم عشقي الولهان فعلا .. يفوق النجم زهوا في سماكا 

لو يعلم اللوام أني شاعر .. يبغي مثالا ليس منه اثنان

وأنا الذي بفصاحتي أطأ الذرى  .. وإلى الثريا يرتقي تبياني 


ثلاثة أبيات تلخص فكرة الغلو أو المبالغة في شعر الأستاذ زينهم البدوي، والغلو هو تجاوز حد المعنى إلى غاية لا يكاد يبلغها().والغلو في أصله انفعال بالتجربة وتأثر مباشر بها، والانفعال الشعري هو في ظاهره غلو، وفي جوهره حرية مبدعة، تزيل ما في العالم من نقص وشوائب، وتمنحه الكمال وترفعه إلى المثال الذي يتوق الإنسان إليه أبدا().  


ففي الأبيات السابقة غلو انفعالي، وليس افتعاليا، نجم عن انفعال حقيقي، توهج عن صدق المشاعر، وبدا معبرا عن تجربة نفسية عميقة حيث تقلصت صورة الواقع الفعلي وغامت وبدت المبالغة - وإن خالفت صورة الواقع وتعالت عليه - مشوبة بإطار نفسي خفف من حدتها وتجاوب مع مفرداتها فانثالت على الشاعر هذه الأفكار انثيالا مقبولا محببا. 


وعندما تكون المبالغة نابعة عن افتعال وليس انفعالا تجد الشاعر يجنح إلى عبارات صادمة قلقة كقوله: 

يا ويح مكة حين يقصى أهلها ** وتصير نهبا للدعي ابن(المره) 

وآبى أن أطبل للمجافي ** لكل حقيقة؛ تعلي علاكا 


النزعة الصوفية 


يمكنك أن تقرأ شعر الأستاذ زينهم البدوي على تؤدة، فيتسرب إليك بعض التسريبات الصوفية من خلال تأثره بألفاظ دينية، لا يؤودك استنباطها بيسر، وسهولة، وهذه التسريبات لا تعني بالضرورة اتجاها صوفيا حسب منهجهم ودستورهم، إذ لا تعدو كونها معبرة عن قراءات دينية غزيرة فطفت هذه الألفاظ عبر سياقها الشعري على الرقعة الشعرية برمتها. 


وليس من الإنصاف اعتبار الشاعر الذي ينحو منحى دينيا من خلال ألفاظ وإشارات دينية أن نؤطره بإطار معين صوفيا كان أو غير ذلك،فتأمل قوله:


في كل يوم يرحل الأحباب عنا

نكتوي بلظى الفراق ولوعة القلب الكسير

أمر عسير

فوق احتمال الأتقياء الأنقياء المخلصين إذا

العناية لم تحطهم من لدن رب قدير

تمضي بنا الأيام نحو نهاية

الكل يعلمها ويسأل: ما المصير؟

ويقول عن "القصيدة": 

تنير سبيلنا بالحق يعلو ** فيمحو كل أشكال الضلال 

هي الحوراء في جنات عدن ** فما نظرت ولا خطرت ببال 

ومبلغ علمنا رؤيا لراء ** دعاه لوصلها سحر الجمال 


فكلمات كالحق، والباطل، الضلال، وجنات عدن، ولا خطرت ببال،ومبلغ علمنا، والمصير، والأتقياء والأنقياء، والمخلصين.. كلها إشارات دينية فحسب، لا تنم عن اتجاه صوفي أو غيره، لكنها –أخيرا-اهتدت إلى طريقة فنية للوصول إلى قلوب الناس " لقد رأت الصوفية في الكتابة الشعرية الوسيلة الأولى للإفصاح عن أسرارها، ورأت في اللغة الشعرية الوسيلة الأولى للمعرفة.. لقد استخدم الصوفيون في كلامهم عن الله والوجود والإنسان والفن: الشكل، الأسلوب، الرمز، المجاز، الصورة، الوزن، القافية، والقارئ يتذوق تجاربهم وهذا لا يقلل من قيمة شعر الشاعر.


 ولكن الزج بشعره في إطار صوفي فيه غبن كبير. تعوّل الصوفية على الباطن أكثر من الظاهر، وترى في الوجود أسرارا تستعصي على عوام الناس، ويستشف أبعادها عبر فنيتها، وهي مستعصية على القارئ الذي يدخل إليها، معتمدا على ظاهرها اللفظي. بعبارة ثانية، يتعذر الدخول إلى عالم التجربة الصوفية عن طريق عباراتها. فالإشارة ،لا العبارة، هي المدخل الرئيسي."()