منذ عقود عديدة، بعدما ولدتنى أمى فى حي الشرابية، وفى غرفة وحيدة، أراد أبى أن يخرج من ذلك السكن البائس، فاشترى قطعة أرض فى منطقة نائية وشبه صحراوية وخارج كل أشكال الزحام، تلك المنطقة تدعى "عين شمس"، ولأن العين بصيرة، واليد قصيرة، لم يبنِ والدى سوى ما يقوم بوظائف التسكين والحماية الأولى، فبنى غرفتين، ودورة مياه، وكانت قطعة الأرض محاطة بجدارين كبيرين، الجدار الأول لإسطبل خيل، والجدار الآخر لجيران آمنين.
كان والدى يذهب إلى العمل صباحا، وكانت أمى لا تعمل سوى في سرد حكايات صعيدية محضة، وأغنيات تصاحب تلك الحكايات، ولم تكن الأغنيات مرتبطة بالأحاجى والأساطير فقط، لكنها كانت مرتبطة بشخصيات من البلدة التى تنتمى إليها أمى، أغانٍ فى غاية المحلية، وتم صناعتها فى تلك القرية البعيدة "فاو بحرى"، تابعة لمركز دشنا، محافظة قنا، وظلّت أمى تحمل هذه الحكايات بأغانيها، ومن المدهش أن تظل هذه الأغانى بحكاياتها، هى الأكثر تشبثا بذاكرتى؛ وتلك الحكايات والأغانى لا حصر لها، وكانت تحكى لى عن أحد أخوال أبى، ذلك الخال الذى تزوج كثيرا، وكانت النساء تفرّ منه لأسباب عديدة، واستطاع العقل الجمعى أن يبدع أغنية، قل نشيدا خاصا به، وكان اسم هذا الخال "عبد العال"، ويقول هذا النشيد:
"عبد العال
ركب خيّال
وجّع تسعة من النسوان
اللى تشّرج
واللى تغّرب
واللى لجفها الموت جوام"
ولا يزال صوتها يتسلل فى وجدانى، عندما كانت توقظنى صباحا وهى تنشد:
"فتّحى يا شميشة
فوج جّبة عيشة
عيشة أبوها الجط الأحمر
وأمها الدحيشة..
فتّحى يا شمس الله
فوج جبة عبدالله
عبد الله غايب غايب
راج يجيب النوايب"
وهكذا ظلّت تعمل تلك الحكايات والأغانى بشكل منتظم طوال السنوات الأولى من حياتى، وهى تهدهدنى كما تهدهد طفلا لا تزيد سنوات عمره على العامين، رغم أننى كنت تجاوزت تلك السنوات ثلاثًا أخرى.
فى الخامسة من عمري، وكانت الحكايات والأغانى تملؤنى تماما، وكنت أطير مع رفاق الطفولة صائحا بتلك الأغانى، نادتنى أمى، وأجلستنى على دكة خشبية شبه متهالكة بجوار حائط "الإسطبل"، وأخبرتنى بأننى قد كبرت، فلم أفهم، ولكنها أحضرت بضعة أحجار جيرية، وقالت لى انتبه، فانتبهت، وراحت تكتب على الحائط حروف الهجاء، من الألف إلى الياء، وراحت تردد الحروف، وأنا أرددها خلفها.
لا يزال صوتها يتردد: آليف، وأنا خلفها: آليف، ثم: بييه، وأنا خلفها: بيييييه، وهكذا حتى آخر الأبجدية، وكان خطها غير المعتدل يتمدد على الحائط، يدهشنى، ورغم تكرار الخطوط الجميلة فى حياتى، إلا أن خط أمى المعوجّ، هو أجمل الخطوط وأحنها وأقربها إلى روحى.
لم تكتف أمى بتعليمى الأبجدية قبل دخولى إلى عالم المدرسة فحسب، بل كانت تختار بعض الحروف وتلصقها فى بعضها البعض لكى تتكون الكلمة، وهذه المرحلة أخذت ما يزيد على الأسبوعين، ولم تكن تلك المدرسة "الصغيرة" لى تقتصر على التعليم الجاف، ولكنها كانت تنطوي على كل ما يعرفه قلب الأم من عطاء وحنان ودهشة.
بعد مرحلة الكلمات جاءت مرحلة الجملة، وكانت الجملة التى تختارها أمى لها علاقة بحياتنا، مثل "محمود البقال يبيع الفول كل صباح"، ويتراءى لي هذا البقال الأشيب وهو فى كامل هيئته وخفة ظله، وعنفوانه، و"جدعنته"، وتظل الجملة عالقة فى ذهنى ومخيلتى بكل تجسيداتها الحيّة.
وعندما دخلت المدرسة، لم تكن الدروس الأولى صعبة، ولكن طريقة المعلمين كانت جافة مقارنة بطريقة أمى، وظللت أستعيد طريقة أمى فى التعامل مع اللغة، وبشكل يكاد يكون ممنهجا، حتى أن خطها المتعرّج لايزال يلوح لي بين كل الخطوط التى لا تحصى، والتى تواترت فى حياتى كلها، ولا أزال أحنّ إليه حتى هذه اللحظة.