ما أصعب الخيانة عندما تأتي من المقربين، ما أشد غدر الزمان وقسوة الإنسان على أخيه الإنسان، كم هى مؤلمة صيحات الندم، كم هى قاسية قلوب البشر، هل يستطيع الزمان أن يمحو آثار الظلم ويزيل شروره ؟ هل يستطيع الإنسان أن يسبح عكس التيار بدون أن ينجرف إلى قاع النهر؟ بطل الأحداث ترك حكاية شعبية تمتلئ بالمفارقات المذهلة والمشاعر الإنسانية المتداخلة والآلام التي تنصهر وتتوحد في لحظة إنسانية واحدة عند نهاية الطريق الذي بدأ في معركة مرج دابق التي عكست مدى تردي الأحوال في دولة سلاطين المماليك، ولعبت الخيانة دورها المعهود إلى جانب التشرذم والتنازع، في هزيمة المماليك وسقوط السلطان نفسه شهيدًا تحت سنابك الخيل في ميدان المعركة، واختفت جثة السلطان الشهيد لتترك للمؤرخين مجالا خصبًا للتكهن بمصيره، على حين تركت للصراع بين السلطان الأشرف طومانباي ( آخر سلاطين مصر المملوكية) والعدو العثماني الجديد أن يكتب الصفحات الأخيرة من تاريخ تلك الدولة المملوكية العظيمة التي قطعت رحلة طويلة نسبيا في رحاب الزمان .
رفض طومانباي الخنوع للغازي العثماني سليم خان وقرر أن يموت بشرف في ساحة المعركة.. ومضت القصة كما تمضي قصص الأبطال المأساويين في كل زمان ومكان، كأن التاريخ كان يدخره لمهمة واحدة محددة لم يسمح له بأن يتجاوزها؛ كانت الصفات التي تحلى بها طومانباي كفيلة بأن تجعل منه بطلا تاريخيًا مهما، بيد أنه كان بطلا خارج عصره فقد كانت الدولة التي يقودها قد أُنهكت بالفعل حتى قبل معركة مرج دابق في الشام ومعركة الريدانية على مشارف القاهرة آنذاك (في موضع العباسية حاليًا)، وقد بذل ذلك السلطان البطل الذي قدر له أن يكون آخر سلاطين الدولة المملوكية – خلال سلطنته التي امتدت ثلاثة أشهر فقط – جهودًا مضنية للدفاع عن الدولة، فالبطل الذي ظهر فجأة كالشهاب في سماء مصر انطفأ فجأة كالشهاب أيضًا، ولكن ومضته القصيرة كانت كافية لحرق جموع المتخاذلين من أمراء ومشايخ العرب المسلمين من ناحية، وجموع المعتدين من جند الخائن السفاح العثماني سليم خان من ناحية أخرى.
من يقرأ ما كتبه المؤرخ الشهير " ابن إياس " في كتابه " بدائع الزهور في وقائع الدهور" عن وقائع الغزو العثماني لمصر بعد موقعة مرق دابق (وهى كتابة كانت أشبه بيوميات الحرب الدائرة بين بقايا المماليك بقيادة الأشرف طومان باي وقوات المحتل الغازي العثماني سليم خان) يدرك كم كانت الصدمة عنيفة على المصريين الذين تملكتهم الحيرة وسيطر عليهم الارتباك إزاء الغزو العثماني لدولتهم، كما كانوا مترددين بين الإذعان للمحتل العثماني خشية البطش، وبين الأسى والحزن لكبوة فارسهم وبطلهم الشعبي طومانباي وعلى الدولة التي كانت طوال الشطر الأكبر من تاريخها عنوانًا على المهابة السياسية والعسكرية في الخارج، والأمن والاستقرار الاجتماعي والازدهار الاقتصادي في الداخل؛ وعندما اهتز جسد طومان باي في مشنقة على باب زويلة، لم يكن ذلك مجرد مشهد مأساوي يرمز لنهاية دولة لم يبق من مجدها الغابر سوى ذكريات مجيدة، وظل شاحب، ولكنه كان صرخة مدوية تقول ببساطة : إن البطل التاريخي إنسان، بكل مزايا الإنسان ونقائصه، ولكنه استحق مكانته في قلوب المصريين بفضل إيمانه ووضوح رؤيته ورؤاه، وبفضل شجاعته الأخلاقية وتضحيته في سبيل الدفاع عن مقدسات الوطن، فالتف حوله أهل مصر، وآزروه وساعدوه على المقاومة وانتزاع مكانته على مسرح التاريخ، ولذلك لم تسقط القاهرة ولكن دخلها الساقطون.
لم يخيب طومان باي ظن من ساندوه وآمنوا به، ووقف شامخًا كالمآذن طولا حتى طعنته الخيانة الآثمة التي كانت السوس الذي نخر في عظم المقاومة المصرية، منذ أن اشترى واستمال العثماني سليم خان إلى جانبه بعضا من خان من إخوان السلطان البطل الغوري وبعض نوابه في الشام مثل نائب حلب خاير بك " الذي كان متآمرًا على السلطان الغوري في الباطن مع ابن عثمان"، وكان قبل المعركة يراسل ابن عثمان، ويحرضه على المجيء إلى أخذ مصر"، وأيضًا نائب حماة جان بردي الغزالي الذي انضم مع خاير بك إلى الغزاة العثمانيين، فراسلا سليمًا أثناء المعركة، وطلبا منه الأمان ووثقا به ألا يقتلهما بل يكرمهما وينعم عليهما، فأرسل سليم لهما الأمان وعهد لهما أن يطيب خاطرهما، وأن يعطى خاير بك مصر والغزالي الشام، فقبلا منه ذلك ووافقاه، وقد تخلى الخائنان عن الغوري أثناء المعركة ففر خاير بك بمن معه من ميمنة الجيش، كما فر الغزالي بمن معه من ميسرة الجيش، وبقى الغوري قائد مصر بمن معه من خواص جنده في القلب ولسان حالهم: " إما النصر بشرف أو الاستشهاد ببطولة " ليلقى مصيره المحتوم، وعلى الرغم من انتصار الجيش المصري في بادئ الأمر على جيش الاحتلال العثماني بفضل الشجاعة والفروسية التي اشتهر بها جند مصر حتى أن السلطان سليما هم بالهرب، أو بطلب الأمان بعد أن "قتل من جنوده فوق العشرة آلاف"، وقد رأينا الدور الخطير الذي قام به الخائنان خاير بك والغزالي بعد ذلك عندما اسـتأنف طومان باي المقاومة في غزة، والريدانية وما أعقبهما من معارك، ولكن ظل كل منهما محتقرا في عين سيدهما التركي العثماني الجديد ولمَ لا ؟ فالخائن محتقر حتى في نظر من خان من أجله، ولا يأخذ الخائن ثمن خيانته في يده بل يلقي له استحقارا على الأرض، فما خان أمينٌ قط، إنّما أُؤتمن الخائن فخان، ولو أنه "أمينٌ" ما خان فلقى الغزالي جزاء خيانته، حين قبض الثمن وتولى نيابة الشام مكافأة له على خيانته، ثم بعد وفاة العثماني سليم خان، وفي عهد ابنه سليمان خان خرج عليه الغزالي يريد أن يبتلع الشام وإعلان نفسه سلطانا عليها لكنه لم يقو على هضمها، فأرسل له سيده سليمان جيشًا كثيفًا أوقع الهزيمة بالغزالي الذي قتل في أثناء المعركة.
لم تكن الخيانة إبّان المقاومة المصرية للغزو العثماني وقفا على بعض أمراء المماليك بل تعدتهم إلى بعض العُربان، فهذا الأمير أحمد بن بقر شيخ عربان الشرقية يستجيب لطلب العدو أن يمده بالمؤن لجيشه وينضم إليه، فارتكب أبشع أصناف الخيانة في حق صديقه وصاحب الفضل عليه الأمير شادي بك حينما لجأ إليه بعد القبض على طومان باي، فيطعمه ويؤمنه على نفسه ثم يسلمه للسلطان سليم خان ليطيح برأسه مقابل عرض من أعراض الدنيا الزائل، وأيضًا الأمير حسن بن مرعي شيخ عربان البحيرة الذي لجأ إليه السلطان طومان باي وكان له عليه آياد عظيمة فخان الأمانة ونكث العهد وحنث باليمين وسلمه إلى عدوه، وقد كوفئ حسن بن مرعي على خيانته ولكن القدر لم يمهله كثيرًا، ففي ربيع الأول سنة 925هـ قُتل حسن بن مرعي غيلة أيضًا، فشرب المصريون من دمه، وعندما عُلّق رأسه في القاهرة أقام أصدقاء الشهيد معالم الزينة فكان الجزاء من جنس العمل.
أضف إلى ذلك كان جيش مصر يعتز بالفروسية والكر والفر، وآمن أبناؤه أن الشجاعة والبطولة في النزال والطعن كفيلٌ بتحقيق النصر في المعارك، وها هو الأمير شادي بك يخاطب جنوده في أثناء معارك المقاومة بقوله " أثبتوا فإن القتال ليس بكثرة العدة والعدد، وإنما هو زيادة الصبر والجلد .. ولا يغرنكم كثرتهم .. فإني ما رأيت فيهم فارسًا أعجبني كره وفره .. الشجاعة صبر ساعة ومقاومتكم انتصار". ولكن تفسخ الدولة المنهكة ومواردها المستنزفة وخزانتها الخاوية قبيل الغزو العثماني فساهم في ضعف تسليح الجيش المصري، ومن ثم فقد كانت المعارك الحربية التي خاضتها المقاومة المصرية ضد الغزو العثماني غير متكافئة من ناحية التسليح، وقد أدرك جند مصر ذلك عقب إحدى المعارك فيقررون أن هؤلاء القوم " العثمانيين" قد عرفناهم، وليسوا بأفرس منا ولا أشجع منا حتى نهابهم، وإنما ضرورتنا من هذه النار وهذا البندق والرصاص ومن هذه الضربزانات التي لو رموها على الجبال لأزالوها" قد نتج عن ذلك إخفاق المقاومة حيث لم تكفهم بطولتهم وفروسيتهم وحدها إلا في طول مدة المقاومة التي أشعلت جذوة المقاومة الشعبية بين المصريين وهم يرون بطلهم "السلطان الأشرف طومان باي" الذي تولى زمام الأمور في ظروف عسكرية صعبة، فكثف الجهود لتعبئة جميع إمكانيات مصر المتاحة بعد خسارة معركة مرج دابق فجمع الأموال من القادرين فقط وصنع الأسلحة بنفسه وأعلن التعبئة العامة، حيث نفر إلى القتال أعداد غفيرة من أبناء مصر للاشتراك مع المماليك في الذود عن وطنهم، ودفع طومان باي بهذه القوة للقاء العثمانيين قبل توغلهم في الأراضي المصرية عند غزة ثم رأى أن يخرج على رأس جيش لمباغتة العثمانيين عند الصالحية وهم في شدة الإرهاق من طول السفر وقلة المؤن، وعندما رفض أمراء المماليك هذه الخطة واجه طومان باي الموقف ببسالة فشن حرب العصابات على العثمانيين فأنهك العثمانيين وكبدهم خسائر فادحة في الأرواح، كما أمر بحرق شون المؤن، وأقام التحصينات العسكرية حول صحراء الريدانية من الجبل الأحمر إلى المطرية فحفر الخنادق واشترك بنفسه في حفرها رفعا لمعنوية جنوده، وإن كانت معركة الريدانية التي خسرها المصريون بفعل الخيانة إلا أنها كانت أروع مثال على براعة طومان باي في حشد الجيوش وتجهيز الاستحكامات والتخطيط للمعركة ووضع الأمور في نصابها وعلى فدائيته وبسالته، وحينما أحس بالخيانة رمى بنفسه في كوكبة من أصحابه وخواصه واخترق صفوف العثمانيين قاصدًا سلطانهم سليم، ونجح في قتل من كان في خيمته ظنا منه أنه سليم، فاتضح فيما بعد أنه وزيره، وقد اعترف سليم بنفسه بضخامة الاستعدادات التي أعدها طومان باي في غزة والريدانية، ثم قيادته للمقاومة الشعبية التي انفجرت في جميع أنحاء لقاهرة فزلزلت الأرض من تحت أقدام الغزاة العثمانيين ولم يتمكن العثمانيين من استعادة سيطرتهم على العاصمة إلا بعد أن حشدوا كل قواتهم واستخدموا مدافعهم، فلم يستسلم طومان باي ولكنه انسحب إلى قلب الصعيد النابض لتنظيم المقاومة من جديد، فشهدت معارك أطفيح والجيزة ووردان بسالة هذه المقاومة وفنونها، الأمر الذي جعل سليمًا يفكر أكثر من مرة في الانسحاب من مصر ويصب جام غضبه على خاير بك الذي زين له الزحف على مصر، وفي الوقت الذي استسلم فيه طومان باي بعد هزيمته في موقعة وردان نتيجة الخيانة، وعندما اهتز جسده على باب زويلة بكاه الشعب المصري كما لم يبك سلطانا من قبل لشجاعته وجرأته وتدينه وخلقه وحسن سياسته وعدله الذي عم البلاد على عهده القصير.
ودخل سليم خان القاهرة ومكث بها ثمانية أشهر إلا بضعة أيام، فلم ينصف مظلوما من ظالم في محاكمة بل كان مشغولا بلذاته وسكره وعربدته، ويحيل لوزرائه ما يختارونه، ولم يكن يظهر إلا عند سفك دماء المماليك، وما كان له أمان إذا أعطاه لأحد من الناس، وليس له قول ولا فعل.
وعمد إلى فك رخام قاعات القلعة، وبيوت القاهرة، ومساكن الأمراء المماليك ونقله إلى إسطنبول، وجمع وزراؤه الكتب النفيسة من مدارس القاهرة، وجُمع البنائون والمهندسون، والنجارون والحجارون والمرخمون، وصناع الأسلحة، وأبناء الحرف وسيقوا جميعا إلى الإسكندرية وجرى تسفيرهم إلى إسطنبول، وبطلت بذلك من القاهرة قرابة خمسين صنعة وسارت الصناعة نحو التقهقر.
وفي جمادى الأولى سنة 923هـ أخرج أمير المؤمنين الخليفة المتوكل على الله للسفر إلى إسطنبول وفقدت مصر مركزها الديني إضافة إلى فقدانها مركزها الحضاري والسياسي، وتواترت روايات متأخرة تقول إن آخر الخلفاء العباسيين قد تنازل عن الخلافة إلى سليم خان، وإذا حدث ذلك فإن هذه الوثيقة كانت جديرة بالحفظ والذيوع، ولكن لم يحدث أبداً أن ذُكر مصدرٌ نص هذه الوثيقة، أياً كان الأمر، فالذى حدث اعتقال للخليفة العباسي، ونهاية للخلافة العباسية.
واستمر إلحاق الجور والضرر بالناس حتى خروج سليم خان من القاهرة فجمع عددا كبيرا من السكان وربطهم بالحبال في رقابهم وسيقوا بالضرب على ظهورهم وذلك لسحب المكاحل النحاس ( المدافع) من القلعة ووضعها في المراكب بالنيل لتسفيرها إلى إسطنبول، وخرج من مصر غير مأسوف عليه وبصحبته ألف جمل محمل ما بين ذهب وفضة، عدا عما غنمه من التحف والسلاح والصيني والنحاس المكفت والخيول ومن كل شيء أحسنه، وغنم نهبها وزراؤه وعسكره وأموالا جزيلة.
وكان من الطبيعي أن تدور حول هذا الحدث كتابات المؤرخين، وقصائد الشعراء، وحكايات الرواة، وأمثال العوام، وبينما يعتبر المؤرخ المصري ابن إياس أهم من كتب عما شاهده وعاينه من أحداث تلك السنوات الفارقة في تاريخ المنطقة العربية خاصة، وتاريخ العالم المعروف آنذاك بصفة عامة، في إطار التدوين التاريخي آنذاك، فقد كانت هناك، بطبيعة الحال، روايات أخرى شبه تاريخية محملة بطبقات من القصص الخيالية الشعبية، ويفوح منها أريج الأسطورة، والخيال الخصب الذي يميز الحكي الشعبي.
وفي تقديري أن النص الذي ينسب إلى ابن زنبل الرمال المتوفى سنة 960هـ بعنوان "واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني" يقترب من الحكاية الشعبية، ويحمل صدى الموقف الشعبي من استشهاد بطلهم طومان باي، ويكشف عن ذهنية العامة ومعاناتهم من العثمانيين بأسلوب ابن زنبل الرمال الحكاء الشعبي الإراري، ويصفهم المؤرخ الإسحاقي المنوفي في "أخبار الأول فيمن تصرف في مصر" بقوله: " ويقال إن ... القسوة عشرة أجزاء تسعة فى الترك وواحد فى سائر الناس ..." خاصة وأن الترك تفننوا في أنواع التعذيب بما يتلاءم مع طبيعتهم السادية مثل الخازوق والترسيم والشنق والصلب والخنق والضرب بالكرباج والسلخ، ولجأوا إلى التشهير والتجريس وغيرها.
وعلى قول المؤرخ التركي أوليا چلبى : فمن لم يؤد ما عليه من ضرائب : "فيحبس فى الـ "أرقحانة" ويعذب بأنواع العذاب ويربط بالبكرة فى الديوان ويعلق من يديه ويجرد من ثوبه ثم يجلده الجلادون بسياط من جلد الفيل جلدا "اللهم عافنا" يعلمه من قاساه ..." مما حدا بالشاعر الشعبي المجهول "أبو شادوف" أن يعلو صوته معبرا عما انتاب المصري من ظلم، وما حل به من حرمان على يد الترك، ومظالمهم وكرر عبارات مثل :" مال السلطان" ، و " العونة" ، " الوجبة" ، " نزلة الصراف" ، " مجيء الديوان"، " نزلة الكشاف" تعبيرا عن مدى الرهبة التي تسيطر على الفلاح المصري عند سماعه إحداها فحلول واحدة منها معناه طلب المال والعوائد من الفلاح رغم سوء حاله الاقتصادية، فالابن يفر هاربًا إذا انكسر مال السلطان على أبيه، وإلا أخذ رهينة حتى يغلق أبوه ما عليه من مال وزخرت الأمثال العامية المصرية بما يعبر عن هذا النهب التركي المنظم والمستمر لثروات الأوطان بقوله :" سيف السلطنة طويل" ، " مال السلطان يطلع من بين الضفر واللحم"، " اللي يدوق مرقة السلطان تنحرق شفته"، " نرطن بالتركي فيخافوا منا مشايخ الكفر ولا يبقى لهم علينا كلام".
المؤرخ ابن إياس يصف الوالي الخائن "خاير بك" بقوله : كان جبارا عنيدا عسوفاً سفاكاً للدماء شنق ووسط وخوزق من الناس جماعة كثيرة واقترح لهم أشياء فى عذابهم فكان يخوزقهم من أضلاعهم ويسميه شك الباذنجان ..." والمؤرخ الجبرتى يصف آخر بقوله: "كان ظالما غشوما، ويعرف "بريَّحه" بتشديد الياء وسبب تسميته بذلك أنه كان إذا أراد قتل إنسان ظالم يقول لأحد أعوانه: (خذه وريَّحه) فيأخذه ويقتله" فأضحى المصري كليمونة جافة امتصها بشر شرهون وأيام أكثر شراهة ترتب عليها اهتزاز ثقة الناس بحكم الأتراك الجدد وخلق حالة من الريبة لدى الناس من التعامل معهم ولا تتوانى قريحتهم فى تغذية هذا الشعور بمجموعة من الأمثال مثل: "فر من الترك فرارك من الأجرب"، "جبناك يا سلطة تحمينا حميَّتى النار وكوتينا" في دلالة على وجود شحنات مكتومة من الغضب لدى الناس ضد الترك العثمانيين.
وكانت صورتهم الذهنية تدور حول صفات: الكبر والغرور والصلف من دون مبرر والثقل والتجبر وهي أمور لم يتحملها المصريون، فسخروا منهم في أمثالهم الشعبية، كقولهم: "زي شحات التُرك جعان ويقول مُوش لازم". والمراد أنه مثل السائل التركي يكون جائعاً فإذا أحسنت إليه بطعام غلبت عليه عجرفته المعهودة من احتقار خلق الله على أن يرده ويقول لا يلزم.
وعبر المصريون عن موقفهم من برجماتية الترك في قولهم : "زي التركي المرفوت يصلي على ما يِستَخدِم"، واستخدم المصريون كلمة «غز» في إشارة إلى التُرك، ووردت في أمثال عدة منها المثل المشهور: "آخِرْ خِدمِةْ الغُز عَلقَةْ"، والمقصود إن خدمتهم وأخلصت لهم فإنهم يكافئونك في آخر خدمتك بالضرب والنكران، ويُروى «آخر خدمة الغز سكتر»، وهي كلمة تقال للطرد. وورد بلفظ «آخر خدمة الغز طز» أي، لا شيء. فخدمتهم لا نفع منها، وورد «آخر خدمة الغز علقم» أي مُر.
وطوى التاريخ صفحة الحكم العثماني الصلف، ومضى العثمانيون مثلهم كمثل من سبقهم من الأقوام التي عاشت على أرض أم الدنيا، ثم أصبحت مجرد عبرة وذكرى وقصصا تروى، لمن أراد أن يتذكر أو تنفعه الذكرى، وإن في الذكرى لعبرة لأولي النهى والحجى.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الرؤية التى صاغها أوغلو فى كتابه الصادر عام 2003 عن مجالات السياسة الخارجية التركية وقتما كان أستاذاً للعلاقات الدولية لا تقتصر فقط على إحياء النفوذ العثماني التقليدي بصبغته التاريخية والدينية بقدر ما ترمى إلى البناء على هذا النفوذ حال استعادته وتطويره ليشمل دوائر جديدة واليوم ندرك إلى أيُّ انحطاطٍ شيطانيّ هوى بالإسلام السياسيّ حتى صار سيفُ السلطان العثمانيّ في يمين إمام أردوغان، بدلاً من كتابِ الله؟!