إدوارد سعيد.. أستاذ الشتات والمنفى
من أقاصى البلاد البعيدة كصورة
بعيدة باهتة عن وطن ضائع، ومن صوت داخلي يئن بالشوق والحنين إلى ذكريات دافئة
مستكينة، حملها معه إلى بلاد وعواصم كثيرة كغريب منذ أن كان بعمر الخامسة عشرة، التى
جعلت منه الصوت الأكثر قوة لكل غريب منفي.
إدوارد سعيد المفكر الفلسطينى الملقب لدى الإعلام المنحاز لإسرائيل بـ"بروفيسور
الإرهاب "ولد في
القدس في الأول من نوفمبر 1935، والده وديع وليام إبراهيم سعيد الفلسطيني وتنتمى
أصوله لأسرة مسيحية بروتستانية، خدم فى الجيش أثناء الحرب العالمية الأولى، حصل
على الجنسية الأمريكية ثم انتقل هو وأسرته إلى القاهرة وأسس له عملاً هناك، والدته
لبنانية الأًصل وعاش إدوارد حتى الثانية عشرة متنقلاً بين القدس والقاهرة، التحق
بالمدرسة الإنجيلية ومدرسة المطران في القدس سنة 1947.
ألحقه
والده بكلية فيكتوريا Victoria College في
الإسكندرية وهي من أقدم وأكبر المدارس الإنجليزية في مصر وتعتبر مدرسة أبناء
الطبقة الأرستقراطية، طرد منها سنة 1950 لكونه مشاغباً، ليرسله والده وهو في
الخامسة عشر إلى مدرسةٍ داخليةٍ في ماساتشوستس بالولايات المتحدة. كان إرساله
لأمريكا بهدف إقامته فيها قبل بلوغه الثامنة عشرة ليستطيع الحصول على الجنسية
الأمريكية، وقد وصف سعيد أيامه الأولى فى
أمريكا قائلًا: "غير أن الغالب كان شعوري الدائم أني في غير مكاني".
استكمل
إدوارد سعيد دراسته وتخرج في جامعة برنستون سنة 1957، ثم حصل على ماجستير الآداب
سنة 1960، ثم بمنحةٍ دراسيةٍ حصل على الدكتوراة في النقد الأدبي والأدب المقارن
سنة 1963 من جامعة هارفرد برسالةٍ عن الروائي البولوني-الإنجليزي جوزيف كونراد
وروايته "قلب الظلام" وكانت عن الاستعمار البلجيكي للكونغو.
اكتشف
سعيد الصورة التى ابتدعها الغرب عن الشرق ورأى أن الخطاب الإستشراقى ليس مجرد فراغ
علمي حيادي بل تخترقه علاقات القوة والسلطة، فقد ظهر فى الأعوام التى تلت النكسة
1967 الكثير من الكليشيهات حول العرب تتصفهم بالجبن فكانوا تمثيلاً للهزيمة
والهوان والخضوع، إلا أن اهتمامه بالإستشراق بدأ منذ حرب 1973 فلأول مرة فى حياته
يشهد نجاحًا عسكريًا عربيًا.
أصبح كتابه "الإستشراق "الذى صدر فى عام 1978 النواة
الأساسية لتأسيس نظرية الكونالونية وما بعد الكونالونية وكان يعد بمثابة التاريخ
الكامل لتمثيل الآخر، أحدث هذا الكتاب جدلاً واسعًا فى العالم وتحول من دراسة
حضارة إنسانية إلى نقاش جدلي واسع بين مفكرى العالم.
عاش سعيد النظرة الاستشراقية فى وسائل الإعلام
الغربية التى نمطت العالم العربي فكان دافعًا له لسبر أغوار تلك القضية من عقلية
غربية متخصصة فقد كان هناك إجماع كلى على أن الفلسطينى غير موجود سياسيًا، ويؤكد سعيد
في كتابه أن معظم الدراسات الأوربية للحضارة الإسلامية كانت ذات منحى متعمد غربي
تهدف إلى تأكيد الذات الغربية بدلاً من الدراسة الموضوعية.
ومن خلال كتابه "الإستشراق"
يتناول فكرة "المستشرق الحديث" وكيف
ينظر إلى ذاته ويرى أنه بطلًا منقذًا للشرق من مهاوي الغموض، العزلة والغربة.
عبر"
سعيد" أيضًا عن اهتماماته الموسيقية
في كتاب "متتاليات موسيقية "سنة 1991 محاولاً ربط الموسيقى ببعديها
الثقافي والسياسي، كما نشر العديد من الأعمال التي تخص القضية الفلسطينية مثل كتاب
"قضية فلسطين" سنة 1979 منطلقًا من بداية الأحداث بولادة الحركة
الصهيونية وانتشار إيديولوجيتها ضمن الثقافة الاستعمارية الأوروبية وتشجيع اليهود
على الهجرة إلى فلسطين وفي الوقت ذاته عرض نبذةً عن تاريخ الشعب الفلسطيني ليقدم
عرضًا شاملاً حول الخصائص السكانية والاجتماعية المميزة لهذا الشعب. ومن خلال عرض
كم كبيرٍ من الوثائق وتفسيرها يصر إدوارد سعيد على أن فلسطين -في القرنين التاسع
عشر والعشرين- لم تك صحراء لا شعب فيها بل مجتمعًا مدنيًا ذا كيانٍ سياسي يناهز
تعداده 600 ألف.
وقد اتهم البعض سعيد بأنه
ساهم في إنشاء الاستغراب لمعاكسة الاستشراق في الخطاب الغربي متهمين إياه بأنه فشل
في التمييز بين نماذج الرومانسية والتنوير، وتجاهل الاختلافات الواسعة والأساسية
بين آراء علماء الغرب حول الشرق، كما فشل في الاعتراف بأن عددًا من المستشرقين منهم
وليم جونز قد حاولوا إنشاء قرابة بين الشرق والغرب مع الإبقاء على الاختلاف، وقد
شكلت بعض نظرياتهم أساساً لمقاومة الاستعمار.
أطلقت "عصبة الدفاع عن اليهود "على إدوارد سعيد لقب
"النازي" وهي في الأساس مُصنفة كمُنظمة إرهابية من قبل مكتب التحقيقات
الفيدرالي في الولايات المتحدة الأمريكية، كما أضرم أحدهم النيران في مكتب سعيد
بجامعة كولومبيا بسبب آراؤه وأفكاره، وقد صرح كثيرًا بأنه كان يتلقى تهديداتٍ
بالقتل هو وعائلته طوال حياته، كما تم وصفه بـ"بروفيسور الإرهاب".
وبعد كتاب "الإستشراق " أطلق العديد من الأعمال الفكرية
مثل "تغطية الإسلام"، "الثقافة والإمبريالية"، "تمثيلات
المثقف ومسألة فلسطين"، متتاليات موسيقية" و"الإنسانية ونقد
الديمقراطية" وبعد رحلة حافلة مليئة بالنضال والكفاح، توفي عام 2003 بعد صراع
مع مرض سرطان الدم.