رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


صناعة التنشئة السياسية.. ضرورة أن يربح الوطن والمواطن

2-11-2020 | 17:33


 لا يولد الإنسان محباً لوطنه بالفطرة، فهو وإن اكتسب الجنسية بمجرد مولده لأب مصري أو لأم مصرية، وفقاً لنص المادة السادسة من الدستور المصري، إلا أن ذلك في حقيقة الأمر مجرد رابطة قانونية تمنحه حقوق وترتب عليه واجبات ينظمها القانون، فهي ليست بأية حال كافية لأن يحب المواطن وطنه، ويشعر برابطة نفسية اجتماعية تتجاوز الرابطة القانونية المحضة المعروفة باسم الجنسية، وهذه الرابطة النفسية الاجتماعية هي رابطة الولاء والانتماء لهذا الوطن، والتي تؤسس لها وتصنعها العملية المعروفة باسم التنشئة السياسية.

فالتنشئة السياسية – في أحد تعريفاتها الشائعة- هي "عملية إكساب المواطن الاتجاهات والقيم السياسية التي يحملها معه حينما يجند في مختلف الأدوار الاجتماعية، وهو التعريف الأقدم لهذا المصطلح، والذي قدمه "هربوت هايمان" في كتاب باسم "التنشئة السياسية" في عام ١٩٥٩م، ويُعرفها آخر بأنها "التلقين الرسمي وغير الرسمي المخطط وغير المخطط للمعلومات والقيم والممارسات السياسية وخصائص الشخصية ذات الدلالة السياسية، وذلك في كل مرحلة من مراحل الحياة عن طريق المؤسسات المختلفة في المجتمع"، ويُعرفها ثالث بأنها "محاولة لتدريب الأفراد على أن يفعلوا ما يتطلبه النظام عبر إكسابهم المعايير والقيم والمهارات المرغوبة والمفيدة في هذا المجتمع"، ويُعرفها رابع بطريقة سلسة على اعتبار أنها "الطريقة التي يتعلم بها الأفراد السياسة في مجتمع ما"، ويُعرفها خامس بأنها "من يُعلم؟ ماذا؟ ولمن؟ وبأية طريقة؟ داخل المجتمع.

ووفقاً للتعريفات سالفة الذكر يمكن رصد عددا من الملاحظات حول هذا الموضوع أولها أن التنشئة السياسية عملية، أي أنها إجراءات وخطوات متعمدة لبناء الهوية الوطنية، وليست فطرية، فهي عملية اجتماعية سياسية معقدة، ثاني تلك الملاحظات حول موضوع التنشئة السياسية أنها موجهة من الأفراد تجاه الأفراد داخل ذات المجتمع، فهي ليست عملية رأسية خالصة تقوم بها الدولة بشكل فوقي موجه لمواطنيها، وإنما هي عملية تفاعلية ينخرط فيها فواعل كثر رسميين وغير رسميين، تبدأ من الأسرة وتنتهي بالمؤسسات الرسمية مروراً بالمؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية والشبابية، ووسائل الإعلام، وثالث تلك الملاحظات أن عملية التنشئة السياسية ليست عملية مؤقتة ضيقة المدى والتأثير وإنما هي عملية مستمرة طويلة المدى تهدف لنقل الهوية الوطنية ورابط الولاء والانتماء من جيل لآخر.

وعليه فإن التنشئة السياسية في حقيقة الأمر ليست عملية حتمية تلقائية وإنما هي صناعة، ولا تهدف تلك الصناعة للربح المادي كباقي الصناعات المتعارف عليها، وإنما هي صناعة واجبة التأسيس والاستمرار والرعاية والصيانة لها ليربح الوطن مواطناً سوياً محباً لوطنه، واعياً بالتحديات المحيطة به، فاعلاً في حمايته داخلياً وخارجياً من ناحية، وليربح المواطن وطناً يتسع للجميع لا يشعر بالاغتراب فيه، ينعم بحقوقه مؤدياً واجباته.

وعادة ما تمر عملية التنشئة السياسية بمراحل ثلاث تبدأ من تلقين المواطن هويته الثقافية والاجتماعية والسياسية والتاريخية، يعقب هذه المرحلة مرحلة الاستيعاب والإدراك لهذه المدركات التي تعرض لها بصورة رسمية وغير رسمية عبر سنوات الطفولة، وهو ما يقودنا للمرحلة الثالثة مباشرة وهي مرحلة المشاركة الفعالة الإيجابية للمواطن في الحياة السياسية بدء من ممارسة حقه في الانتخاب وصولاً لممارسة حقه في الترشح.

من الطرح السابق يتضح أن التنشئة السياسية ليست عملية منوطة حصراً بالمؤسسات السياسية كمؤسسات الدولة والأحزاب السياسية وجماعات الضغط، وإنما يسبقها أدوار تأسيسية مهمة للتنشئة السياسية تضطلع بها مؤسسات غير سياسية بامتياز كالأسرة والعائلة والمدرسة والمجتمع المحلي والنادي الرياضي ومركز الشباب والكنيسة والمسجد، فالتنشئة السياسية التي تؤسس لها المؤسسات غير السياسية إنما هي تنشئة كامنة لا تتعلق بالشأن السياسي بصورة مباشرة، وإنما هي عملية بث القيم والمثل والأهداف العامة الإيجابية الداعمة للمجتمع والدولة.

وتتجلى أهمية التنشئة السياسية التي تؤسس لها المؤسسات غير الرسمية والرسمية في تعضيد روابط الانتماء والولاء بين المواطن والدولة، وتدعيم التماسك والانسجام بين أفراد المجتمع الواحد، وتعزيز أمنه وحريته واستقراره، كما أنها تعمل على إذكاء التفاهم والتواصل بين أبناء الفئات الاجتماعية المختلفة، فلا يشعر كل منهم باغترابه في الوطن الذي يتسع للجميع، وأخيراً تعد التنشئة السياسية هي الحامية تجاه التطرف والعنف باعتبارها أولى جُدر الأمن الفكري في مواجهة هجمات الإرهاب.

مما سبق يتضح أن التنشئة السياسية ليست قالباً جاهزاً ووصفة معدة مسبقاً لكل المجتمعات، وإن اتفقت في فواعلها الرسمية وغير الرسمية في كثير من الأحيان، بل هي عملية تفاعل شديدة الخصوصية، تتباين من مجتمع لآخر وفقاً لتاريخه وحضارته وثقافته وخصائصه الاجتماعية والاقتصادية وأطره القانونية المنظمة له.

والدولة المصرية لديها من القدرات والمقدرات المجتمعية والرسمية ما يكفى للاضطلاع بمهمة التنشئة السياسية للأجيال الواعدة والشابة، بل لن يكون من باب المغالاة القول بأن مؤسسة واحدة في مصر قادرة على تدعيم روابط الانتماء والهوية الوطنية، التي تسعى دول أخرى حديثة النشأة بكافة مؤسساتها لبناء تلك الهوية وصناعة حالة من الانتماء والولاء للوطن، بيد أنه قد ينقص الفاعلين المعنيين بقضية التنشئة السياسية في مصر الانخراط في رؤية وطنية شاملة هادفة للتنشئة السياسية، فعلى سبيل المثال يتوافر للمؤسسات الدينية كالأزهر الشريف والكنيسة المصرية القدرات والمقدرات الوافية للاضطلاع بتلك المهمة، كما أن المؤسسات التعليمية المصرية المتنوعة في مراحل التعليم ما قبل الجامعي بين حكومي وخاص، محلي ودولي، وأزهري وفني، ومراحل التعليم الجامعي بين الحكومي والخاص والأهلي، لديها جميعاً من الموارد البشرية والمالية والوطنية ما يكفي للاضطلاع بدور أكثر تماسكاً في صيانة الهوية المصرية وتدعيم روابط الانتماء والولاء لهذا الوطن، بيد أنه ينقصها بعض الإرادة والتنسيق في إطار استراتيجية وطنية شاملة.

إن الدولة المصرية في حربها على الإرهاب إنما ليست في حاجة فقط لقدرات عسكرية متاحة وقادرة على مواجهة الإرهاب وتفكيكه، وإنما هي في سبيل ذلك في أمس الحاجة لأن يضطلع الجميع أفراداً ومؤسسات بأدوارهم المنوط بهم أدائها في مكافحة الإرهاب فكرياً وثقافياً وسياسياً قبل مكافحته عسكرياً.

في النهاية إن التنشئة السياسية هي التعبير عن حب الوطن قولاً وفعلاً وليس بأحدهما دون الآخر، فترديد النشيد الوطني المصري على الألسنة أطفالاً وشباباً وشيوخاً إنما يجب أن ينطلق من العقول والقلوب قبل أن تحمل كلماته الألسنة، وأن تنعكس كلماته في ممارساتنا الحياتية اليومية، فتكون مصر هي الحب والفؤاد والغاية والمراد، وأن يكون مقصد كل مواطن مصري دفع الغريم، لتعش مصر حرة سالمة بأولادها الكرام الأوفياء الذين يرعوا الزمام باتحادهم.