رأس العين.. التاريخ يعيد نفسه
في الذكرى المئوية لمذابح الأرمن والتي تتبرأ منها تركيا، وتحاول توصيفها بـ"الحرب الأهلية"،التي قادتها في ثلاثة أقطار مختلفة مما ينفي عنها الحرب الأهلية، ويؤكد على الإبادة العرقية التي قامت بها تركيا ضد الأرمن واحتفلت بمئويتها بمذابح الإيزيديين في العراق وسوريا.
ويبدو أن مدينة (رأس العين) عين التاريخ التي لا تنام، ومركز الألم المتوارث للتصفيات العرقية التي قامت بها تركيا.
الإبداع عين التاريخ التي لا تنام
يتعرض الفيلم الألماني (قطع) لواحدة من أبشع مآسي البشرية "مذابح الأرمن"، التي جرت في الإمبراطورية العثمانية، والعجيب أن مخرج الفيلم فاتح أكين ألماني من أصول تركية، ويقول "استلهمت هذه القصة الموجعة من كتاب تركي قام بتأليفه، حسن جمال حفيد جمال باشا،أحد حكام الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، والعقل المدبر لمجازر الأرمن في تلك الفترة،وهو ما ألهمني للعمل على هذا الفيلم، فإذا كان حفيد أحد المسئولين عن مجزرة 1915 كتب عنها في كتاب يباع علنا، فلماذا أمتنع عن تقديم الفيلم لأن أصولي تركية؟
تدور أحداث الفيلم عام 1915، حيث ينجو الأرمني نازاريت من المذبحة التي ارتكبها الأتراك بحق الأرمن والتي تعرف باسم "الجريمة الكبرى"، وحين يعلم أن ابنتيه التوءمتين قد تكونان على قيد الحياة يذهب للبحث عنهما في رحلة طويلة،الأمر ليس بهذه البساطة التي يمكن تلخيص الفيلم بها، خاصة ونحن أمام سيل من المشاعر الإنسانية المتدفقة والمأساة المتضافرة، فـ نازاريت ينجو من المذبحة لأنه وقع بالمصادفة في يد لص لم يذبح أحدًا من قبل – هذا المشهد للذبح الجماعي يؤرخ لمذابح داعش الآن - فلا يستطيع هذا اللص إلا أن يُحدث قطعًا في رقبة نازاريت على أثره يفقد القدرة على الكلام، ثم ينضم لمجموعة من اللصوص يعرف منهم أن بلدته دُمرت وأن النساء والأطفال رُحلّواإلى مخيم في بلدة تدعى رأس العين، فيقرر الذهاب لأسرته لعله يجد ابنتيه (لوسينة وأرسينة)،وفى طريقه عبر الصحراء كم كان مفرحا له أن يجد بئرليروى عطشه، ولكنه عندما حرك الدلو ليشرب ونظر كانت البئر مقبرة جماعية لأشلاء مجمعة من الأرمن وفى رأس العين - واحد من أصعب وأقسى مشاهد الفيلم المتكررة -حيث تم حرق جماعي للأرمن، فوجد أكوامًا من الأشلاء أوالمتألمين الباحثين عن الموت، ومن بينهم يجد أخت زوجته الحبيبة التي يكسوها الرماد وتئن من حروقها وأوجاعها، مؤكدٌ له في حروف متقاطعةأن أسرته بالكامل ماتت وأنها تطلب منه المساعدة في الوصول للموت لأنها لاتحتمل الألم الذى ينهش في جسدها ولا تقوى على الانتحار، فيقوم بخنقها في مشهد صعب.
يكاد نازاريت يكفر بكل شيء حين يلتقى بشخصية المسلم السوري الطيب نصر الدين صانع الصابون، الذي يُخفى عددًا من الأرمن في مصنعه بحلب، ويصطحبه معه إلى هناك، وبعد مرور سنوات يلتقى نازاريت بالمصادفة بالحداد الذى كان يساعده في أيامه الطيبة التي ولّت والذي يخبره أن ابنتيه على قيد الحياة، ليبدأ القسم الثاني من الفيلم وهو عبارة عن رحلة طويلة وتنقل من بلد إلى أخرى -وهذا الجزء فنيا أقل كثيرا رغم توافر الإمكانيات الضخمةمن الجزء الأول، ولعل العيب الرئيسي هنا يكمن في السيناريو الذى حدث به انتقال من الإطار الميلودرامي إلى فيلم الرحلات، الأمر الذى يتسبب في خلل بنفسية المشاهد الذى اندمج في الحالة الأولى من المأساة، رغم أن الرحلة الطويلة ناتج لها، ولعل التطويل وتكرار التنقل من بلد إلى أخرى السبب في ذلك، وفي النهاية يصل نازاريت بالفعل إلى إحدى ابنتيه، لأن الأخرى ماتت متأثرة بطفيليات نقلت إليها من مخيم للاجئين؛ لعب الفيلم بمهارة على وتر المشاعر واحتمى بقضية يتحدث عنها العالم ولا يزال بها من القصص والمآسي الكثير،فلم يستخدم المخرج حيلًا فنية كثيرة، وإنما كاميرا مباشرة؛ فيما تفتقد مذابح الإيزيديين للتأريخ السينمائي حيث إنها حديثة فعليا، لكن الإيزيديين استطاعوا، عن طريق بعض التسجيلات والفيديوهات التوثيقية تفعيل قضيتهم ووضعها بشكل جيد على قائمة الأمم المتحدة، حتى أن الأخيرة أعلنت عن تحديد هُوية 105 ممن قاموا بمذابح الإيزيديين والانتهاكات الجنسية للإيزيديات.
ولإدراك الدولة العثمانية لأهمية الثقافة والأدب في الوعي وتقوية الأمم ولأهمية القوى الناعمة،بدأت تركيا مذبحة الأرمن باختطاف 270 مثقفا أرمينيا وترحيلهم وأسرهم، ثم قتل البعض وإلقاء البعض الآخر في الصحراء في رحلات الموت المعروفة، وقد أرّخت بعض الروايات للحدث، وأشارت أكثر من رواية إلى المآسي التي تعرض لها الأرمن وهجرتهم فارين من المذابح، من ذلك رواية (صيد العصاري ) للروائي الكبير محمد جبريل،فقد اختار الكاتب مرحلة سياسية مهمة من حياة مصر، جعلها المناخ الرئيسي لنصه الروائي، ومن خلال هذه المرحلة تبلورت وقائع النص، كانت هذه المرحلة فترة وزارة محمود فهمي النقراشي التي أعقبت وزارة صدقي باشا، هذه المرحلة التي كانت فيها مصر تزخر بالعديد من الجنسيات المختلفة العائشة على أرض الواقع المصري من خلال "الآخر"الباحث عن هُويته وانتمائه الحقيقي، وهو أحيانا يستخدم الصمت والعيش داخل الذات المحملة بتاريخ نكبته الدكتور جارو فارتانو نورا،وأحيانا يستخدم التاريخ الموثّق كعلامة مهمة لتأصيل عالمه الأصلي وجذوره العميقة على أرض الواقع، وقد كانت نورا أندريا بابيجيان،التي تمثل جزءا فاعلا من ذات "الآخر"،هي نفسها الفتاة مصرية المولد، أرمينية الأصل، التي تقوم بتوثيق تاريخ أرمينيا والمذابح التي حدثت لقومها على يد الأتراك العثمانيين، وكأنها بذلك تعيد إلى الأذهان أرمينيا كما هي تتمنى أن تعود إليها ويعود إليها الدكتور جارو فارتان ووالدها وكل أسرتها، كما أراد الكاتب أيضا أن يوثق مفهوم معنى الحرية كرؤية عامة مشتركة بين الأنا والآخر، وفي شهادته عن الحرية عدد محمد جبريل تفسيراته ورؤاه عنها متمثلا قراءات عدة فيقول: لم تتعدد تفسيرات واحد من المعاني، مثلما تعددت تفسيرات معنى الحرية إنها ـ كما يقول التعبير الفلسفي ـ هي التي تجعل منه أشخاصا، لأننا بالحرية نهب أنفسنا الوجود، بعد أن كنا مجرد أشياء. وقد عرّف ابن رشد الحرية بأنها لقاء بين ضرورتين، ضرورة إنسانية وضرورة طبيعية. ويقول جون ستيورات مل: الحرية حق طبيعي يملكه الإنسان بحكم الطبيعة. أما برديائيف، فيعّرف الحرية بأنها القوة الداخلية المحركة للروح، وهي السير غير العاقل للوجود والحياة والمصير. وفي تقدير هارولد لاسكي أن الحرية هي الأحوال الاجتماعية التي تنعدم فيها القيود التي تقيّد قدرة الإنسان على تحقيق سعادته. أما ديفيد هيوم، فيعرّف الحرية بأنها: القدرة على التصرف طبقا لما تحدده الإرادة. ولـ كامي مقولة أذكرها: إن الذي يغفر للإنسان كل شيء هو الحرية فالإنسان حرية قبل كل شيء.
حاول الدكتور «جارو» استرجاع فظائع الإبادة التي تعرض لها الأرمن بمعرفة الأتراك العثمانيين، وكأنه كان يحتاج إلى هذه الفرصة ليجتر مأساة وطنه بعد أن تقدمت به السن وبدأت ذاكرته تخونه، وأحداث أرمينيا تبدو غائمة وباهتة في بعض الأحيان، وبحسب ما ذكره بول ريكور عن الذاكرة المعاقة التي يقول عنها بودلير في إحدى قصائده: أنا الذاكرة المشئومة، أو الذاكرة المحبطة الكئيبة، الذاكرة الجريحة المريضة،فهل يلتفت العالم إلى هذه الذاكرة أم تُقام الذكرى بقرع أجراس الكنائس وذرف قليل من الدموع.
وتناولت الروايات العراقية على وجه الخصوص مأساة الإيزيديين مثل رواية (عذراء سنجار) والتي كشفت مأساة الإيزيديين، هي أول رواية عراقية وعربية، تستجيب لصدى النكبة الدموية التي تعرض لها الإيزيديون، وأوغلت بعمق في معاناتهم، في بشاعتها الوحشية،التي ارتكبها بحقهم تنظيم داعش الإرهابي.والشيء الأجمل في هذا العمل الروائي المبدع المتكامل، بقلم الكاتب العراقي (وارد بدر السالم)،أن يستجيب للحدث الكارثي،ضد الطائفة الإيزيدية في قضاء سنجار (شنكال) والمناطق والقرى المحيطة بها.
يدخل الروائي العراقي، راسم قاسم، في رواية «شمدين»، الصادرة عام (2017) إلى عالم الرواية الجديدة بوصفه إطارها المكاني: قرية رشتي كانت تغفو في سهل جبل سنجار شمال مدينة الموصل، بلمحة خاطفة، ولكنه لا يلبث أن يضع القارئ في صلب المأساة؛ إذ يعمد إلى رسم مشهد، من قرية شمدين، حيث جثث الجنود أو المقاتلين المتشددين الذين أردتهم الطائرات الأجنبية لتجبر جحافلهم على الانسحاب من سنجار ذي الطابع الفريد، والجماعة الدينية السابقة للمسيحية والإسلام، والكائنة في العراق منذ ما يقارب الألفين والثلاثمائة عام.
رأس العين عين التاريخ الباكية :
تلك المدينة المنكوبة التي أصبحت مكانًا للتجمع الرئيسي للأرمن المرحلين من الأناضول،بحلول سبتمبر 1915، بدأت مجموعات اللاجئين (تتكون عادة من النساء والأطفال) في الوصول بعد رحلة مرهقة،في أبريل 1916، أبلغ القنصل الألماني عن "مذبحة مرة أخرى في رأس العين: يتم ترحيل 300 إلى 500 من المرحلين من معسكر الاعتقال كل يوم ويتم ذبحهم على مسافة 10 كم من رأس العين. في صيف عام 1916 بدأت الحكومة التركية جولات جديدة من المذابح في مناطق دير الزور والرقة ورأس العين. في عام 1916، ذُبح أكثر من 80000 أرمني في رأس العين،ووفقًا للتقارير، وصلت في يوم واحد فقط 300-400 امرأة إلى المخيمات عاريات تماماً ونهبت من قبل الشيشان والدرك المحليين: جميع الجثث، دون استثناء، كانت عارية تمامًا وأظهرت الجروح التي أصيبت بها أن الضحايا قتلوا، بعد أن تعرضوا لوحشية لا توصف. لم يكن هناك خطأ في سرقة وقتل المرحلين، حيث أمر حاكم الولاية بقتل الأرمن المرحلين. دورري (ديري) بك، نجل الدفتردار التركي جمال باي من حلب، كان الجلاد السامي الرسمي للأرمن في رأس العين،هذا الوحش، بعدما سرق مجوهراتهن، اختار الفتيات الصغيرات من عائلات جيدة وأبقوهن للحرملك.
"بينما كنا نسير، شق الجنود الأتراك بالسيوف المرسومة طريقهم فجأة عبر الحشد، ومثل الوحوش التي تركت في قطيع من الأغنام، قتلوا وأصيب العديد،بينما لا يزال الباقون يتأرجحون تحت تأثير السيوف الدموية حتى رأس العين". تم الوصول إلى الصحراء،لوحظ هذا المكان بشكل خاص تجري فيه جزارتهم، حيث تم إرسال جميع الذين تم إرسالهم إلى هذه الأجزاء للموت،ولعدة مرات، تم تصفية مخيمات بأكملها في رأس العين كاضطهاد ضد أوبئة التيفود،وفقًا للسفير الأمريكي هنري مورجنثاو الأب، وصولًا إلى رأس العين، كان وجود المسافرين الأرمن البائسين رعبًا طويلًا.
الحبل السُري بين الأرمن والإيزيديين
اعتادت الدولة العثمانية القديمة إبادة الشعوب المختلفة عنها دينيا وعرقيا، من ذلك الإبادة الأرمنية وإبادة السريان الآشوريين وغيرهم، ويريد أردوغان في ظل وهم العثمانية الجديدة إعادة جرائم الإبادة ويقوم حاليا بإبادة الإيزيديين في سوريا حيثتشهد قرى ينتمي سكانها للطائفة الإيزيدية عمليات تغيير ديموغرافي في التركيبة السكانية بعد أن هجرها سكانها إبّان العملية العسكرية “نبع السلام”، التي خطط لها ونفذها خليفة الإرهاب أردوغان،إضافة إلى سرقة ممتلكاتهم من قبل الفصائل الموالية لتركيا.
ورصد المرصد السوري لحقوق الإنسان، سرقة وتخريب مقبرة للكرد الإيزيديين في قرية جان تمر الواقعة شرق رأس العين “سري كانييه” من قبل عناصر “السلطان مراد”.
على نفس المنهج تسير الفصائل الموالية لتركيا بدعم وتسهيلات من الحكومة التركية على توطين عائلات المقاتلين الموالين لها في هذه القرى أسوة بغيرها من المناطق التي تسيطر عليها، حيث نقلت عشرات العائلات في ربيع العام الحالي، إلى قرية مريكيش التي تعد أكبر تلك القرى.
ويتواجد في ريف رأس العين الشرقي أكثر من 10 قرى سكانها من الطائفة الإيزيدية هجرتهم عملية “نبع السلام” ويبلغ تعداد سكانها نحو 1000 نسمة، في كل من مريكيس وجان تمر ولزكة وشكرية وجافا ولدارا وكوع قبر شيخ حسين ومطلة وبير نوح وحميدية.
كما توجد عدة قرى في الريف الغربي لرأس العين مثل الأسدية وخربة بنات وخربة غزال، جميعها تخضع لسيطرة الفصائل الموالية لتركيا والتي تمارس جميع أنواع الانتهاكات في ظل هجرة أهلها منها، واليزيديون أو الإيزيديون (هم مجموعة عرقية دينية تتمركز في العراق وسوريا،يعيش أغلبهم قرب الموصل ومنطقة جبال سنجار في العراق، وتعيش مجموعات أصغر في تركيا، وسوريا، وألمانيا، وجورجيا وأرمينيا،ينتمون عرقياً إلى أصلٍ كرديٍ ذي جذور هندوأوروبية مع أنهم متأثرون بمحيطهم الفسيفسائي المتكون من ثقافات عربية وسريانية، فأزياؤهم الرجالية قريبة من الزي العربي أما أزياؤهم النسائية فسريانية. يرى اليزيديون أن شعبهم ودينهم قد وُجدا منذ وجود آدم وحواء على الأرض، ويرى باحثون أن ديانتهم قد انبثقت عن الديانة البابلية القديمة في بلاد ما بين النهرين،ويرى بعض الباحثين الإسلاميين وغيرهم أن الديانة اليزيدية ديانة منشقة ومنحرفة عن الإسلام،ويرى آخرون أن الديانة خليط من عدة ديانات قديمة مثل الزرادشتية والمانوية أو امتداد للديانة الميثرائية،و الشخصيات الأساسية في الديانة اليزيدية، عدي بن مسافر وطاووس ملك.