رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


هل أسس حكم الأستانة لنكبة فلسطين ؟

1-11-2020 | 20:53


بعد عشرة أشهرٍ فقط من إعلان قيام دولة إسرائيل اعترفت تركيا الحديثة (الوريث الشرعيّ للدولة العليا) بإسرائيل دون الاعتبار لقانونية هذا الإعلان من عدمه لتكون بذلك أول دولة إسلامية تعترف بها، لكنّه أتى مُرتَكِزاً على طبيعة العلاقة بين اليهود والإمبراطورية العثمانية التي احتضنتهم منذ عهد السلطان محمد الفاتح. عاش اليهود في جماعات عرقية مختلفة ضمن المقاطعات التي تبعت للإمبراطورية العثمانية ففي إسطنبول وحدها مثلاً تواجد أكثر من ثلاثين جماعة يهودية لها معابدها وحاخاماتها ومحاكمها الخاصة لكنها لم تحتكم لقرار مركزي واحد حيث الاختلافات العرقية لم تحقق الانسجام فيما بينهم، إلى أن جاء الجيل الثالث لليهود المهاجرين الذي بدأ بصياغة تجربته الجديدة فلم يعودوا مهتمين ببلدانهم الأصلية بل سخروا انتمائهم وولائهم للدولة العثمانية التي احتضنهم لدرجة أنهم قدموا العون أثناء الفتح الإسلامي لآسيا الصغرى للقوات العثمانية.  وصولاً لعهد السلطان عبد الحميد الذي منح اليهود الحقوق الكاملة في الدولة مثلهم مثل أي فرد يتبع للإمبراطورية فمارسوا حياتهم وحرياتهم كمواطنين أتراك وشغلوا مناصباً متقدمة فيها كتلك في البرلمان العثماني. لقد اعتَبر اليهود الإمبراطورية العثمانية ملاذهم الآمن وانخرطوا بكافة المناحي السياسية والعسكرية والدبلوماسية وعملوا في مجالاتٍ متعددة كالقانونية والصحية والصحفية والخيرية. 


بعد سيطرة الإمبراطورية العثمانية على فلسطين منذ العام 1516 لأربعة قرون فور هزيمة المماليك تم تمكين الوجود اليهودي في فلسطين بمنتصف القرن التاسع عشر تحديداً عبر تسهيل التدفق اليهودي لها تحت ذرائع عديدة وبالتعاون مع بريطانيا عبر رئيس وزرائها بالمرستون آنذاك. كان الثري الإنجليزي اليهودي موسى مونتفيوري هو أول مَن استثمر التسهيلات التي قدمتها الإمبراطورية العثمانية لليهود كالفرمان الذي أصدره السلطان عبد المجيد عام 1854 ليمنح اليهود ما يشبه الحكم الذاتي في فلسطين ومكّنَ (مونتفيوري) من شراء أراض في فلسطين تحت بند الاستثمار لكنه حقيقةً كان الغطاء للبدء في  توطين اليهود، فأقام أول حي يهودي في القدس واستمر في إنشاء المستوطنات والأحياء وسلسلة بنوك ليرتفع تعداد اليهود في فلسطين من بضعة آلاف فقط إلى أن وصل لعشرات الآلاف في نهاية العهد العثماني.

  

عبر التتبع التاريخي لكافة السياسات التي انتهجها سلاطين الباب العالي بخصوص الوجود اليهودي في فلسطين لن نجد موقفاً واحداً يُظهر رفضهم الفعلي للهجرات اليهودية إليها، بل صبوا جُلَّ تركيزهم وسخّروا إمكاناتهم لقمع الحركات الاحتجاجية والثورات في بلاد الشام ومصر وغيرها التي انتفضت ضد الاحتلال العثماني، وما حرصهم على التخلص من الظاهر عمر الزيداني إلا خير دليل على مواقفهم تلك إذ أنه استطاع التأسيس لأول حكم ذاتي في فلسطين من خلال اتخاذه سياسات عديدة كتقوية الاقتصاد وتخفيف الضرائب التي فرضها الاحتلال العثماني على الفلاحين والاهتمام بأحوال الناس، قُتِل الظاهر عمر على يد أحمد باشا الجزار وبهذه المنهجية استطاع العثمانيون القضاء على كل محاولة سعت للتحرر من حكم الأستانة. بالمقابل سنلمس اهتمام السلاطين العثمانيين اللافت الذي خصّ اليهود كالموقف الذي أبداه السلطان سليمان القانوني تجاه وجودهم  في مدينة القدس ومستوى الأمان والطمأنينة الذي حظوا به لدرجة أنهم شبهوه بالنبي موسى.  أتت معظم الروايات التاريخية لتربط اهتمام اليهود بفلسطين ببدايات تكون الحركة الصهيونية تحديداً منذ مؤتمر بازل الذي انعقد عام 1897، إلا أنه افتتح أول قنصلية بريطانية بظل الحكم العثماني عام 1838 في القدس هو الذي مهدّ فعلياً للوجود اليهودي فمن خلالها تم  تدشين مشاريع التوطين والتأسيس للاهتمام الأوروبي باليهود وأفضى لافتتاح قنصليات غربية في المدينة التي أدت ذات المهمة ألا وهي تهويد فلسطين.  


وبعيداً عن المنهجيّات التي اتبعها اليهود لتأسيس وجودهم في فلسطين وبدعم الغرب لهم؛ ومجمل المبررات التي دفعت بحكام الأستانة منحهم الفرص لتحقيق أهدافهم الاستيطانية نجد أن لغة الأرقام تشير للدور الذي لعبته الإمبراطورية العثمانية في تمكين الحركة الصهيونية من الاستيلاء على فلسطين عبر قانون الملكية الذي منح اليهود الأفراد (مواطني الدولة العثمانية) حق التملك والعمل والإقامة في المناطق التي تخضع لسيطرتها، ففي عام 1860 استغلّ البارون روتشيلد النظام العثماني لحيازة الأراضي في فلسطين فاستأجر (2600) دونماً لمدة تسعة وتسعين عاماً أقيمت عليها مدرسة زراعية هدفت لتدريب اليهود المهاجرين على الزراعة و (مكفا إسرائيل) التي تأسست عام 1870 كمستوطنة زراعية أيضاً، وتشير الإحصائيات إلى أن عدد المستوطنات في العهد العثماني حتى العام 1914وصل في أقل تقديرٍ إلى (47) مستوطنة رئيسية بدت كالمدن المستقلة ضمت المدارس والمستشفيات والمصانع والبنوك. لقد شهدت فلسطين الموجة الأولى والثانية للهجرات اليهودية الرئيسية بين الأعوام (1882-1918) وبلغ عدد القادمين إليها ما لا يقل عن (70) ألف يهودي ، أي أنها تمت في عهد السلطان عبد الحميد الذي استقبل هرتزل (رئيس الوكالة اليهودية) ست مرات. لقد اعتُبرت تلك الموجات أساساً لحركة الاستيطان ولمزاعم الحركة الصهيونية التي اعتبرت أن فلسطين هي أرض الميعاد فانتهجت الاستيطان الكولونيالي الذي يعتمد سلب الأرض وطرد أصحابها منها بشتى الأساليب لتحقيق مزاعمها.


أما إن أردنا البحث في حال مدن الفلسطينيين في تلك الحقبة سنجد أنها لا تختلف عن أحوال باقي سكان المدن التي تتبع للإمبراطورية العثمانية والتي سماها البعض بالمدن (البروفنسالية) التي اتّسمت بالبيئة الاجتماعية والثقافية الريفية ذات الإنتاج الزراعي الجيد والنشاط الصناعي (الحرفي) والتجاري، إلا أنهم عملوا في المجال الزراعي بظل ظروف قاسية جداً سيّما وأنهم عانوا سياسات الضرائب المتعنتة التي أرهقت كاهل الفلاحين. وعمّق العثمانيون من الشرخ الاجتماعي في فلسطين من خلال اتباع سياسة تعزيز نفوذ بعض العائلات على حساب باقي السكان وتأجيج النزاعات فيما بينهم، وفي أحيانٍ أخرى تخلصت من الزعامات المحلية التي ظهرت لدى بعض العائلات في فلسطين خشية أن تتحرر من حكمهم.   كما عانى الفلسطينيون من أعلى مستويات الأمية على الإطلاق حيث تدنت نوعية التعليم ومستواه في عهد الحكم العثماني فعدد المدارس الضئيل مقارنةً بعدد السكان والتي عانت أساساً من الفساد الإداري والمالي ليتحول عدد كبير منها إلى دور سكن خاصة، وتم اعتماد رجال الدين كمرجعيات تعليمية انحصر دورها في إمامة الناس وتعليم الأديان، ولم تُدرس العربية إلا في مدارس خاصة إذ كانت التركية هي اللغة الرسمية حتى عام 1910.


ونتيجةً لِما تقدم نُدرك بأن الواقع الذي أنتجه الحكم العثماني في فلسطين من مستوى تعليم متردي ووضع اقتصادي ضعيف ونسيج اجتماعي هش التكوين لم يُمكّن شعبها آنذاك من بناء ثقافتهم الوطنية أو امتلاك المقومات التي تمنحهم المقدرة للتصدي لمجمل تلك القوى التي سيطرت على مصائرهم في مقابل القدرات والإمكانيات التي امتلكها اليهود للاستيلاء على أرضهم. ليأتي الانتداب البريطاني الذي وجد المناخ مهيئاً لتنفيذ مشاريعه الرامية لتوطين اليهود؛ تنبه الفلسطينيون لذلك فانتفضوا ضد سياسات الإنجليز التهويدية واندلعت الاحتجاجات العارمة طوال فترة الانتداب التي تجلت بثورة البراق والثورة الكبرى إلا أن إعلان ما سُميّ بـ (وعد بلفور) كان قد أسس لقيام دولة إسرائيل ونكبة الفلسطينيين؛ دولة آخر احتلال في العالم الذي لا زال يُمارس سياساته الاستعمارية الاستيطانية العنصرية ويرتكب الجرائم ضد الشعب الفلسطيني إلى يومنا هذا.