رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


"جن علي".. المجني عليه دراميًا

1-11-2020 | 20:24


لـ علي بك الكبير (1728 ـ 1773) أو "جن علي" كما أطلق عليه المصريون، وجهان: الأول وثقه المؤرخون وعلى رأسهم الجبرتي الذي قيم الرجل بإنصاف، وكذلك المؤرخ د.محمد رفعت رمضان الذي نشر كتابًا عنه عام 1950، أما الوجه الآخر فتناولته الدراما، ولعل أشهرها مسرحية أمير الشعراء أحمد شوقي "علي بك الكبير"، كما ظهرت شخصية "جن علي" في بعض المسلسلات التي تناولت حقبة المماليك منها على سبيل المثال "مارد الجبل" إخراج نور الدمرداش، ومسلسل "شيخ العرب همام" إخراج حسني صالح.

السياق

أخضع العثمانيون مصر عام 1517، ورتبوا السلطة على ثلاثة مستويات: الباشا العثماني بديلًا للسلطان المملوكي ثم حامية عثمانية عسكرية، ثم المماليك لحكم وإدارة الصنجقيات والكاشفيات (ما يعادل المدن والمحافظات)، وكان أرفع منصب لهؤلاء "شيخ البلد" (يعادل محافظ القاهرة) وكانوا يلقبون بـ "البكوات".

وبحسب كتاب "تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر" لعمر الإسكندري وسليم حسن، فكل ما كان يهم العثمانيين "الميري" أي الخراج والضرائب، فكان الفلاحون أقرب إلى العبيد، يزرعون الأرض بالمجان لصالح "الملتزم" بالخراج عن كل منطقة. كما تعرضوا أيضًا لابتزاز بكوات المماليك، بالتالي انقلبت مصر من إمبراطورية عظيمة أيام المماليك، إلى ولاية هزيلة تدر الخراج للعثمانيين، الذين لم يهتموا بأي إصلاحات جدية، فتقهقرت الصناعات، وتفكك شكل الدولة مع ضعف الولاة العثمانيين، وتناحر المماليك على لقب "شيخ البلد"، كما زاد قطاع الطرق وجرائم اللصوص.

ويكشف هذا السياق عن أمرين: أولهما سوء الأحوال التي عانت منها مصر بعد مرور ما يزيد على قرنين تحت الاحتلال التركي، وثانيهما: مفهوم "مصري" كهُوية لم يكن متبلورًا، لأن مقاليد السلطة توزعت بين عرقيات متعددة تركية ومملوكية وقبائل بدو أو "عربان".

لذلك اعتبر المؤرخ محمد رفعت رمضان ما قام به علي بك الكبير بمثابة "ثورة" على الحكم العثماني، مشيرًا إلى ما تمتع به من ذكاء وشجاعة وأخلاق وطموح، حتى المصادر الأوروبية اعتبرته رجل دولة من طراز فريد.

ويسهل عقد مقارنات كثيرة بين علي بك الكبير، ومحمد علي باشا، فكلاهما طمح إلى الاستقلال عن الحكم العثماني، وبناء إمبراطورية مصرية عظيمة الشأن.


بزوغ قائد

وُلد "جن علي" لقس يوناني في الأناضول وبيع مملوكًا في القاهرة وعمره ثلاثة عشر عامًا، وقد تمتع بمهارات قتالية متنوعة، كالضرب بالسيف وركوب الخيل، فاكتسب لقبه المصري "جن علي" بفضل ذلك، كما استثمر ذكاءه في تجنب صراعات المماليك إلى أن نال طوعًا منصب مشيخة البلد.

وإذا كان محمد علي باشا قد جمع المماليك في مذبحة واحدة، فعلي بك لجأ إلى التخلص منهم فرادى عبر النفي والاغتيال، وبعدها تفرغ لإضعاف الحامية العثمانية، ثم عزل الباشا العثماني نفسه، وأعلن نفسه "قائمقام مصر"، كما قضى على عصيان سويلم بن حبيب في الوجه البحري، وشيخ العرب همام في الصعيد، وأجرى إصلاحات اقتصادية، منها سك اسمه على جانب من العملة، مستبقيًا فقط بعض الرموز الشكلية للسلطان العثماني.

لم يكن طموح البك مقتصرًا على الاستقلال عن العثمانيين، رغم أنه في البداية استمالهم بالهدايا وإعلان الولاء، بل سعى إلى استعادة الإمبراطورية المصرية بإرسال حملة للاستيلاء على الحجاز وميناء جدة، ثم حملة من أربعين ألف جندي على بلاد الشام، واستغل انشغال الأتراك بحربهم مع الروس، وكان يرى نفسه منتميًا إلى مصر أكثر منه إلى العثمانيين، ومعتبرًا المماليك "حكام البلاد الأصليين" بحكم أقدميتهم، لكن تلميذه محمد بك أبو الذهب انقلب عليه بعدما نجح العثمانيون في استمالته وتشجيعه على ترك الشام والعودة إلى مصر لعزل أستاذه ليصبح شيخ البلد بدلًا منه، مع عفو السلطان عنه، فقوضت خيانة أبو الذهب الإمبراطورية التي شكلها علي بك في سنوات قليلة جدًا، وتأجل تأسيسها حتى ظهور محمد علي باشا.


مسرحية شوقي

ظل مفهوم "المصري" مختلطًا لقرون بعرقيات كثيرة استوطنت مصر، وأمير الشعراء أحمد شوقي نفسه تجري في عروقه تلك الدماء المختلطة، ففي عام 1893 كتب مسرحيته "علي بك الكبير" وأهداها إلى الخديو الذي تلقاها بفتور، ثم في أواخر أيامه، وكما يشير د.محمد مندور في كتابه "محاضرات عن مسرحيات شوقي" ، أعاد كتابة المسرحية عام  1932، وقد أخرجتْها بالفعل فرقة السيدة فاطمة رشدي على مسرح الكورسال، لكنها لم تَنَل غير نجاح محدود.

اشتغلت المسرحية على خطين: الأول: انقلاب أبو الذهب على سيده، والآخر: حب مراد بك لـ "آمال" جارية علي بك نفسه.

يقول علي بك عن خيانة تلميذه أبو الذهب:

"ولو أن رزئي بالغريب احتملته             ولكن بأهلي نكبتي وعذابي

يطاردني في الأرض من دبَّ في يدي     ورُبي في حجري وشب ببابي"


وإذا كان أبو الدهب طامعا في عرش علي بك، فإن تلميذه الآخر مراد بك طامع في جاريته، وهنا يناجي علي بك نفسه:

"هذا أبو الدهب استولى على شِيَعي     وحاز دوني جاهي واحتوى مالي

واليوم هذا مراد نال من شرفي          ما لا يمر لأعدائي على بالِ"

كلا الخطين يعبران عن طموح وانتقام شخصي، تلميذ طامع في كرسيه، وآخر في جاريته، لكن هذه الأهواء الشخصية كانت تتحول إلى حروب دموية، تحدث عنها أحد الجنود عندما لجأ علي بك إلى حليفه ضاهر العمر في حصن عكا:

"كل حين يجيء من مصر جيش            ينزل القدس أو يحل الشاما

وأمير يقاتل الترك في مصر               أتى شاهرا علينا الحساما

نحن ما بين مصر والترك ضعنا          وسئمنا الحياة والأياما

غنم نحن بين راعٍ وذئب                  أي هذين جاع كنا طعاما"


مثل هذه الإشارات، تشير إلى أجواء الصراعات بين مستويات السلطة الثلاثة آنذاك، وتعبر إلى حد كبير عن شقاء المصريين بين قسوة "الراعي التركي" ووحشية "الذنب المملوكي".

ويحاول شوقي إظهار حب علي بك للمصريين، والسؤال عنهم بعدما هرب إلى عكا، فتقول له جاريته "شمس":

 "مع الأمير قلوبهم    لكن سيوفهم مع الكذاب". فيعود ويسألها: والشعب؟ تقول شمس:

"سالٍ يا أمير كعهده             قد مال عن باب وقام بباب

والترك قد نصبوه بعدك هرةً       يتصيدون بظفرها والناب"


هنا إشارة سلبية إلى الشعب المصري، فهو يميل إلى من غلب، وبحسب مندور، فإن الحملة التي شنَّها النُّقَّاد على شوقي، بمناسبة مسرحية "مصرع كليوباترا" لفتتْ نظرَه إلى مآخِذ نفَر منها الجمهور المصري حيث بدا أنه يدافع عنها بينما لا ينصف الشعب المصري ويصفه بأنه "ببغاء عقله في أذنيه" لذلك أسقط من مسرحية "علي بك" المشهد الذي وصف فيه الشعب المصري بأنه شعبٌ ذليلٌ لا يصعب ابتزاز المال منه بالسوط والعصا، عبر حوار بين حنا وكيل علي بك الكبير، و"إقبال" التي أصبحتْ آمال في النسخة الجديدة. علمًا بأن المشهد المحذوف يدين المماليك أنفسهم ويبرز جشعهم وقسوتهم.

تقابل هذه الإشارة السلبية، إشارة إيجابية على لسان علي بك خلال حواره مع "آمال" قائلًا:

"وكل ما أبصرتِ في.. قصري من صنع البلد

فليس يعلو الصانعَ.. المصري في الذوق أحد"


أما الإشارات إلى الأتراك عمومًا فكانت مختصرة بلا توسع في إدانتهم، رغم أن شوقي أعاد كتابة مسرحيته عقب انهيار سلطانهم الاسمي على مصر. في الفصل الثالث داخل قصر محمد بك أبو الدهب يظهر الخادم "عثمان" وهو جاسوس تركي ويقول:

"خدمته والله ما    خدمتُ إلا دولتي

كبّسته والله ما     كبّست إلا حاجتي

خادم تركيا أنا       ما أنا خادم الغبي"


مثل هذه الإشارات على قلتها، تظهر تلاعب العثمانيين بالمماليك، وإثارة الأحقاد والأطماع فيما بينهم، وبراعتهم في نشر الجواسيس داخل قصورهم. وعادة لا يتدخلون لمنع هؤلاء من استعباد المصريين والاستيلاء على أموالهم، طالما يؤدون لهم "الخراج" ويرسلون "الهدايا"، ولا يتطلعون إلى الاستقلال بحكم البلاد كما حاول "جن علي".

 وأشار شوقي لحلم الاستقلال بقوله على لسان البك:

"وكنا خططنا انتشال البلاد    وإنقاذها من عُتو التتر

وأن نستقل بسلطانها     ونُنهضها في النواحي الأخر"


هنا راوغ شوقي واستعمل تعبير "التتر" وليس "الترك"! ولعل أبرز نقطة في إظهار نبل "جن علي" وروحه الوطنية وحبه لمصر، تمثلت في اعتذاره عن قبول مساعدة الأسطول الروسي، حيث قال:

"أجل سموتُ لملك النيل أطلبه     بهمتي وبإقدامي وأفعالي

لا أستعين على الأهل الغريب ولا   أرمي الذئاب على غابي وأشبالي"


علمًا بأن الواقع التاريخي يخالف شعر شوقي، لأن "جن علي" تواصل بالفعل مع الروس وقدموا له مساعدات رمزية، لكنها لم تكن كافية في صراعه ضد الأتراك، بل إن أبا الذهب عندما شعر بتغلب علي بك عليه، لجأ إلى حيله مبتذلة معلنًا تمسكه بالدين وبسلطان "الخليفة العثماني" ضد "علي بك" الذي استعان بالمسكوفيين الكفرة!

 لقد اجتهد شوقي عبر إشارات كثيرة في إظهار وطنية "جن علي" وحلم الاستقلال، وحبه للخير وإعمار دور العبادة، لكن الشخصية لم تثر التعاطف الدرامي معها، والعرض الذي قدم فشل جماهيريًا.

يرى مندور أنه كما غدر بأساتذته من المماليك، فقد غدر به تلميذه أبو الذهب، وتم القصاص بما لا يثير تعاطف أو سخط الجمهور، إضافة إلى قتامة صورة المماليك عمومًا التي طغى عليها الشر والفساد، من ثم كان من الصعب تمرير شخصية "علي بك" كبطل درامي، أو شعبي.

فلا عجب أن ينتقد مندور شوقي نفسه بأن إحساسه بالشعب المصري وإيمانه به كان محدودًا، مع ذلك لا يجب أن نغفل تضمين المسرحية لإشارات تدين المماليك أكثر من العثمانيين وعلى لسان علي بك نفسه:

"بناء المماليك واهي الأساس   وسلطانهم مضمحل العمد

وضيعتهم بعد طول الإباء   عوى الذئب فيها وصاح الأسد

إذا فسد الخلق في أمة        فقل كل شيء لهم قد فسد"


كلام مندور نفسه عن ظلام حكم المماليك غير دقيق، لأن "جن علي" نفسه عاش تحت سلطة العثمانيين وهم أساس كل الظلام والتدهور، وهم من قسموا السلطة بطريقة تضمن جباية الأموال أولًا، وبقاء المماليك في تناحر دموي، دفع ثمنه المصريون بطبيعة الحال.


مارد الجبل وشيخ العرب

إن صورة علي بك الكبير كانت مشوشة في ذهن شوقي، وخالفت بعض الوقائع المعروفة أهمها أنه طلب بنفسه مساعدة الروس ضد الأتراك على عكس ما قال.

كما مال شوقي لإظهار بطولته لكنه انتقد "المماليك" صراحة أكثر من انتقاد الأتراك، وهذا مفهوم بحكم ارتباطه بالقصر، وبأصوله التركية نفسها، وركز على الصراع الشخصي المتعلق بالكرسي والجارية، أكثر من الطموح السياسي بالاستقلال عن العثمانيين.

هنا لابد من الإشارة إلى أن شعار "مصر للمصريين" قد تبلور ببطء شديد، ولم يظهر بوضوح إلا مع ثورة 1919، أي بعد نحو مائة وخمسين عامًا من اغتيال علي بك، حتى الشخصيات المتمردة على البك، وأبرزها سويلم بن حبيب وهمام الفرشوطي، كانت تلقب بـ "شيخ العرب"، وهو لقب كاف، لفهم طبيعة شخصيتها وانتمائها، كما كان طموحها محدودًا جدًا، لا يُقارن بحلم علي بك بالاستقلال عن الأتراك، وبناء إمبراطورية مصرية.

عقب ثورة 1919 تبلور مفهوم "المصري" وبدأت محاولات قراءة التاريخ من أسفل، من الحكايات الشعبية، وليس مدونات السلطة.

وفي مسلسل "مارد الجبل" 1977، الذي كتبته سنية قراعة والشاعر عبد الرحيم منصور وأخرجه نور الدمرداش، تدور الحبكة حول "أحمد بن شبيب (نور الشريف) الذي يلجأ إلى الجبل عقب قتل أمه وحرق بيته على يد المماليك، ليبدأ رحلة الانتقام، كما يخطف عروسه قبل زواجها من آخر، يقع المسلسل في 15 حلقة، ومن الواضح أنه مستلهم من شخصية الشاعر "ابن عروس" صاحب "المربعات" والذي تضاربت الأقوال حول حقيقة وجوده أساسًا، واستعمل المسلسل بعض مربعاته بالفعل، وظهر بشكل ثانوي جدا "سويلم بن حبيب" و"شيخ العرب همام" كأنهما لصان صغيران تحت رئاسة "ابن شبيب"! رغم أن صورتهما الهزيلة جدًا دراميًا تجافي كل الوقائع.

وبنفس التصور الهزيل "الكاريكاتوري" ظهرت شخصية "علي بك (الممثل أحمد ماهر)" أقرب إلى الكوميديا والبلاهة، فكل ما يشغله تأكيد ولائه للعثمانيين، ومنع أي خروج مسلح على سلطته.

في مسلسل "شيخ العرب همام" 2010، والذي كتبه عبد الرحيم كمال، تحسنت شخصية "جن علي" نسبيًا، فظهر كداهية بالغ الذكاء، نجح في هزيمة "شيخ العرب" بالحيلة، لكنه ظل شخصية ثانوية، مقارنة بسطوة ومركزية "شيخ العرب".

في النماذج الثلاثة: مسرحية شوقي، و"مارد الجبل" و"شيخ العرب همام"، لا يتضح بجلاء مفهوم الهُوية المصرية، ولا مشروع الاستقلال الوطني، كما توجهت سهام النقد القاسية إلى "المماليك" كأصحاب السلطة التي تحتك بالمصريين احتكاكًا مباشرًا، بينما كانت الإشارة إلى الأتراك بالغة النُدرة، رغم أنهم أصحاب السلطة الفعلية.

ورغم أن المصريين، كما ألمح شوقي، كانوا يعانون السلطتين، إلا أنهم لم تربطهم عاطفة دينية قوية مع "المماليك" مقارنة بالعثمانيين الذين تاجروا برمزية "الخلافة الإسلامية" وجعلوا الولاء لهم ولاء عقائديًا، وهو ما استغله أبو الذهب نفسه كي ينفض الناس عن علي بك، عندما أعلن الجهاد على المتحالف مع الروس الكفرة، باسم خليفة المسلمين، هذه العاطفة تكرر استغلالها ضد ثورة عرابي حيث أصدر الأتراك فرمانًا اعتبروه عاصيا لخليفة المسلمين.

ولعل هذا ما قيد شوقي أيضًا في كتابة مسرحيته، وقيد، لا شعوريًا، صناع الدراما، إلى درجة تجاهل الحقيقة البسيطة أن الحكام الرسميين لمصر كانوا العثمانيين، الذين تركوها تعيش طيلة أربعة قرون في ظلام وفقر وفساد، مكتفين بما ينقل إلى خزائنهم من أموال، وما يرسل إلى بلادهم من صناع مهرة، بينما لم يكن المماليك سوى أدوات لهم لتنفيذ ذلك. وإذا كانت محاولة علي بك للاستقلال، لم تنل رد الاعتبار لها تاريخيًا، ولا دراميًا، إلا أنها مهدت وألهمت محمد علي باشا الذي سار على خطاه واستوعب الدرس، وأكمل الباشا ما فشل فيه البك.