الزينة .. قولوا لأمى إنها لم تمت
أغلقت عليها باب قبرها وخرجت تاركا خلفى بعضا من قلبى، لم تكن قاسية عليّ أبدا، لكنها كانت فى موتها قاسية بما لا أتخيله أبدا، لم تضعنى فى أى يوم من أيامى معها حائرا مضطربا مترددا، لكنها فعلت كل ذلك فى اللحظة التى قالت فيها لأخى الأكبر: محدش يدخل بيّ قبرى إلا أنت وأخوك.
كان المصلون يغادرون مواطن سجودهم الطاهرة عندما سمعته يقول لى بصوت مخنوق بعد رنات التليفون الأرضى الباردة : متتأخرش هندفن أمك بعد صلاة الظهر، لم أشعر بالطريق الذى كان يفصلنى عنها لسنوات من القاهرة إلى دمياط، مر شريط حياتنا معا أمامى باجتياح كامل، ابتسمت، حزنت، غضبت، سخرت، ترددت، تحيرت، سمعت صوتها، اقتحمنى صوتها، لكننى لم أبكِ أبدا، كان البكاء أقل كثيرا مما تستحق.
هل كنت أطمع فى أن أجدها على باب البيت تستقبلنى كما هى عادتها؟ حلمت بذلك، لكن الحقيقة كانت أكثر من مُرّة.. تحاشيت الجميع، لم أصافح أحدا من هؤلاء الذين جاءوا مبكرا ليؤدوا واجبا جافا بلا مشاعر، دخلت عليها حجرتها، فوجدت الجسد الذى أسلم الروح وكأنه يرحب بى: عامل إيه يا وله.
حاولوا أن يزيحوا الغطاء من فوق وجهها لأراها ولو لمرة أخيرة، لكننى أمسكت بأيديهم، سحبت يدها وقبلتها، كنت قد قررت أن تكون صورتها الأخيرة التى أصطحبها معى فى أيامى تلك التى كانت فيها تضحك وتودعنى فى زيارتي الأخيرة لها: مستنياك اوعى تتأخر عليا.. لم تكن تعرف أننى سأعود بعد أيام قليلة، لكننى كنت أعرف.
طبيبها الذى أجرى لها عملية "البزل" فى مستشفى المنيل الجامعى قبل أيام، قال لى منصرفا بوجهه عنى : مش هتعيش أكتر من أيام حاولوا تخلوها مبسوطة الأيام الجاية، أعطيته ظهرى وانصرفت: هل هذا كل ما تستطيع أن تقول.. هل عجز علمك عن منحى ولو مجرد أمل.. هل يقف طبك عاجزا عن منحها فرصة أخرى.. ثم لماذا تضعنى أمام الحقيقة التى لا أريدها أبدا؟
حملتها من حجرتها إلى مستقرها الأخير، حاول من حاول أن يحملها عني، رفضت بإصرار، كنت أمسك بطرف ثوبها حية، فما الذى يجعلنى أتركه وهى ميتة؟ لم يكن أحد يعرف وصيتها، حاول من حاول المساعدة، رفعت أيدي الجميع عنها، سبقنى أخى إلى قبرها، حملتها فى كفنها وأدخلتها عليه، لحقت به، وضعناها فوق التراب الذى حتما لا يعرفها، كشفنا وجهها، تحاشيت النظر إليها، ترددت، أردت أن أبقى قليلا، تذكرت أننى لا أملك صورة واحدة معها، دفعنى أخى أمامه، استسلمت مرغما، حاولت أن أعود إليها، تعجلنى المشيعون فاستسلمت، أغلقتا عليها باب قبرها، سمعت من يقرأ القرآن برتابة وملل كأنه يلقى من على كتفيه واجبا اعتاد عليه، فكرت أن أجعله يكف عن القراءة، فقلبها يكفيها، لكنه استمر، انصرف الجميع، حاولت أن أكون معها وحدي، لكنهم أخذونى منها أخذا، اعتقدوا أننى يمكن أن أنهار باكيا، أردت فقط أن أحكي لها ما لم تعرفه عنى، أن أكشف لها أسرار أيامى التى لم تطلع عليها، لكنهم استكثروا عليّ وعليها ذلك؛ كنت سأقول لهم: لن أبكى فقد علمتنى ألا أبكى أبدا، لكن كيف لهم أن يفهموا ما بينى وبينها؟
التزمت بما علمتنى إياه لشهر كامل، لم أبكِ عليها أبدا، لكننى خنتها عندما عدت إليها، لم تكن تغلق باب البيت، فى كل مرة كنت أزورها أدخل إليها مباشرة، لا يمنعنى شيء، لم أطرق بابها فى أى وقت، فلم يكن يحجبنى عنها أي باب، للأسف الشديد كان هذا ما حدث؛ اعتقدت أن الباب لا يزال مفتوحا، لكننى وجدت نفسى أمام باب مغلق، لابد أن أطرقه وأنتظر من يفتحه، وعندما فتحه غيرها، أدركت أنها الآن ماتت، تماسكت حتى عدت، سألتنى زوجتى التى كانت أمي أمًا لها بأكثر منى، وكانت هى بنتا لها بأكثر مما يتخيل أحد: أخبار البلد إيه؟ انهرت باكيا، قلت لها وسط دهشتها: أمى ماتت النهارده.
ظلت أمي واقفة على قدميها صُلبة، لم تسقط أبدا رغم كل ما كانت تحمله من هموم، وعندما وقفت أنا على قدمي استسلمت للمرض الذى لم يتركها إلا أمام قبرها، وكان أبي قد أنهكه سرطان المثانة، أجرى جراحة جعلته لا يقوى على شيء إلا قليلا مضطرا ومجبرا، حملت على كتفيها كل شيء، ولأنه لم يكن فى يديها شيء، فقد عافرت بقدر ما تستطيع، باعت واشترت، ولم تشكُ من شيء، رغم أنها كان ينقصها كل شيء؛ أصبح فى يدي ما اعتقدت أنه يمكن أن يعوضها ولو قليلا عن ما فاتها، حملته إليها، وجدتها نائمة منهكة تماما على سرير بارد.. قلت لها :
قومى كفاية كسل هاتى كل اللى ناقصك.. نظرت لما فى يدي وابتسمت، أغلقت يديّ على ما حملته إليها بأسى: أنا عندى الكبد.
تسلل إليها الفيروس الملعون وقرر أن يعاقبها على ما لم تفعله.. قبل سنوات قلت لها: إنتى مبتصليش ليه؟ .. ردت: هو حد فيكم علمنى وقلت لأ.
علمناها كيف تتوضأ وكيف تصلي، رددت أمامنا بعض آيات القرآن التى تعينها فى صلاتها، بدأت تقف بين يدي ربها خمس مرات فى اليوم، دون أن تتكاسل أو تنسى، وبعد أسبوع واحد توقفت عن الصلاة تماما.
سألتها: ليه؟
رددت ببراءة: هو ربنا عاوز صلاتي فى إيه، هو عالم ومطلع، وعارف إنى قلبى أبيض، وربنا رب قلوب، وبعدين أنا خدمتى ليكم صلاة.
الصبية التى لم تتجاوز الــ 44 عاما، استسلمت تماما: ادعى ربنا يخفف عني ألمي ويقرب لي لقاه.
لثماني سنوات كان كل ما أضعه بين يديها يذهب للدواء المر، تحملت الألم راضية، لم تفارقها روحها المرحة أبدا، ولا ذهنها الحاضر، ولا قدرتها على السخرية، ولا حرصها عليّ.
جاءتنى رسالة من مجهول، نشرت نصها فى زاويتى الخاصة بصحيفتى: "القارئ المجهول صاحب الرسالة الغامضة الذى يريدنى فى موضوع هام، تواصل معى على تليفون الجريدة لنلتقى".
جاءنى صوتها: بلا قارئ مجهول بلا رسالة غامضة، اللي عاوزك ييجى لك الجرنان بتاعك، اوعى تروح لحد مكان متعرفوش.
قلت لها: سيبك من جو المسلسلات العربى اللى بتشوفيها دي.
أغلقت التليفون بعد أن قالت لى: كلامي يتسمع.
لم تكن تقرأ ما أكتبه، لكنها كانت تعرفه نصا وتكاد تحفظه، كانت تعرف أن حرصها على علاجها بلا أمل، لكنها لم تيأس منه أبدا، كلمة واحدة كانت تبلل بها لسانها وهى فى شدة الألم يارب.
استوقفتها مرة : قولى له اللي أنتى محتاجاه.
ردت: هو شايف وسامع وعارف... وقادر.
ثمانى سنوات من الألم الذى لم ينقطع أبدا، فرحتها بزواج بناتها كانت فى عينيها فقط، لم تستطع ملامح وجهها المنهكة أن تعبر عن شيء، اكتفيت بلمعة عينيها وعرفت أنها راضية، وكان هذا عندى هو كل شيء.
رغم ألمها الذى كان حاضرا لم أتخيل أبدا أنها يمكن أن تموت... لكنها فعلتها وماتت، لكنها قبل أن تموت أحيتنى.
جاءت فى سيارة مزدحمة، تحتاج إلى عملية "بزل"، قالوا لها إنها ستُشفى تماما بعدها فصدقتهم، ألحت على أن تأتى بسرعة، وجاءت.
من مستشفى الهلال، إلى مستشفى أحمد ماهر الذى استقبلنى مديره على الباب، لكننى لم أطمئن عليها هناك، حتى استقرت فى مستشفى المنيل التخصصى، حجرة خاصة بها، ترافقها زوجة عمها الطيبة التى قررت أن تحملها فى مرضها قائلة: لو عشت عمرى أرد جمايلها مش هاقدر، وتحرسها شقيقة عمرى التى لم تنجبها، لكنها كانت أقرب إليها ممن أنجبتهم جميعا.
الرعاية كانت كاملة... لكن الألم غالب.
جلست إلى طبيبها فأخبرنى أنها ماضية إلى مستقرها الأخير خلال أيام، فقد انتهى كل شيء.
سألتنى: الدكتور قال لك إيه؟
قلت لها: هتبقي عال.
نظرت فى وجهى بريبة، وقالت: هاصدقك... يعنى أنا فى إيدى إيه؟
قبل أن تعود قررت أن تكشف لى ما لديها.
تحدثت دون أن أقاطعها، حسمت الأمر بنظرة، كانت تريدنى أن أسمع فقط.
قالت لى: اسمع يا وله... أنا كنت زعلانة من ربنا أوى، كنت دايما أقول له: إنت عملت فيا كده ليه، أنا ست غلبانة معملتش حاجة وحشة فى حياتى، ليه كل الألم ده، وكنت هقول له لما أشوفه: أنا زعلانة منك أوى ومش هسامحك.
طبطبت على يدي وواصلت: لكن لما ربنا أمر وجيت هنا ودخلتنى المستشفى الحلوة دى، وشفت الناس الحلوة دى كلها حواليك وبيجاملوك، يعنى هم يعرفونى منين، أكيد جايين عشانك، قلت له بينى وبينه: خلاص كده أنا مش زعلانة منك وسامحتك لأنك كرمت ابنى وعوضتنى خير فيه.
طلبت منها أن تصمت قليلا، لكنها أصرت: عارف أنا كل ما كنت تدينى فلوس، كان بيبقى نفسى أجيب بيها حاجات كتير، لكنها كانت بتروح كلها للعلاج، وكنت أقول يارب يعنى لما تكرمه وتوفقه أجيب بفلوسه كلها علاج، لكن دلوقت عرفت إنه كان بيعين لى كرمه للآخر... ربنا كرمه كبير أوى يا ابنى.
نامت، ولما استيقظت جمعت كل الورد الذى جاءها، أرادت أن تدخل بيتها به، لم تكف عن الضحك، صدقت ما قاله طبيبها، أو أنها خدعت نفسها به.
لا يغادرنى أبدا وجهها وهى تدخل حجرتها حاملة الورد الذى ضمته إلى صدرها وتقول إلى كل من يصافحها: أنا بقيت تمام، الدكتور قال لمحمد كده، كده واللا لأ يا وله.
وبحزن لم يغادرنى حتى الآن، قلت: كده يا ستى.
ما زلت أحملها فى قلبى... كل شيء تغير بعدها.
فى ذكراها كل عام أذكر نفسى بها، لكننى أنزع وجهى وأضعه بين يدي، أتأمل ملامحه التى أصابها فقدان الأم، وأقول لنفسى: وهل نسيتها يوما؟