صار بالتواضع متميزاً.. وبالتذلل متعززاً
من أهم صفات النبي -صلى الله عليه وسلم-
التواضع والعدل والحكمة، فتواضعه كان مثالًا يُحتذى لدى العقلاء وطلاب الآخرة، فكلما
رفعه الله مكاناً علياً خفض جناحه للمؤمنين حين قال تعالى: {واخفض جناحك للمؤمنين}
[الحجر: ٨٨] خاصة للمتبعين هديه السالكين هداه، حيث قال سبحانه {واخفض جناحك لمن اتبعك
من المؤمنين} [الشعراء: ٢١٥].. وهذا ليس غريباً على معدنه صلى الله عليه وسلم، وهو
المهاب عند كل من يراه، تقول موسوعة نضرة النعيم في أخلاق الرسول الكريم: كان صلوات
الله وسلامه عليه «يمشى في الأسواق ويجلس على التراب ويمتزج بأصحابه وجلسائه، فلا يتميز
عنهم إلا بإطراقه وحيائه، فصار بالتواضع متميزًا، وبالتذلل متعززًا. ولقد دخل عليه
بعض الأعراب فارتاع من هيبته، فقال: «خفض عليك فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد
بمكة»، وهذا من شرف أخلاقه وكريم شيمه، فهي غريزة فطر عليها وجبلة طبع بها لم تندر
فتعد، ولم تحصر فتحدّ».
ولقد اختار نبينا -صلى الله عليه وسلم-
أن يكون عبدًا رسولًا، لا ملكًا، ولا زعيماً، ولا متميزًا بلقب، فعن أم المؤمنين السيدة
عائشة رضى الله عنها قالت إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا عائشة، لو شئت لسارت
معي جبال الذهب، جاءني ملك، فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن شئت نبياً
عبدًا، وإن شئت نبيًا ملكًا، قال: فنظرت إلى جبريل، قال: فأشار إلى، أن ضع نفسك، قال:
فقلت: نبيًا عبدًا، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك لا يأكل متكئًا، يقول:
آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد) رواه الطبرانى وغيره. وكما كان من أخلاق
النبي الكريم التواضع كان من أخلاقه العدل.. والعدل قامت عليه السماء والأرض قال تعالى
{والسماء رفعها ووضع الميزان} [الرحمن: ٧]. ونبينا -صلى الله عليه وسلم- حقق عدالة
السماء والأرض فى الناس جميعاً، حيث كان يعدل بين أزواجه فى كل شيء ويعدل بين أصحابه
فى كل شيء، ويعدل حتى بين أعدائه ومنتقديه.
روى أن أعرابياً جاءه يطلب منه شيئًا، فأعطاه
إياه، ثم قال: (أحسنت إليك؟)، قال الأعرابي: لا ولا أجملت، فغضب المسلمون، وقاموا إليه،
فأشار -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- إليهم أن كفوا، ثم قام ودخل منزله، وأرسل إليه
وزاده، ثم قال: (أحسنت إليك؟)، قال: نعم، فجزاك الله به من أهل وعشيرة خيرًا، فقال
له النبي -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم-: (إنك قلت ما قلت، وفى أنفس أصحابي من ذلك
شيء، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي؛ حتى يذهب ما فى صدورهم عليك)، قال:
نعم، فلما كان الغد جاء الأعرابي فقال -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- (إن صاحبكم
هذا كان جاء فسألنا، فأعطيناه، وقال ما قال، وإنا دعوناه إلى البيت فأعطيناه، فزعم
أنه قد رضي، أكذلك؟)، قال: نعم، فجزاك اللهُ من أهل وعشيرة خيرًا، فقال صلى الله عليه
وسلم: ألا إن مثلى ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل له ناقة شردت عليه، فاتبعها الناس، فلم
يزيدوها إلا نفورًا، فناداهم صاحبها: خلوا بينى وبين ناقتي؛ فإني أرفق بها منكم، وأعلم
بحالها وطبعها، فتوجه لها بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردها حتى جاءت واستناخت
وشد عليها رحلها، واستوى عليها، وإنى لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه، دخل
النار).
ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يتصف
بالعدل فحسب؛ بل بالإحسان.. ومن شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته تخفيفه وتسهيله
عليهم، وكراهة أشياء مخافة أن تفرض عليهم؛ فقد روى الشيخان قوله صلى الله عليه وسلم:
(لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء)، وكل هذا التخفيف من رحمته بأمته
هو مصداق قوله تعالى: «ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم» [الأعراف: ١٥٧].
ومع تواضعه وعدله كان صلى الله عليه وسلم حكيماً يضع الأمور فى نصابها حتى أنه منع
نفسه من أن يدعو على قومه رغم جورهم.. فعن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها
قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟». قال: «لقد
لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسى على ابن عبد
ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق
إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل،
فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال
لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال ذلك فيما
شئت أن أطبق عليهم الأخشبين [١] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرج الله
من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا» متفق عليه.. ومن حكمته أنه أخمد الفتنة
فى مهدها يوم صلح الحديبة عند كتابة الصلح كما عند البخاري: حيث دعا النبي صلى الله
عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم».
فقال سهيل: أما الرحمن، فو الله ما أدرى ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم. فقال المسلمون:
والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اكتب:
باسمك اللهم. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله». فقال سهيل: والله لو كنا نعلم
أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبدالله. فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: «والله إنى لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبدالله».
هكذا كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن، وكان مضرب المثل فى كل جميل ولا غرابة ألم
يقل مولانا سبحانه {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: ٤].