رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


العراق وتاريخه العثمانيّ

1-11-2020 | 20:40


استولت الدولة العثمانيّة على العراق في الثلث الأوّل من القرن السادس عشر، وكان ذلك بعد هزيمة الشاه الصفويّ إسماعيل العام 1514م التي مهّدت لأخذ شمال العراق والسيطرة عليه، لم يتم وضع العراق تحت الهيمنة العثمانيّة بشكلٍ مباشر بل مرّت هذه العمليّة بعدّة مراحل، فبعد بسط النفوذ على أرض الجزيرة والموصل استغرقت السيطرة على وسط وجنوب العراق عشرين عامًا بعد معركة جالديران، والتي أعقبها زحف سليمان القانونيّ على رأس جيش كبير نحو بغداد واحتلالها في عام 1534م واكتملت السيطرة العثمانيّة، حين دخل العثمانيّون مدينة البصرة جنوب العراق  في عام 1546م.

امتدت فترة الاستيلاء العثمانيّ على العراق إلى أربعة قرون"1534-1920م" ممثّلةً أطول مدّة لوجود أجنبيّ مختلف عن العراق لغةً وتاريخًا، ولهذا واجه العراق بمدنه الثلاث  الرئيسية "بغداد، والموصل، والبصرة" أحداثًا وأزماتٍ أكّدت تحوّله إلى ساحة لتصفية الصراع من قبل العثمانيين مع الدولة الصفويّة واستثمار موارده الزراعيّة والاقتصادية في دعم متطلّبات هذا الصراع العسكريّ والسياسيّ، مهّد هذا الوضع لحالة سياسيّة في عموم العراق غير مستقرّة نظرًا للعديد من الثورات والتمرّدات التي وُظّفت من طرفي الصراع "الصفويّ– العثمانيّ" من أجل إزاحة أحدهما للآخر، والذي أثّر بشكلٍ مباشر على إدارة المدن العراقية؛ ولهذا تعاقب على مدينة بغداد أكثر من والٍ، ولم يكن يعبأ الوالي إلّا بفرض الضرائب واستعمال القسوة والعنف في تحصيلها، ولذلك عاش العراق فترات اضطراب طويلة كانت سببًا في عدم استقراره.

أمرٌ آخرٌ نتج عن الصراع العثمانيّ – الصفويّ، فبسبب هذا الصراع لم يتمكّن العراق من امتلاك كيانٍ وحدود واضحة تساعده على تحديد معالم وضعه السياسيّ والتاريخيّ، حيث بقى هذا الجانب غير واضح حتى حين عقد اتفاقية قصر شيرين بين العثمانيّين والصفويّين والتي أطلق عليها "زهاب" في عام 1639م، إذ أُلحِق العراقُ على ضوء هذه الاتفاقية بالدولة العثمانيّة بعدما شهدت بغداد حصارًا وحربًا أربعين يومًا، ومنذ استيلاء العثمانيين على بغداد وإحكام سيطرتهم عليها تعزّز الانقسام الاجتماعيّ وتنامت حدّة الاختلاف المذهبيّ.

وعندما نبحث عن الأثر التاريخيّ والاجتماعيّ الذي تركه الاستيلاء العثمانيّ على العراق ومدنه، نجد أنّنا أمام اضطراب عام في أغلب مناحي الحياة، فبعد تقسيمه إلى أربع أيالات هي "بغداد، والموصل، والبصرة، وشهرزور" كرّس ما قام به العثمانيّون من التقسيمات اللغويّة والدينيّة والجغرافية، فلم يعملوا على تغيير طبيعته الاجتماعية التي كان يغلب عليها البداوة وعدم الاستقرار، وأهملوا الريّ وتطوير نظمه التي من شأنها تكوين زراعة مستقرة تسهم في نقل البدو الرحّل إلى مزارعين مستقرّين في أماكن ومدن محدّدة، وحين نراجع مجريات الأحداث التي مرّ بها العراق منذ تحكّم العثمانيين في شؤونه نقف على ثلاث توجّهات سيّرت أحوال الناس نحو مزيدٍ من الاختلال وقلّة الأمان، ويأتي في مقدّمتها الأثر الواسع الذي تركه الصراع مع الصفويين في إيران، وطمع الانكشارية في الحصول على العراق وخيراته، وعمل الحكم العثماني على إعطاء إدارة مدنه للمماليك الجيورجين الذين تعاملوا مع هذه الإدارة كمورد للنفع والاحتكار.

 ربما يفسر هذا لنا قلّة الاهتمام التاريخيّ بالوجود العثمانيّ وتحوّلاته منذ عام 1534م حتى العام 1920م في العراق ونستثني من ذلك ندرة من الباحثين العراقيّين المهتمّين بالتاريخ، ذلك أنّ هذا الوجود لم يكن يحمل جانبًا إيجابيًّا في ذاكرة العراقيين من الذين شهدوه أو سمعوا عنه، ولهذا نلاحظ  قلّة المصادر التي كتبت عمّا أحدثه العثمانيّون بالعراق، إذ تكاد تكون محصورة في بعض الكتب القليلة، ألا وهي: تاريخ العراق بين احتلالين لعبّاس العزاويّ، وأربعة قرون من تاريخ العراق للبريطانيّ ستيفن هيمسلي لونجريج (Stephen Hemsley Longrigg)، وتاريخ العراق في العهد العثمانيّ لعلي شاكر علي، والعراق في العهد العثمانيّ/ دراسة في العلاقات السياسية 1700-1800م لعلاء موسى كاظم نورس.

والمفارقة أنّ ما حدث من صراعات داخل السلطنة العثمانيّة كان له أثره المباشر على العراق بسبب قربه منها، فلقد دفع اضطراب السلطة العثمانيّة في القرن السابع عشر نحو ظهور نزعات الحكم المحليّ في المدن العراقية المعروفة، وهناك نماذج تؤكد ذلك، مع تنامي الوجود الغربي لا سيّما من التجار الإنجليز والهولنديين والبرتغاليين، وقد تناولت هذه المسألة الدراسات التي اهتمت بتلك الفترة، فعلى سبيل المثال في منطقة البصرة قام أفراسياب في عام 1612م بشراء حكم المدينة، وبقيت خاضعة لحكم عائلته حتى عام 1668م، وتظهر الأحداث التي جرت آنذاك أنّ للمال دورًا كبيرًا في الحصول على إدارة وحكم المدن الثلاث "بغداد، والبصرة، والموصل" إذ يتمّ دفع المال للفاعلين في السلطنة العثمانيّة من وزراء لديهم حظوة عند السلطان ولهم تأثيرٌ في تشكيل قراراته، وهذا ما فعله الوالي أحمد باشا حين هيمن على بغداد من 1704– 1724م، فقد كوّن حرسًا من المماليك الجورجيين ليعزّز بهم سلطته ويفرضها على القبائل المنتفضة ضدّ السلطة العثمانيّة كما عمل على إرسال المال إلى خزينة السلطنة، وأسهم نموذج الوالي أحمد باشا في دفع بقية الولاة نحو تدعيم نفوذهم على طرق التجارة ولا سيّما التي كانت تقع في شمال العراق ليتمكّنوا من تأمين موارد مالية إضافية أخرى تساعدهم على دوام حكمهم لتلك المناطق.

 زاد أهالي المدن العراقيّة من تصدّيهم للعثمانيّين بعد انهيار السلطة الصفويّة في إيران في عام 1722م، ولهذا وسّعت السلطة العثمانيّة من نفوذ المماليك لكي يعالجون قيام الأهالي ضدّ وجودها في العراق، واضطرت السلطة لحاجتها لهم بالاعتراف بسلطة المماليك، وهذا ما تحقّق مع الوالي المملوكيّ سليمان أبو ليلى صهر أحمد باشا والذي أصبح أوّل والٍ لبغداد من المماليك، ومنذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر أصبح العراق يُحكم ذاتيًّا من قبل المماليك الجورجيين.

واجه العراقيون السلطة العثمانيّة عن طريق الانفصال عن أحوالها وسلوكها، فلم يتقبّلوا وجودها كما لم يهتمّوا بتعلم اللغة العثمانيّة، الأمر الذي عزّز حالة الابتعاد عنها وعدم الاهتمام بتقلّب أمورها، إذ انحصر تقبّل اللغة العثمانيّة ضمن عوائل نافذة في مدينة الموصل كانت علاقتها وطيدة بالعثمانيين وسلطتهم، ولذلك حينما نعاين الميراث العثمانيّ في العراق نلاحظ أثره في بعض مفردات اللهجة العاميّة التي يتداولها أهالي بغداد والموصل، وهذه المفردات قد تسرّبت من خلال التعامل الذي كان يجري بين الفئات الإداريّة والعسكريّة التي جلبها معهم الولاة العثمانيون وأهالي تلك المدن، وحتى حينما سعى الوالي مدحت باشا (1869- 1872م) بالقيام ببعض الإصلاحات للمساهمة في تحسين أحوال الناس، إلّا أنّ محاولته لم يكتب لها النجاح والديمومة لقِصر مدّة ولايته حيث لم تتجاوز ثلاث سنوات.

تكشف لنا معاينة التاريخ العثماني في العراق أنّه لم يكن يعدو سوى مكان تواجه فيه الدولة العثمانيّة فيه الطرف المناوئ لها المتمثّل في الصفويين، ولهذا وقع العراق تحت دوامة التغيير الدائم لأوضاعه الاجتماعية والسياسية. ويبقى أنّ التاريخ العثمانيّ في العراق لم يُعرف منه سوى ما مرّ به الأهالي من أهوال ومِحن في أثناء الحرب بين العثمانيّين والصفويّين، والتي كانت تجري في مدينة بغداد والموصل، ولذلك غُيّب ما حصل آنذاك من وقائع وأحداث عبّرت عن التاريخ الاجتماعيّ للمدن العراقيّة وسكّانها.

 تراكم هذا التاريخ دون تدوين وتوثيق لأنّ السلطة العثمانية نظرت إلى ما فيه كمصدر يدعم صراعها مع الدول التي اصطدمت بها في الشرق والغرب. خرج العراق من الاستيلاء العثمانيّ منهكًا وقد استُنزِفت أغلب قوّته ليقع بعدها تحت  الاحتلال الأجنبيّ البريطانيّ والذي بدأ نفوذه يمتدّ داخل العراق مع بدايات الربع الأوّل من القرن العشرين.

ربّما علينا أن نتساءل الآن من أين تنبع أهمية الاطلاع وفهم التاريخ العثمانيّ في العراق؟ يمكننا تكوين فهمٍ أدقّ وأحكم عبر الكتب التي تناولت أجزاء من تلك الحقبة التاريخية وقراءتها، وأظنّ أنّ من الأهمية التي يحملها لنا هذا التاريخ تكمن في الحاجة إلى إعادة النظر في تاريخ العراق خارج ما فرضته السلطة العثمانيّة، على أنّه مكان لاستغلال موارده في دعم استيلائها على بلدان أخرى. إنّ إحياء دراسة التاريخ العثمانيّ في العراق سوف يسهم في تكوين الوعيٍ بما جرى ماضيًا، خارج الصور النمطيّة التي تمحورت حول الصراع الصفويّ - العثمانيّ مع تغييب لبقية التاريخ العثمانيّ ولا سيّما في جوانبه الاجتماعيّة والاقتصاديّة.