رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


التراث وقضية التجديد

31-10-2020 | 16:55


يعد موضوع التراث والتجديد من الموضوعات التي تفرض نفسها علينا من حين لآخر لأهميتها البالغة، لأن حسم هذا الأمر يحدد المنهج الذي باتباعه سيتحدد مكاننا في التاريخ.


يتنازع حل العلاقة بينهما الآن ثلاثة مواقف: موقف يرى أن التراث عمل مكتمل ليس في حاجة لتجديد، إذ أنه ما أدى بالمسلمين إلى أن يضعوا قدماً في الأندلس وقدماً في الصين، أي أنه ما حقق حضارتنا وأدى إلى تقدمنا، مما يعني أننا لو اتبعناه سنحقق ما حققه السابقون؛ أما الموقفان الآخران فيقر أحدهما بضرورة التجديد وإن اختلف أدعياؤه حول جوهر وماهية التجديد، وموقف يرى أن الحل يكمن في إحداث قطيعة تامة مع التراث.


من جانبنا نرى أن مقولة- أن "التراث هو ما أوصل المسلمين إلى الأندلس والصين" والتي تعنى أنه على حاله صالح لتقدمنا متى تمسكنا به- تنطوي على سوء فهم لماهية التراث، ذلك أن التراث الذي أوصل المسلمين إلى الصين والأندلس لم يكن وقتها تراثاً ولكنه كان علوماً تتطور باستمرار تناسب عصرها وتلائمه، لهذا فقد صنعت للعرب الحضارة التي نعرفها والتي هضمها الغرب وبنوا عليها حضارتهم الحالية، ثم إن التراث علوم إنسانية: علوم عقلية ونقلية، ولا يوجد ما يسمى كلمة الفصل أو الكلمة النهائية في العلم، العلم الذي يتركه أصحابه ولا يبنون عليه لا يصلح للتطبيق، ولكن مكانه المتحف للبكاء عليه ضمن الأطلال أو للتباهي به، فلما كان التراث مجموعة العلوم الشرعية والدنيوية التي أنتجها المسلمون، وكان العلم بطبيعته تراكمياً، كان من الضروري أن نخضعه للبحث والفحص لنرى ما يصلح منه فنستبقيه وما يحتاج لتجديد فنجدده.


يتبقى موقف البعض الذي يرى أنه لما كان الغرب قد تقدم بسبب القطيعة التي أحدثها عصر النهضة مع الدين، فإننا لن نتقدم إلا إذا صنعنا صنيعهم، نقول إن هناك خطأ في الفهم يجب علينا توضيحه هنا، فالقطيعة التي قام بها عصر النهضة ممهداً لعصر التنوير لم تكن قطيعة مع الدين ولكنها كانت قطيعة مع فكر دوجماطيقي قطعي لا يقبل النقاش، وبالتالي لم يكن رفضهم رفضاً للدين في ذاته ولكن رفضاً لدوجماطيقية في التفكير والحكم لا تناسب موضوعات لا يمكن تناولها إلا بمنهج علمي أو تفكير عقلاني، المعنى المراد أن الفكر الديني ليس مرفوضاً من الأساس ولكنه مقبول متى قام على العقلانية التي قوامها الفكر الفلسفي والعلمي، مرفوض متى أطلق أحكاماً دوجماطيقية خاصة بموضوعات خارج نطاق مجاله.


نحن في حاجة- إذاً - لتجديد في الخطاب الديني، السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: من المنوط بهذه المهمة؟ يرفض علماء الدين أن يتدخل غيرهم في هذه المهمة انطلاقاً من أنهم أهل التخصص،  سأحاول فيما يلي أن أبيّن أن كل تجديد له علاقة بالدين، أو الفكر الديني تم في الآونة الأخيرة وقبله علماء الدين كانوا فيه متبعين لا مبتدعين، لفت غيرهم انتباههم له فقبلوه، فلم يكن نتيجة مبادرة أو دراسة لأمر رأوا ضرورة تجديده ليتماشى مع العصر الحالي، وهو ما يبرر لنا القول إن العقلية الإسلامية الحالية عقلية اتباعية لا عقلية ابتداعية، عقلية أصابها جمود فكري، وبالتالي فإن تجديد الفكر الديني يجب أن يسبقه تجديد في الفكر بصفة عامة ليس من مهمة علماء الدين.


يقول علماء الدين إن الاسلام كرم المرأة، نعم هذا صحيح، ولكن هل الواقع المجتمعي العربي لقرون عديدة مضت كان يعكس هذا؟ المرأة العربية كأم وكزوجة وكابنة في واقعها المجتمعي امرأة مقهورة مظلومة، ماذا فعل علماء الدين للمرأة في هذه القرون؟ هل ظهور المجالس القومية للمرأة وغيرها من هيئات المجتمع المدني التي أخذت على عاتقها الدفاع عن حقوق المرأة مبادرات إسلامية لفقهاء ناضلوا من أجل إظهار الصورة الدينية الحقيقية التي يجب أن تكرم بها المرأة؟ هل القوانين المصرية مثل قانون الخلع والتزايد العددي للمرأة في مقاعد الوزارة وتجريم القانون حرمان المرأة من الميراث وختان البنات مبادرات دينية تحقيقاً لتكريم الإسلام المرأة؟ أين كان الفقهاء قبل أن ينتبه المجتمع المدني للظلم الذي يقع على المرأة بكل أشكاله وهو الظلم الذي تستجيب حكومات الدولة له تدريجياً ويتم رفعه بقوانين تظهر مع الأيام؟


نعم وافق الأزهر على قانون رفع سن الزواج للثامنة عشرة لكل من الشاب والفتاة عام 2008، بعد أن كان 16 سنة للفتاة، ولكن هذا التغيير في القانون لم يأت استجابة لرغبة علماء الدين نتيجة لدراستهم للأمر وملاحظتهم لتغير الظروف والزمان، ولكن نتيجة لضغط المجتمع، وهو ما نتج عنه قبول ولي الأمر، لقد قبل الأزهر هذا الأمر اتباعاً ولم ينشأ منهم ابتداعاً.


كذلك قبلت دار الإفتاء تجريم ختان الإناث في مصر الذي لم يأت أيضاً استجابة لطلب علماء الدين، ولكنه جاء نتيجة لضغط المجتمع المدني وبيانهم كيف أن هذا يعد تعدياً على جسد المرأة وله أضرار بالغة ونتائج سلبية صحية وفقاً للبحوث العلمية الطبية الصادرة عن مؤسسات طبية معتمدة، وهو ما نتج عنه تدخل الدولة بالقانون 242 مكرر من قانون العقوبات لسنة 2016.


هل كان القانون في حاجة لتجريم حرمان المرأة من الميراث لو لعب الأزهر دوره بفعالية أكثر في المجتمع؟ أين كان الأزهر والمرأة عاشت لعقود طويلة تحرم من الميراث دون أن تجد من يدعم موقفها؟


هناك مبحث حديث العهد يسمى "أخلاقيات البيولوجيا" لم يكتمل سوى في سبعينيات القرن الماضي، هذا المبحث يحاول وضع المبادئ التي يمكن الاستناد إليها في حل المشكلات الأخلاقية الناجمة عن التطورات البيولوجية، يُعد شيلدرز Childress وبويشامب Beauchamp من أشهر من نظّر في هذا المبحث وانتهيا إلى أن المبادئ التي يمكن الاحتكام إليها احترام الخصوصية وعدم الإضرار والمنفعة والعدالة، لم يشغل المهتمون بأخلاقيات البيولوجيا من المسلمين أنفسهم سوى بإظهار كيف أن هذه المبادئ ما يقرها الإسلام كمبادئ تحكم أخلاقيات البيولوجيا، بل وذهب البعض إلى أن هذه هي المبادئ الإسلامية لأخلاقيات البيولوجيا. السؤال الذي يطرح نفسه الآن: إذا كان الأمر على هذا النحو؟ أي إذا كانت هذه المبادئ مبادئ الإسلام أو أنها المبادئ التي يقبلها الإسلام كمبادئ يمكن الاستناد إليها لحل المشكلات الأخلاقية الناجمة عن التطورات في العلوم البيولوجية، فلماذا لم يذكر علماء الأخلاق المسلمون ذلك من قبل؟ أين كانوا وقت أن كان الغرب يُنظّر ويؤسس لهذا المبحث؟ لقد قبلت العقلية الإسلامية هذه المبادئ اتباعاً ولم يصوغوها ابتداعاً.


انطلاقاً من فهم العلماء أهمية التنوع البيولوجي في الكون وتحذيراتهم من أضرار عمليات الصيد الكثيف لأنواع من الأسماك قد تؤدي إلى انقراضها، وعمليات صيد كثيف لأنواع معينة من الطيور قد يؤدي أيضا لانقراضها، والتلوث الناتج عن تصاعد الغازات السامة، دعا السكرتير العام للأمم المتحدة في عام 1983 رئيس وزراء النرويج السابق دكتور جرو هارلم بروندلاند Brundtland، إلى تأسيس ورئاسة لجنة دولية في التنمية والبيئة، أصدرت هذه اللجنة عام 1987 تقريراً أسمته "مستقبلنا المشترك" Our Common Future، وهو التقرير الذي استخدم للمرة الأولى مصطلح "التنمية المستدامة" وجعله من وقتها مصطلحاً متداولاً وشائعاً، يعني هذا المصطلح باختصار حق كل الدول في التنمية ولكن دون الإضرار بحق الأجيال القادمة في أن يرثوا الأرض بالتنوع البيولوجي الذي ورثناه. 


لم يزد موقف علمائنا عن القول إن الحفاظ على البيئة مطلب إسلامي وإن الإسلام يؤيد التنوع البيولوجي، والسؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان الإسلام يؤيد التنوع البيولوجي، فلماذا لم يهتم علماء المسلمين بتوعية المسلمين بأهمية التنوع البيولوجي للكون قبل أن ينتبه علماء الغرب للأخطار التي تحيط بالكرة الأرضية وتبدأ الدول والمؤسسات الدولية في اتخاذ الخطوات التي تتخذها الآن؟ لقد قبلت العقلية الإسلامية هذه المبادئ اتباعاً ولم تضعها ابتداعاً.

هذه الأمثلة توضح بجلاء أن المطلوب تغييره العقلية المنتجة للفكر وللخطاب، أنّى لعقلية متبعة على هذا النحو أن تطور أو تجدد خطابها؟


هذه الأمور التي عرفها الغرب جاءت نتاجاً لانتهاجهم التفكير العقلاني منهجاً تعليميا وحياتياً ساعد على رصدهم لمشكلاتهم والتنظير لحلولها، والدفاع عن المرأة ضد أشكال الظلم المختلفة نادى بها في بلادنا كل من اتخذ العقلانية منهجاً حياتياً للتفكير، وبالتالي نكرر ما كتبناه مراراً قبل ذلك: قضيتنا ليست تجديد الفكر الديني، ولكنها أمر أرحب من ذلك، تجديد الفكر يكون بنشر قيم التنوع والاختلاف وقبول الآخر واستقلالية التفكير في بيئة المجتمع التعليمية ومحيطه الثقافي، بيئة تعليمية تُثوّر فيها مناهج وطرق التعليم العام والأزهري على حد سواء لتقوم على التفكير الناقد، متى سادت هذه القيم – وهو ما لن يحدث بين يوم وليلة- وأصبحت جزءاً من عقيدة الأمة يغرسها التعليم وينميها الإعلام وترسخها المؤسسات الثقافية.


أضحى التجديد الفكري عملية مستمرة لا تتوقف، وناتجاً مباشراً طبيعياً لفكر مقوماته التنوع والاختلاف والتسامح، فكر قادر على التعامل مع مقتضيات العصر بما تحتاجه، ولما كان علماء الدين شريحة من مجتمع هذه هي قيمه السائدة، لن نتوقع منهم سوى تجديد عصري مستمر لدين يصلح لكل زمان ومكان هو بالضرورة أحد مقومات الثقافة المصرية.