الدراما التركية والحرب بالقوة الناعمة.. مسلسل جديد يجسد زواج الإخوانية والعثمانية الجديدة
الأعمال التاريخية السينمائية أو المتلفزة تلقي قبولا طيبا لدي المشاهدين
في كل مكان، ويمكن إرجاع الأمر إلى ما تحققه تلك الأعمال من متعة وترفيه لدى رواد
السينما أو متابعي التلفزة إلى جانب كونها توفر فرصة سهلة للمعرفة التاريخية يتم
تقديمها للمتلقي دون عناء يذكر من الأخير اللهم سوى تكبد مشقة الذهاب إلى دور
السينما أو تجشم عناء الاسترخاء أمام الشاشة الصغيرة مسلما عقله في ظلمة العرض
الفني لأضواء رسالة يبعث بها صانعو الفيلم تهدف لتشكيل اتجاه مقصود لديه، بيد أن
ما يعيب تلك الأعمال التاريخية أنها قد تدفع بالمشاهد أو المتلقي إلي الاكتفاء بما
يراه ويعتقد أنه الصواب أو الحقيقة التاريخية بأم عينها، وهذا ما يحدث للكثيرين مما
يؤدي إلى ما يعرف بـ"الأمية التاريخية" التي يصعب تصويب ما تركته من أثر
علي مر الزمن، غير أن الأمر مختلف بالنسبة لأولئك الذين يفكرون بطريقة مغايرة، حيث
يعودون إلى مصادر التاريخ بحثا عن الحقيقة في أمهات الكتب، وذلك هو الجانب الإيجابي
للأعمال الفنية المرئية.
وفيما يتعلق بالأفلام والمسلسلات التاريخية التركية، فإننا نلاحظ تحولا
مشهودا في مسيرة ذلك الفن بعد أن تراجعت في نهايات القرن الماضي وبدايات القرن
الحادي والعشرين وخاصة العقد الذي يكاد أن ينصرم؛ وسأقصر حديثي هنا على فيلمين،
الأول الفاتح 1453 والثاني فيلم الملازم العثماني، فمع ظهور الفيلم التركي
الشهير باسم الفاتح 1453 أو محمد الفاتح حدث
تطور في عالم الفن السابع والسينما التاريخية التركية، كذلك في عالم التلفزة وظهر
إلى الوجود الكثير من الأفلام والمسلسلات التاريخية المهمة، ومنها مسلسل "القرن
العثماني" المعروف في الأوساط العربية باسم "حريم السلطان" وكثير
غيره من الأعمال التي قدمت التاريخ التركي بصورة أخرى ومغايرة عن ذي قبل، حيث تضفي
جمالا مصطنعا لمجد يبدو إسلاميا، وإن كان في واقعه سلطوي توسعي، ولا يفوتنا
التنويه أن فيلم محمد الفاتح ليس هو الأول الذي يعرض لقصة فتح القسطنطينية، ففي
عام 1951 قام المخرج أيدين أركون بإخراج فيلم بعنوان "فتح القسطنطينية"،
حقق نجاحا كبيرا دالا على أن الأرضية جاهزة لتمجيد التراث العثماني من جديد بعد
تراجع زمن كمال أتاتورك، وقد لقي المخرج أيدين دعما من حاكم إسنطبول وتلقى الأخير
شكرا من قبل المخرج في بداية الفيلم تقديرا لهذا الدعم، وتكرر الأمر زمن إنتاج فيلم الفاتح عام 2012، حيث
لقي دعم الحزب الحاكم حزب التنمية والعدالة ـ شبيه بالتسمية الإخوانية، ما يؤكد
الترابط والتحالف بينهما، وهو - أي الدعم بالطبع - دعم أكبر، لقد جاء في زمن تكرس
فيه الدولة للعثمانية الجديدة مما يجعلنا نتفق مع ما ذهب إليه الناقد كلاوس كرايزر
من أنه لا يمكن الحديث عن وجود نبذ للتراث العثماني في تركيا الحديثة، وهو ما يبرره الالتفات التركي إلى منطقة الشرق
الأوسط ومحاولة بسط الهيمنة عليها، يساند ذلك الاتجاه نحو تمجيد العثمانية أيضا محاولة
تبييض الوجه والتبرئة من إبادة الأرمن إبّان الحرب العالمية الأولي، سينمائيا أيضا
كما سنعرض.
فيلم الفاتح 1453
كان الصراع المتوارث بين اليونان والفرس قد انتقل إلى الروم والفرس وبشر
القرآن الكريم بانتصار الروم علي الفرس بعد هزيمة تلقاها الروم ليفرح يومئذ
المؤمنون، وإذا كان القرآن قد بشر بذلك، فإن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -
قد تنبأ بفتح القسطنطينية علي يد المسلمين، وهو حدث، بلا شك، عظيم غيّر وجه التاريخ، تم علي يد
السلطان الشاب (21سنة) محمد الفاتح، وهذا الحدث هو ما يعرض له فيلم المخرج
"فاروق آق صوي" القادم من مدينة الرها ومعه حلم إنجازه حتى تمكن من تحقيقه في ظروف مواتية لطموحاته، إن
لم تكن أطماعه، ليعرض في الخامس عشر من فبراير عام2012 م. وقد تكلف العمل ميزانية
عالية مثلت رقما قياسيا في حينه (قرابة 18 مليون دولار)، وأمكن للفيلم أن يجني
أرباحا هائلة فاقت التكاليف بكثير، ويرجع ذلك للدعاية التي رافقت إنتاج الفيلم
وإقبال عشاق العثمانية الجديدة في المدن التركية علي مشاهدته، ودعم حزب العدالة
والتنمية.
بدت قصة الفيلم وكأنها عمل من أعمال المسلسلات التاريخية الدينية، حيث
جزيرة العرب وظهور الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري وحديث الرسول صلي الله عليه وسلم - حول فتح القسطنطينية,
لينتقل المشهد إلى محمد الفاتح (دي فريم آفين) وهو ممثل أكبر من عمر الفاتح في
حينه، كان يبارز أحد الفرسان في تدريبه
المعتاد ويليه تولي محمد السلطة مع قادة حوله يخشون طموحاته، يؤصل الفيلم لهذه
الطموحات منذ زمن الجد الأكبر عثمان الذي يجيء في مشهد الحلم ويلزم محمد بفتح
القسطنطينية (الفاتح 1453، 20:21) وهو مشهد شكسبيري غربي قريب من الكوميديا، ويبعد
الفيلم تدريجيا عن الحقيقة التاريخية، بل ويصير غير آبه لها مقابل تقديم ما يراه إبداعا
دراميا، فلم يراع ترتيب الأحداث التاريخية رغم إعلان المخرج أنه استعان بعلماء في
التاريخ وكان لديه أكثر من مصدر تاريخي سجل الحدث، منها علي سبيل المثال لا الحصر،
مذكرات نيقولو باربارو عن يوميات الحصار للمدينة، ولم يبرز عبقرية الفاتح في صعوبة
تخطي سفنه لعقبة السلاسل التي تسد المدخل إلى المدينة بحرا ونقله إياها برًا، ثم إنزالها
أمام القسطنطينية في ظل حماية مدافع عملاقة سبكت علي يد المجري أربان، واكتفي
المخرج بقصة حب بدت تقليدية ومكررة وإن كانت تعجب المشاهد البسيط دارت بين ابنة أربان
بالتبني إيرا (ديلك سيربست)، والفارس حسن أولوباتلي (إبراهيم
شيليكول)، أحد قادة العثمانيين, وكأننا أمام لويزا وعيسى العوام في فيلم "الناصر صلاح الدين"، للراحل يوسف
شاهين.
لم يغفل المخرج الجانب البيزنطي الذي كان يعاني قائده الإمبراطور قسطنطين
الحادي عشر من انحسار الدعم الغربي عنه والمشروط من قبل البابوية بقبول المذهب
الكاثوليكي بدلا من الأرثوذكسي في الكنيسة البيزنطية، وهو ما رفضه رجال الدين في
بيزنطة، صور الفيلم الإمبراطور بعكس ما كان عليه من إصرار في الدفاع عن المدينة
كما تذكر المصادر التاريخية وبدا كرجل
ماجن لا كمقاتل دافع بشراسة عن إمبراطورية متهالكة تآكلت عبر الزمن علي يد
العثمانيين أنفسهم وتضاءلت حتى صارت مدينة تحيطها أسوار حصينة أخرت سقوطها زمنا
كان حتميا أن تنهار بعده أمام مدفع غير مسبوق يحدث تدريجيا، انهيارات في جوانب
السور، وكلما سدت ثغرة انهارت أخرى. وقد عاب المؤرخون على الفيلم إهمال مخرجه
للحقيقة التاريخية على حساب الدراما من أجل تحقيق الربح المادي، ومنهم المؤرخ
التركي المعروف يلماظ كورت، بينما أعجب به أيما إعجاب مؤرخ عربي كعادته في الإعجاب
بكل ما هو عثماني، وهاجم بشدة عملا عربيا
أحدث حالة من الجدل الفكري الإيجابي في مواجهة المسلسلات التركية ألا وهو مسلسل "ممالك النار" الدال علي فطنة
صناع المسلسلات العربية ودورهم في التصدي للأعمال الدرامية التركية وللخطر الناعم
الذي قد يتسرب إلى عقلية المشاهد البسيط.
وفي تحليلنا الأخير لعمل المخرج،
يمكننا القول إنه أراد استعراض قدراته وإمكاناته الفنية في تقديم المعارك الحربية والتي
أدارها باحترافية كبيرة جعلته يقارن نفسه بمخرجي هوليوود، تلك المعارك التي أخذت
حيزا كبيرا من زمن الفيلم لنرى ونسمع صهيل الخيول وقعقعة السيوف، ورهبة الحرب والدماء تسيل لبعث مزيد من الهلع في أعماق
المشاهد من قبل أبطال العثماني رجل أوروبا المريض، لقد انتهى ذلك الزمن وساعة
التاريخ لا تعرف عقاربها العودة للخلف، وربما أعجب الفيلم العثمانيين الجدد فراحوا
يقلدون أبطاله في نواديهم.
أيا ما كان الأمر بخصوص فيلم الفاتح 1453 سواء فيما حققه أو لم يحققه، فإن
التأثير الذي تركه على الساحة الفنية التركية أفضى إلى ظهور المزيد من الأعمال
الدرامية التاريخية والتي تصب في صالح العثمانية الجديدة وتكرس لها, للمزيد من تغيير
الصورة ولعودة الزعامة الروحية على العالم الإسلامي إلى السادة الجدد، حسب ما يبدو
عليه الدور التركي في أماكن عدة من المنطقة وما يمثله من رغبة عارمة في الزعامة
المفقودة, وهنا يأتي دور المؤرخ للتصدي والمواجهة القائمة على المعرفة التاريخية
الحقة والتي تفند الأمور بلا تعصب، بل واللعب على نفس الاتجاه التركي بتقديم مزيد
من الأعمال الدرامية الهادفة.
*فيلم الملازم العثماني
هو فيلم دعائي آخر، لكنه يخدم اتجاها مغايرا، حيث تسعى تركيا من خلاله إلى
تحسين صورتها أمام المجتمع الدولي وخاصة فيما يتعلق بما عرف بإبادة الأرمن خلال انشغال
العالم بالحرب العالمية الأولى، وربما عاقت هذه الحادثة دخول تركيا في منظومة
الاتحاد الأوربي وفشلت كل محاولاتها في هذا الصدد، ولعل ذلك ما دفعها للعودة
والالتفات إلى الشرق ملفوظة من دول الغرب بسبب جرائمها ضد الإنسانية تجاه السكان
الأرمن, قدمت السينما التركية فيلما يعالج تلك القضية كنوع من التطهير وغسل الأيدي
مما اقترفته في حق الرعايا الأرمن داخل أراضيها، وهو فيلم "الملازم
العثماني" وبطبيعة الحال فإن الفيلم ليس الأول في تناول تلك القضية من قبل
الأتراك وقولهم إن الأرمن يزعمون بغير الحق.
فيلم الملازم العثماني أنتج عام 2017، وهو إنتاج مشترك بين تركيا والولايات
المتحدة، وبالتالي ضم ممثلين من الجانبين، وتدور أحداثه عام 1914 قبيل الحرب العالمية
الأولى مباشرة، والشخصية المحورية في الفيلم هي الممرضة الأمريكية الشابة ليلي
التي تتجه إلى الأناضول للالتحاق بمستشفى تبشيري، وتبحث هناك عن أصدقاء جدد
يتقبلون شخصيتها الطموحة، وكان يرافقها في رحتلها إلى المنطقة التي تنتوي الذهاب
إليها في "وان" الملازم إسماعيل، الملازم في الجيش الإمبراطوري العثماني،
وتدور بينهما قصة حب، والفيلم يحاول أن يحسن صورة الجيش العثماني في مواجهة الأرمن
فيما يخص إبادتهم المقصودة بأن الأمر لم يكن مرتبا وهو هنا يتبنى الرواية الرسمية
التركية وأن هناك حملة ليس مقصودا بها الإبادة وإنما الأمن.
لقد كانت حملة مدبرة بالكامل وتعرف الإبادة الأرمنية كذلك بـ"الهولوكوست
الأرمني", دارت أحداثها على أرض الإمبراطورية العثمانية فيما بين 1914 و1923
جريمة شنعاء راح ضحيتها عدد كبير من الأرمن، وليس لدينا رقم دقيق لعدد الضحايا،
إلا أنه يفوق المليون نسمة، تلك جريمة تعلقت دماؤها بأيدي العثمانيين سواء
الإمبراطوريين أم الجدد، وفي تصوري المتواضع أن هذا الفيلم جاء ردا على فيلم الوعد
الذي يدين الأتراك في جرائم الإبادة بحق الأرمن.
مما تقدم نخلص إلى القول إن العقد الثاني من هذا القرن قد شهد تحولا في
صناعة السينما والمسلسلات التركية أُستغلت بما تمثله من قوة ناعمة لها تأثيرها في
خدمة الدعاية للعثمانيين الجدد، وتم ذلك وفق تخطيط دقيق وعمل ممنهج من أجل العودة
إلى منطقة المتوسط والوطن العربي الكبير بعد الفشل الكبير في قبولها ضمن الاتحاد
الأوربي، وكانت بدايات التحول والزخم، فيلم الفاتح وما تلاه من أفلام وظهور العديد
من المسلسلات التي يحتاج حصرها لمزيد من الصفحات، لقد بدا العقد الحالي وكأنه عقد
العثمانية الأمر الذي دفع بالناقد السينمائي دان بلفسكي إلى القول " وكأن
الحقبة العثمانية لم تنتهِ".
لذا يستلزم الأمر مزيدا من الحذر والوعي ويتفق مع دعوتي والأساتذة الأجلاء
من المؤرخين إلى ضرورة تناول تلك الأعمال وتقييمها تاريخيا بحذر، فالدراما التركية
الحالية حرب جديدة تشنها تركيا، الحرب بالقوة الناعمة: الثقافة والفكر الموجهان
أيديولوجيا حول نصب شباك التبعية على عالمنا العربي الكبير، مسلسل جديد يجسد زواج
الإخوانية والعثمانية الجديدة عن سيرة السلطان عبد الحميد، مكمن الخطر فى غياب الاحترافية، وقصور الوعي بالتاريخ،
وجمود حركة الكتابة التاريخية العربية وتخلفها عن تطوير أدواتها ومساراتها الفكرية،
ما يمهد للترويج بسهولة ويسر للميديا التركية التى باتت تحترف منذ عقد تقريبا
صناعة تاريخ أسطوري، يخدم الأيديولوجية التركية ومشروعها العثماني البغيض، وهنا
يتعين على المؤرخين العرب فى كل موقع كشف ذلك البهتان وفضح أبعاده الأيديولوجية،
وتعرية الجانب الأسطورى والخرافي الذي لا يمت للواقع التاريخي العربي والعثماني
بصلة عبر كشف الحقائق وإطلاقها من عقالها ونشرها، فهل يتنبه مؤرخونا لهذه الحرب
الجديدة ذات الطابع الثقافي البرجماتي الذي يوجه التاريخ فى خدمة مشروعات هيمنة
تُحاك ضدنا من أجل إحكام السيطرة على عالمنا العربي الكبير؟!!