رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الاحتلال العثماني لمصر من منظور شعبي

1-11-2020 | 20:59


عند التطرق لفترة الحكم العثماني لمصر دائمًا ما يثور الجدل حول ما إذا كان "فتحًا" أم "احتلال".. وكثيرًا ما يردد بعض المؤيدين لوصف الفتح بالقول إن "مصر يحكمها غرباء وافدون عليها منذ عصر البطالمة ففيمَ إذن يختلف العثمانيون لنميز حكمهم بالذات بصفة الاحتلال؟"

الواقع أن هذا السؤال الاستنكاري ينم عن عدم فهم لطبيعة مصر كمجتمع "مستوعب" لا يربط الانتماء له بالأصل المصري بقدر ما يجعل معياره مدى صدق رغبة الوافد على مصر في ربط نفسه بها وبحياة شعبها، أو ما يمكن وصفه بـ "التَمَصُر"، فضلًا عن مجانبته- السؤال - للدقة التاريخية، فالدولة المصرية القديمة قد حكمتها في بعض الفترات أسرات غير مصرية الأصول كالهكسوس الذين حكموا مصر السفلى أو الأسرتان الكوشية (النوبية) أو الأمازيغية (الليبية)، ومع ذلك فإنهم يعدون بين الأسرات المصرية القديمة الحاكمة

                                                 ***

ثمة من يستغربون استقبال المصريين للإسكندر المقدوني بالترحاب رغم كونه غازيا أجنبيا مثله كمثل المحتل الفارسي الذي طرده الإسكندر لتوه.. ولكن ثمة فارق في السلوك تجاه المصريين بين الفُرس والإغريق. 

فالمحتل الفارسي تعمد الإساءة لمقدسات المصريين والتعالي عليهم ومعاملتهم كمجرد عبيد خاضعين.. بينما كان الإسكندر حريصًا في كل قُطر يدخله أن يُظهر الاحترام لثقافته ونمط الحياة به، إلى حد دعوته رجاله لارتداء ملابسه وتقليد أهله في سلوكهم.. وهو ما كان منه في مصر خاصة في زيارته لمعبد الإله آمون بواحة سيوة وتقديمه الاحترام له، الأمر الذي دفع كهنة المعبد لإعلان الإسكندر ابنًا لآمون، أي أنهم قد قاموا بما يمكن وصفه بــ "التجنيس" بلغة عصرنا الحالي.. وعندما ورث بطليموس سوتر حكم مصر مؤسسًا لأسرة البطالمة تقبلهم المصريون بحكم أنهم قد ساروا على سيرة الإسكندر في تبني واعتماد "البروتوكول" الملكي المصري القديم كأنهم مجرد امتداد للملوك المصريين القدماء السابقين للاحتلال الفارسي.

وحتى ثورات المصريين ضد بعض حكام البطالمة لم تكن "ثورة ضد محتل" وإنما كانت "ثورة ضد حاكم فاسد أو ظالم".

هنا يبدو المعيار المصري لتقبُل الحاكم الوافد أو رفضه وتصنيف الحكم بين "الفتح" أو "الاحتلال" بسيطًا وواضحًا: رغبة هذا الوافد في التَمَصُر وربط تاريخه بمصر وأهلها واحترام ثقافتهم وتقاليدهم ومقدساتهم.. وهو معيار منطقي لشعب شهد تاريخه القديم كثيرًا من حالات استقبال الوافدين والتعايش معهم سواء من الشعوب السامية أو شعوب البحر المتوسط أو غيرها.

                                               ***

بنفس المعيار تعامل المصريون مع الحكم الروماني ثم خَلفه البيزنطي باعتبار أنه "احتلال"، وهو ما يفسر تكرار الثورات المصرية في العصر الروماني وأنها لم تكن مجرد "ثورات لتحسين أوضاع" بل كانت ثورات رامية لإنهاء الوجود الروماني كثورة الرعاة بقيادة الكاهن إيزيدورس الذي كاد أن يحرر الإسكندرية أو ثورة السكندري "فيرموس"ضد المحتل الروماني وسعيه للتعاون مع زنوبيا ملكة تَدمُر لطرد الرومان.. وكذلك بدت النظرة للحكم البيزنطي باعتباره "احتلال أجنبي"في إصرار الكنيسة القبطية على استقلاليتها في مواجهة المذهب الملكاني البيزنطي ومحاربة الأقباط بشراسة لتأكيد هذا الاستقلال.

وبانتهاء العصرين الروماني والبيزنطي ودخول العرب مصر نعود للجدل حول الفتح والاحتلال، وهو جدل تحسمه-في رأيي-حقيقة بسيطة هي أن جيشًا لا يزيد في أقصى التقديرات على 12000 مقاتل بتسليح بسيط ومسافة تفصلهم عن عاصمة دولتهم- المدينة- في أرض غريبة عليهم جغرافيًا وطبوغرافيًا ومناخيًا، لم يكن لهذا الجيش أن يؤسس لحكم عربي مستقر في مصر بغير رضا المصريين والتوافق معهم.. فليس من المعقول أن يبدي المصريون هذا الاستبسال في وجه الإمبراطوريتين الرومانية ثم البيزنطية ثم يخضعون بسهولة للغازي العربي على قلة عدد جنده وضعف تسليحهم إلا لو كانوا- المصريون- متقبلين هذا الحكم. 

وثمة مسألة أخرى ساعدت في استقرار الأمر للعرب هو أن من انتقلوا منهم لمصر قد "تمصروا" فحتى كتابات المؤرخين المسلمين تصفهم بعد عقود قليلة بـ "المصريين" (راجع تسميتهم بذلك خلال فترة الفتنة الكبرى)، والمؤرخون الذين رصدوا حركات الهجرة من قلب الجزيرة العربية للشام ومصر- كدكتور جواد علي مثلًا- يصنفون الحالة المعروفة باسم "الفتوحات العربية" كآخر حركات الهجرة تلك. 

وعودة لحالات الثورات في العصر العربي، فإننا من ناحية نلاحظ أنها كانت ثورات ضد والٍ ظالم أو متعسف بغرض رفع هذا الظلم وليست ثورة ضد الوجود العربي كله، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد كانت هذه الثورات "مصرية" قوامها العنصران العربي والقبطي (ومنها ثورة البشامرة التي يزعم البعض أنها ثورة قبطية خالصة ضد الحكم العربي كله).

إذن فالمصريون لم ينظروا للحكم العربي باعتباره "احتلالًا أجنبيًا".. بل إنهم قد "استوعبوا" هؤلاء الوافدين عليهم فتمصر العرب واستعرب المصريون.

                                            ***

مع تولي أحمد بن طولون حكمها من قِبَل العثمانيين عادت مصر إلى الاستقلالية لأول مرة منذ بداية الاحتلال الروماني.. فبعد أن كانت تُحكَم من روما أو القسطنطينية أو المدينة أو دمشق أو بغداد صارت إدارتها من عاصمتها الطولونية "القطائع".. صحيح أنها بقيت "رسميًا" تابعة للدولة العباسية ولكن لم يزد ذلك عمليًا عن ذكر اسم الخليفة في الخطبة وإرسال بعض الأموال له.. وتعلق المصريون بابن طولون إلى حد أنه في مرض موته خرج الناس إلى جبل المقطم- اليهود بتوراتهم والمسيحيون بإنجيلهم والمسلمون بقرآنهم-يدعون له بالشفاء،  وحتى بعد وفاته بقرون حاضرًا في الوجدان الجمعي باعتباره "حاكمًا مصريًا" رغم أصله التركي ورغم سرعة اندثار دولته من بعده، إلى حد كتابة بعضهم سيرة تاريخية عنه أو خلق الأساطير حول موقع بنائه مسجده الشهير.

                                                       ***

عند اقتراب الجيش الفاطمي بقيادة جوهر الصقلي من الفسطاط العاصمة، خرج له وفد من "وجوه المصريين" به القضاة والوزراء والعلماء والتجار والفقهاء والشهود، يقدمون الطاعة ويطلبون الأمان للناس، الطلب الذي استقبله جوهر بإعطائه الأمان للمصريين.

وعندما بدأ جوهر في تأسيس العاصمة الفاطمية "القاهرة"، كان يعلن ضمنيًا أن الخلفاء الفاطميين الذين ينتسبون أصلًا لجزيرة العرب، وتأسيسًا للمغرب وشمالي أفريقيا، قد قرروا اتخاذ مصر قاعدة لملكهم وبالتالي فإنهم قد انضموا لـ"المتمصرين من الحُكام".

وبالفعل نجد في كتب المؤرخين المسلمين ذكر الفاطميين وجندهم ورجالهم بــ "المصريين"حتى وإن كان رجال النظام الفاطمي في معزل عن عامة المصريين لكون "القاهرة" مدينة ملكية لا يسكنها سوى الأسرة الحاكمة ورجال الدولة - بينما يسكن الناس الفسطاط- أو لاستيحاش قطاع كبير من أهل مصر من الممارسات المذهبية "الحادة" لبعض الخلفاء- وعلى رأسهم الحاكم بأمر الله-أو لدخول الدولة مرحلة الفوضى السياسية والكوارث المعيشية والأمنية منذ عهد المستنصر ومرحلة "سيطرة وتصارع وخيانات الوزراء" وصولًا إلى نهاية الحكم الفاطمي.. ولكن مما يُحسَب لدولة الفاطميين توسعها في "المساواة الدينية" بين فئات المصريين، خاصة فيما يتعلق بتولي المناصب الكبرى في الدولة، اللهم إلا في عهد الحاكم بأمر الله الذي كان لا يؤمن جانبه من اهل أي مذهب أو دين، سواء كانوا من العامة أو من الخاصة.

والملاحَظ أن ثورات المصريين في العصر الفاطمي لم تكن ضد الحكم الفاطمي نفسه وإنما كانت ضد بعض الممارسات المستفزة للشعور الديني كالذي نُسِبَ للحاكم بأمر الله من ادعاء للألوهية أو كفترة الشدة المستنصرية التي عصفت بالمصريين

                                                            ***

من أهم الرموز الراسخة في الوجدان الجمعي للمصريين الجندي الكردي يوسف بن أيوب المعروف بصلاح الدين الأيوبي.

كانت بداية استقبال المصريين لآل أيوب احتكاكهم بعمه أسد الدين شيركوه الذي بذل أكثر من محاولة لغزو مصر وضمها للدولة الزنكية.. ورغم ارتباط مجيء هذا الرجل بفترات عصيبة من حياة المصريين بلغت فيها الفوضى الداخلية ومؤامرات رجال القصر والتهديدات الخارجية ذروتها، إلا أنهم قد أحبوا ذلك الجندي المرح صاحب الهمة العالية.. وبعد وفاة شيركوه وتولي صلاح الدين الوزارة سارع باتخاذ الاجراءات المختلفة للتقرب من المصريين من رفع للضرائب أو إنشاء مدارس للمذاهب السُنية أو توزيع للأموال والعطايا.. فضلًا عمّا أبداه من استبسال في الدفاع عن مصر ضد غزوات أعدائها من الفرنجة والبيزنطيين برًا-عبر الحدود الشرقية-أو بحرًا-في الإسكندرية ودمياط-مما غرس له في أذهانهم صورة "المنقذ" أو "المُخَلِص".. صحيح أن بداية حكمه قد شهدت بعض المؤامرات أو الانتفاضات لإسقاطه ولكنها كانت-تدبيرًا تنفيذًا-من بعض فلول الفاطميين الناقمين عليه لإزالته دولتهم- كمؤتمن الخلافة أو عمارة اليمني- أو بعض من أضيروا بإجراءاته لتوزيع الإقطاعات-ككنز الدولة في الجنوب.. ورغم أن صلاح الدين في مرحلة ما قد غادر مصر ولم يرجع لها أبدًا ونقل مركز حكمه إلى الشام، إلا أن ما تركه من ذكرى عند المصريين جعله-حتى اليوم-من أحب الشخصيات التاريخية إليهم إلى حد ضمه لما يوصف بـ "الرموز التاريخية الوطنية" في وجدانهم الجمعي.

 ومما زاد تقبُل المصريين لآل أيوب قيام العادل-أخو صلاح الدين-بنقل مركز الحكم من دمشق إلى القاهرة.. فضلًا عن أن تقديم الأيوبيين أنفسهم باعتبارهم المضطلعين بمهمة "الجهاد ضد الفرنجة"، واتخاذهم مصر مركزًا لذلك قد أضفى على حكمهم شرعية وساهم في تقبل المصريين لهم.

                                                        ***

الحكم المملوكي الذي خلف دولة آل أيوب لم تكن استساغته بالسهلة عند المصريين في بداية الأمر.. فمن ناحية استهل المماليك حكمهم بتولية إمرأة هي "شجر الدر" أرملة السلطان نجم الدين أيوب.. وهو الأمر الذي أثار عاصفة شعبية من الرفض والاستهجان، غذاها رفض الخليفة في بغداد الفكرة وسخريته منها بقوله "لو أن الرجال عندكم قد عدمت فأخبرونا نسير لكم رجلًا"، أو بقيام الفقيه العز بن عبد السلام بكتابة رسالة في مساوئ ذلك.

وحتى عندما تنازلت شجر الدر عن الحكم لزوجها عز الدين أيبك لم تهدأ غضبة المصريين، ففكرة أن يحكمهم رجل "قد مسه الرِق"غير معروف له أصل ولا نسب كانت بالنسبة لهم-آنذاك-صادمة ومهينة.. إلى حد أنهم كانوا يستوقفون أيبك ويصيحون به "نريد سلطانًا حرًا على الفطرة" أو أن يسخر منه بعضهم قائلًا "لمن ينتسب السلطان؟"، وشهد الصعيد ثورة مسلحة شرسة بقيادة الشريف حصن الدين ثعلب، اضطر أيبك لقمعها بمزيج من الحيلة والقوة الغاشمة، وأخيرًا لم تنتهي ثورة المصريين إلا باقتراب الخطر المغولي وإدراكهم احتياجهم للقيادة العسكرية للمماليك..

انتصار المماليك على المغول في عين جالوت، ونشاطهم في صد المغول والفرنجة جعل المصريين يعيدون النظر في أمرهم، فانقلب الاستهجان والاستنكار إلى تَقَبُل ورضا، خاصة في عهد السلطان الظاهر بيبرس الذي أعاد إحياء الخلافة العباسية بالقاهرة وحصل على تقليد من الخليفة بالسلطنة وتفويضًا في ولاية أمور المسلمين، مما أضفى شرعية أقوى على دولة المماليك.. وبلغ من تعلق المصريين ببيبرس وحبهم له أنهم قد ضموه لأبطال السير الشعبية في "سيرة الظاهر بيبرس".

وما زاد من تَقَبُل المصريين للحكم المملوكي هو أن المنظومة الإدارية لدولة المماليك قامت على كل من العنصرين المملوكي والمصري، فالمماليك كان منهم "أهل السيف" أرباب الوظائف العسكرية، بينما كانت الوظائف المدنية في "أهل العمامة" أو "أهل القلم" من قضاة وكتبة ونظار للدواوين وعلى رأسها ديوان الإنشاء أو في تولي "الحِسبة" وهي من أهم الوظائف آنذاك.. فكان المصريون يشاركون في إدارة بلادهم.

تفاعُل المصريين مع المماليك ونظرتهم بهم باعتبارهم "متمصرين" لم يقف عند السير الشعبية وإنما بلغ درجة التداخُل مع صراعاتهم، فعلى سبيل المثال، خلال فترة تعاقُب الأمراء على اغتصاب الحكم من السلطان الناصر محمد بن قلاوون، ثار المصريون على حكم السلطان بيبرس الجاشنكير، إلى حد تظاهرهم في القاهرة وهتافهم "الله يخون من يخون أولاد قلاوون" ومطاردتهم السلطان الهارب بالسباب والإهانات واحتفائهم بالناصر محمد عند رجوعه وتوليه السلطنة للمرة الثالثة. 

بل وحتى على مستوى العادات والتقاليد والثقافة الشعبية، تأثر المماليك بمعتقدات وأفكار المصريين وتبنوها ومارسوها، سواء من تعظيم للأولياء، أو اعتقاد في بعض الخرافات المتعلقة بالفأل والحسد والسحر، أو في الاحتفال بالأعياد المصرية كوفاء النيل والنيروز وغيرها.. أي أنهم بشكل أو بآخر قد "اعتمدوا" بينهم الثقافة الشعبية.. بل وإنهم قد أخرجوا من أجيال أبنائهم-فئة أولاد الناس- كثيرًا من العلماء والمؤرخين والأدباء والفنانين الذين أثّروا في الثقافة المصرية وأضافوا للموروث الحضاري المصري.. وهذه نقطة إضافية تضاف لمعايير التفرقة بين المحتل والمتمصر، فالمحتل يأخذ ولا يُعطي بينما المتمصر يضيف للحصيلة الحضارية لمصر.

جدير بالذكر كذلك أن المصريين قد فرقوا بين المملوك المجلوب صغيرًا فلم يعرف له وطن ولا بلد سوى مصر، فعدّوه مصريًا، وذلك المجلوب كبيرًا (الجلبان) حيث شككوا أصلًا في ولائه للدولة أو للدين ونظروا له باعتباره مجرد مرتزق منحط لا وطن له.


                                                    ***

ولكن التفاعل الأقوى للمصريين مع المماليك بدا واضحًا في الفصل الأخير من حياة الدولة المملوكية، عندما استبسل المصريون في الدفاع عن القاهرة مع طومان باي- السلطان المملوكي الأخير- وخاضوا حرب شوارع شرسة مع الغزاة العثمانيين الذين اضطروا لاعتلاء المآذن وإطلاق الرصاص على الناس من فوقها، وقراءة في ما دوّنه المؤرخ ابن إياس-وهو شاهد على هذه الأحداث-في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور" تؤكد أن المصريين لم يطلبوا غزو العثمانيين ولم يستقبلوهم بالورود.. وفي صفحات هذا الكتاب وكذلك كتاب "العراك بين المماليك والعثمانيين الأتراك" لابن أجا الحلبي تفاصيل عن عنف ووحشية العثمانيين في مواجهة أهل القاهرة إلى حد أن شاع قول منسوب لسليم الأول قبيل غزوه مصر "غدًا أدخل القاهرة وأحرق بيوتها وألعب بالسيف في أهلها قاطبة".

ولم تتوقف المقاومة المصرية للعثمانيين عند مشاركتهم طومان باي القتال في معركة الريدانية، وإنما كانوا في كرّ وفرّ مع جنود العثمانيين، وعندما قام طومان باي بهجوم مضاد استطاع فيه السيطرة على بعض مناطق القاهرة انقلبت الآية وراح المصريون يفتشون عن الجند العثماني لقتلهم أو تسليمهم لطومان باي.

هذا الاستبسال المصري رد على أكذوبة أن سليم الأول العثماني لم يغزُ مصر إلا لإنقاذ أهلها من ظلم المماليك بعد استغاثتهم به"، فكيف يتأتى أن يستغيث قوم بغازٍ ثم يقاومونه؟ 

كذلك فإن اهل مصر بمجرد أن بلغتهم أنباء اقتراب جيش سليم الأول سارعوا لإخفاء ثرواتهم، وتدبير أمر الفرار من القاهرة، خشية اجتياح العثمانيين لهم وما يتبعه من تنكيل بهم، فهل هذا سلوك أناس ينظرون للمماليك كمحتلين وللعثمانيين كفاتحين؟

ويؤكد وصف دخول العثمانيين مصر بالاحتلال مشهد إعدام طومان باي، حيث وصف ابن إياس لحظة شنقه فقال "ولما فاضت روحه صرخ الناس صرخة عظيمة"، بل وبقيت عادة عند المصريين كلما مروا بباب زويلة أن يقرأوا الفاتحة ثلاث مرات للسلطان الشهيد. 

وثمة نقطة هنا للتأمل، فمما يُنسَب للمصريين هتافهم "يا رب يا متجلي أهلِك العثمانلي".. وسواء قيلت في حرب طومان باي ضد سليم الأول أو- في رواية أخرى- في فترة صراع الولاة العثمانيين بين خروج الحملة الفرنسية وتولي محمد علي باشا الحكم، فإن وصف العثمانيين بـ"العثمانلي" هنا هو أسلوب وصف لغريب محتل.. فالمصريين كانوا يصفون جند المماليك بـ"العساكر المصرية" وسلطان المماليك بـ"سلطان المسلمين" أو "سلطان مصر".. وحتى في قولهم عن المماليك "دولة التُرك" أو "دولة الجراكسة" فإنهم كانوا يتبعونها بـ "في الديار المصرية" أو "في مصر والشام".. فكانت الصيغة تشير لأن المماليك ليسوا غرباء.. وعندما كان المصري يتعرض لظلم بعض سلاطين المماليك فإنه كان يخصه هو بالدعاء ولا يدعو على كل المماليك.. (وهي نفس فكرة أن ثورته هي ضد حاكم ظالم وليست ضد محتل أجنبي).

أما الدعاء بهلاك "العثمانلي" فهو دعاء يعم العثمانيين وينم عن غضب وسخط يخصهم جميعًا، فغضب المصري هنا إذن ضد كل العثمانيين وليس بعضهم.. فكأنما يعلن المصري بشكل شعبي بسيط أن هؤلاء العثمانيين يبقون غرباء غاصبين.

                                                                 ***


عندما يوصف الحكم العثماني لمصر بــ"الاحتلال" فإن ذلك ليس مرجعه ميلًا أو هوى، وإنما هو وصف منطلق من نظرة الشعب المصري نفسه؛ بل إن حتى "الصورة الذهنية" للصورة النمطية للطاغية الماص لدماء الفلاحين في الموروثات المصرية هي لباشا تركي مكتظ بأطنان من الشحم واللحم يمتطي فرسه مرتديًا الملابس الموشاة وهاويًا بسوطه على ظهور فلاحين ممزقي الثياب وهو يصيح بهم "خرسيس نرسيس أدبسيس".

هذا فضلًا عن حقيقة أن المصريين كشعب لم يرفعوا السلاح لمقاومة وافد عليهم منذ فعلوها ضد الغزو الروماني إلا عندما غزاهم العثمانيون.

ولأن الدولة تقوم على ثلاثة عناصر هي: الشعب، الإقليم، والسلطة الحاكمة، ولأن التاريخ يقوم على ثلاثة عناصر أيضًا هي: الإنسان والمكان والزمان، فإن العنصر المشترك هنا: الإنسان - الشعب، هو بطل الحالة التاريخية، وبالتالي فإن رد حالة الحكم العثماني لمصر له والبحث عن تصنيفه له فتحًا أو احتلالًا هو ما يمليه علينا المنطق ويلزمنا به الإنصاف.

ما سبق غيض من فيض، وللقراءة أكثر حول تلك المسألة يفضل الرجوع إلى المصادر التالية: الحضارة المصرية: د. خزعل الماجدي، في مملكة مصر: كلير لالويت، إمبراطورية الرعامسة: كلير لالويت، موسوعة مصر القديمة: سليم حسن، مصر بعد الفراعنة: آلان بومان، تاريخ مصر: يوحنا النقيوسي، تاريخ مصر في عصري البطالمة والرومان: د. أبو اليسر فرح، مصر في عصر الرومان: د. الحسين أحمد عبد الله، تاريخ مصر في العصر البيزنطي: د. صبري أبو الخير سليم، السلوك لمعرفة دول الملوك: المقريزي، اتعاظ الحنفا لمعرفة الخلفا: المقريزي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: ابن تغري بردي، بدائع الزهور في وقائع الدهور: ابن إياس، العراك بين المماليك والعثمانيين الأتراك: ابن أجا الحلبي، تاريخ مصر الحديث والمعاصر: أ.د. محمد سهيل طقوش، أسد مصر الظاهر بيبرس والشرق الأدنى: بيتر ثوراو، بين التاريخ والفلكلور: أ.د. قاسم عبده قاسم، سيرة ابن طولون: البلوي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار: الجبرتي، تاريخ مصر في العصور الوسطى: ستانلي لين بول، العصر المماليكي: أ.د. سعيد عبد الفتاح عاشور، مصر المملوكية: هاني حمزة، تاريخ الفاطميين: أ.د. محمد سهيل طقوش، تاريخ مصر الحديث والمعاصر: د. صلاح هريدي، تاريخ الأيوبيين: ا.د. محمد سهيل طقوش.