رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


عندما حارب الحرافيش دفاعًا عن القاهرة

1-11-2020 | 20:23


لم يكن سقوط القاهرة في قبضة الاحتلال العثماني مجرد حدث عابر من حوادث سقوط المدن المركزية في التاريخ، فالقاهرة المملوكية، المحمّلة بإرث التاريخ، وعبق المقاومة الصامتة، خرجت عن صمتها المعتاد ذات نهار مفعم بالمقاومة، في محاولة لرد الغزو الثقيل، رغم تواطؤ الجند الجراكسة، وتخاذل قادة المماليك، لكن السلطان، طومان باي، الذي تمثل دور البطولة في وقت استثنائي، أعاد إلى الأذهان لحظة وقف الزحف التتاري في عين جالوت، وما ترتب على هذا الانتصار من تغيير في مسار التاريخ، في تأسيس جديد للأحداث، أعاد رسم موازين القوى في العالم آنذاك.


اضطربت الأحوال في مصر مع سقوط الشام، ومقتل السلطان قنصوة الغوري، وشاع الإحباط والتخاذل بين صفوف المماليك، وانقسموا حول تأييد السلطان الشاب، طومان باي، والذي كان يتمتع بظهير شعبي قوي، وفي ذلك يقول ابن إياس في الجزء الخامس من كتابه بدائع الزهور: "ساس الناس في غيبة السلطان أحسن سياسة، وكانت الناس عنه راضية في مدة غيبة السلطان، وكانت القاهرة في تلك الأيام في غاية الأمن، فلما مات السلطان الغوري، عمه، وتسلطن عوضه، أبطل من المظالم أشياء كثيرة، مما كان يعمل في أيام الغوري.. وكان ملكًا حليمًا قليل الأذى كثير الخير". 


واعتمد العثمانيون على بث الذعر، حيث كانت أخبار الترويع والإرهاب تسبق جيوشهم أينّما حلّت، وبصفة خاصة، أرادوا بث الرعب في نفوس أهل القاهرة، خاصة وأنّ سليم الأول أوصى في بعض مجالسه بين أخصائه وهو بالشام بضرورة التنكيل بأهل مصر إذ قال: "إذا دخلت إلى مصر، أحرق بيوتها قاطبة، وألعب في أهلها بالسيف". وعندما دخل إلى غزة ارتكب فيها مجزرة بشعة، حيث أعمل جنوده في أهلها القتل والنهب وسبي النساء، في رسالة موجهة إلى أهل مصر في حال تمسكوا بمقاومة الغزو.


جمع السلطان، طومان باي، ما تبقى من المخلصين من مماليكه، وتوجه بهم إلى الريدانية، يقول ابن إياس:"خرج السلطان من الوطاق، وتوجه إلى المصطبة التي بالريدانية، واجتمع هناك السواد الأعظم من العوام، حتى النساء، وأطلقوا الزغاريد هناك، وارتفعت الأصوات بالدعاء للسلطان بالنصر وكان هناك يوم مشهود".


ومع تقدم العثمانيين، وتخاذل المماليك، وصل الحرافيش (الزعر) إلى مخيم السلطان، وطلبوا المشاركة في القتال، والدفاع عن القاهرة، وكان الجمع غفيرًا، فوافقهم السلطان، ووضع لهم خطة للمقاومة، والانقضاض على أطراف الجيش العثماني، وخطف جنوده، ووعدهم " أنّه إذا قاتلوا عسكر ابن عثمان وانتصروا عليه، ينفق على كل واحد منهم عشرة أشرفية، وينعم على كل واحد منهم بسيف وترس"، ووضعهم تحت إمرة الأمير، أنصباي، أمير آخور كبير.


وعلى الرغم من المقاومة العنيفة التي أبداها، طومان باي، وحرب الاستنزاف التي شنها الحرافيش على أطراف الجيش العثماني، انكسر الجيش المملوكي في الريدانية، وآثر السلطان الانسحاب، وعاد الحرافيش أدراجهم يحاولون الدفاع عن بولاق وسائر المناطق، بينما دخل العثمانيون القاهرة، وملكوها بالسيف عنوة، وسادت حالة غير مسبوقة من السلب والنهب، فصار في أهل مصر جمرة نار، على حد تعبير ابن إياس، ونهب الغزاة طواحين الغلال، وكل ما ما يلوح لهم، وصاروا يخطفون الصبيان، واستمر النهب في ذلك اليوم إلى ما بعد المغرب، ثم توجهوا إلى شون القمح في بولاق فنهبوا ما بها من غلال.


التنكيل بأهل مصر:


يقول الشيخ بدر الدين الزيتوني الذي عاصر الغزو، وشاهد لحظة سقوط القاهرة على أيدي الغزاة العثمانيين:

نبكي على مصر وسكانها    قد خربت أركانـها العامــرة

وأصبحت بالذل مقهورة    من بعد ما كانت هي القاهرة


شرع العثمانيون في ارتكاب أفظع الجرائم في تاريخهم الملوث بالدم، وصاروا ينهبون بيوت الناس، بحجة أنّهم يفتشون عن المماليك الجراكسة، واستحلّوا القاهرة ثلاثة أيام متوالية، ولم يراعوا حرمة أحياء ولا أموات، فداهموا فساقي الموتى، ونبشوا المقابر، وكانوا يقتلون كل من يجدونه فيها، حتى المشردين لم يسلموا من سيوفهم، يقول ابن إياس: " كل تربة وجد فيها مملوك جركسي، حزوا رأسه ورأس من بالتربة من الحجازيين وغيرهم، وكان فيهم جماعة من الينابعة وهم أشراف، وصاروا يكبسون الحارات، ولما كثرت رءوس القتلى، نصبوا صواري وعليها حبال، وعلقوا عليها رءوس من قتل، فوق أربعة آلاف إنسان، وصارت الجثث مرمية حتى جافت بهم الأرض".


وكانت المعاملة الوحشية للأسرى، خير دليل على همجية الغزاة، ويلخص ما حدث مع الأتابكي، سودون الدواداري، الكيفية التي عملت بها آلة القمع العثمانية؛ حيث قُبض عليه، وقد جرح جرحًا مميتًا وكُسرت فخذه، فأركبوه على حمار وهو ينزف، وألبسوه عمامة زرقاء، وجرسوه في طرقات القاهرة حتى مات وهو على ظهر الحمار.


كما صار العثمانيون يقتلون كل من لبس زمطًا أحمر اللون، باعتباره جركسيًا، فأبطل الناس لبس الزموط، فصاروا يستوقفونهم في الطرقات، ويخيرونهم بين دفع مبلغ من المال لشراء أنفسهم أو قتلهم !! 


وعليه، مارس الغزاة في الأيام الأولى من سقوط القاهرة جرائم لا تحصى، ما جعل وجودهم شديد الوطأة، ثقيلا على النفوس، وهنا قرر الحرافيش التواصل من جديد مع السلطان الهارب، طومان باي، والذي كان يبذل جهدًا خارقًا لجمع فلول المخلصين من مماليكه، ليخوض فصلاً جديدًا من فصول المقاومة.


حرافيش القاهرة في طليعة المقاومة


التف أبناء البلد حول سلطانهم، والذي قرر الإسراع بالهجوم على الغزاة قبل أن تستقر أوضاعهم، رغم أنّه كان يحتاج إلى المزيد من الوقت، لجمع شتات جيشه، وفي يوم الثلاثاء الرابع من محرم من العام 923هـــ، فوجئ الجيش العثماني بهجوم على معسكره الرئيسي في الوطاق، بواسطة أعداد كبيرة من الزعر والحرافيش وعياق بولاق من النواتية وغيرها، حيث مهدوا لهجوم الجيش الرئيسي بقيادة، طومان باي، من خلال تشتيت الجيش العثماني، برجمه بالمقاليق وفيها الحجارة لوقت طويل، وما إن اضطرب حال غزاة، وقد أضرم الحرافيش النار في خيامهم، وقتلوا عدداً كبيراً من جنود الحراسة، تقدّم السلطان بفرسانه، ودارت معركة حامية الوطيس حتى الصباح، اختل فيها توازن الجيش العثماني تمامًا، وأصيب سليم الأول بنوبة من الهلع، وفي تلك الآونة قام الحرافيش بكبس البيوت والحارات على العثمانيين، وقتلوا منهم الكثير، ومع تراجع الغزاة، انطلق الحرافيش والعياق من الناصرية وقناطر السباع، للانضمام إلى المعركة، وأعملوا الخطف والقتل في جنود الاحتلال في أنحاء القاهرة.


ونزل طومان باي في جامع شيخو بالصليبة، وأمر بحفر خندق في رأس الصليبة، وآخر عند قناطر السباع، وآخر عند رأس الرملة، وآخر عند جامع ابن طولون، وقام الزعر بدور كبير في حفر تلك الخنادق، وأصبح الانتصار في المتناول، فأصيب العثمانيون بالجنون، وصعد بعض جنودهم إلى مآذن الجامع المؤيدي، وصاروا يضربون الناس برصاص البنادق، في محاولة لمنعهم من الوصول إلى باب زويلة، فحاصرهم الناس، ونجحوا في الإمساك بهم وقتلهم، ومع تراجع الجيش العثماني، أصبحت القاهرة في قبضة السلطان، فلما أصبح يوم الجمعة، أقيمت الصلاة، وخطب باسم طومان باي على المنابر، وطلب السلطان عدم قتل الأسرى العثمانيين إن هم طلبوا الأمان.


الانتقام الوحشي دلالة على دموية الغزاة


تمكن العثمانيون من إعادة تنظيم صفوفهم، وقد نجا، سليم الأول، بأعجوبة، وحتى طلوع شمس الثامن من محرم كانت المعارك متواصلة، قبل أن يضطر طومان باي للانسحاب إلى الصعيد، من جراء تواصل الضغط العثماني، وبحسب ابن إياس، قرر الغزاة الانتقام عبر الإفراط في القتل والنهب، حيث توجه العثمانيون من "مصر العتيقة، وطلعوا على القرافة الكبيرة، وملكوا من باب القرافة إلى مشهد السيدة نفيسة، فدخلوا إلى ضريحها، وداسوا على قبرها، وأخذوا قناديلها الفضة والشمع الذي كان عندها، وبُسط الزاوية، وقتلوا في مقامها عددًا كبيرًا من الناس الذين كانوا احتموا بها". كما هاجموا مقام الإمام الشافعي، ونهبوا ما فيه من البُسط ومن القناديل، وكذلك مقام الإمام، الليث بن سعد، ونهبوا ما فيه أيضًا، وداهموا الصليبة، وأحرقوا جامع شيخو، فاحترق سقف الإيوان الكبير والقبة التي كانت به، وأحرقوا البيوت التي كانت حوله في درب ابن عزيز، ثم قبضوا على الشرفي يحيى بن العداس، خطيب الجامع وأحضروه بين يدي سليم شاه بن عثمان؛ ودهموا الجامع الأزهر، وجامع الحاكم، وجامع ابن طولون وغيرها من الجوامع والمزارات.


وبعد تدنيس المساجد، قرر الغزاة الانتقام من الحرافيش، في واقعة يصفها المؤرخ ابن إياس بـ"المصيبة الكبرى"، فأعملوا السيف دون تمييز، ومارسوا نوعًا من القتل العشوائي الذي لم تشهده مصر من قبل، حتى أصبحت جثث القتلى ملقاة في الطرقات؛ من باب زويلة إلى الرملة، ومن الرملة إلى الصليبة، إلى قناطر السباع، إلى الناصرية، إلى مصر العتيقة، ويقدر ابن إياس عدد القتلى في هذا الهجوم الوحشي، من بولاق إلى الجزيرة الوسطى، إلى الناصرية إلى الصليبة، فوق العشرة آلاف إنسان.


ويمكن القول إنّ الانتقام الدموي من الحرافيش، وأبناء البلد جاء رغبة في وأد أيّ مقاومة، وكسر الروح المعنوية للمصريين، بقتل أبنائهم، وسبي نسائهم، والتنكيل بهم إلى الحد الذي لم يعرف له المصريون مثيلاً، ما يعكس الطابع الدموي للغزاة، الذين جاءوا من الهامش الجغرافي، لاحتلال حضارات عريقة، قرروا إخضاع أبنائها بالسيف، والسيف وحده.


ونترك لــ ابن إياس وصف حال مصر والمصريين، وقد نكبوا بقتلة مهووسين بالدم..يقول:


"ولم يقاسِ أهل مصر شدة مثل هذه قط، إلا أن كان في زمن البخت نصر( يقصد نبوخذ نصر البابلي)، لما أتى من بابل وزحف على البلاد بعساكره وأخربها، وهدم بيت المقدس، ثم دخل إلى مصر وأخربها عن آخرها، وقتل من أهلها ألف ألف ألف إنسان، حتى أقامت مصر أربعين سنة وهي خراب، ليس بها ديار ولا نافخ نار، فكان النيل يطلع وينفرش على الأرض ويهبط فلا يجد من يزرع الأراضي عليه، ولا ينتفع به، لكن هذه الواقعة لما فوق الألفى سنة قبل ظهور عيسى ابن مريم عليه السلام، ثم وقع مثل ذلك في بغداد، في فتنة هلاكو (بقصد هولاكو) ملك التتار، لما زحف على بغداد وأخربها وأحرق بيوتها، وقتل الخليفة المستعصم بالله وقتل أهلها، واستمرت من بعد ذلك خرابًا إلى الآن، فوقع لأهل مصر ما يقرب من ذلك، وما زالت الأيام تبدي العجائب".