تنفرد "المصور" بنشر وثيقة عظيمة الشأن: من الزعيم الوطنى مصطفى كامل إلى الخديو عباس حلمى الثانى
نشر فى مجلة (كل شىء والعالم) بتاريخ الاثنين 6 فبراير 1928 الصادرة عن دار الهلال وثيقة تاريخية بخط يد الزعيم الوطنى مصطفى كامل إلى الخديو عباس حلمى الثانى بتاريخ 1895 بواسطة عبد الرحيم بك الذى كان عقد الصلة بين الطرفين، وفيها بيانات واقتراحات جليلة الشأن وهنا ننشرها بنصها.
ومن المعرف أن الخديو عباس حلمى الثانى قد اصطدم فى بداية توليه الحكم باللورد كرومر فى سلسلة من الأحداث كان أهمها أزمة وزارة مصطفى فهمى عام 1893 وتوترت العلاقات إلى حد خطير فى حادثة الحدود وكان عباس يرى أن الاحتلال لا يستند إلى سند شرعى، ومن هنا ارتبط مصطفى كامل بالخديو حيث جمعهما رفضهما للاحتلال.
وإلى نص الوثيقة:
مولاى:
إن الثقة العالية التى جعلتمونى محلها بموافقة سموكم على سفرى إلى أوربا للدفاع عن حقوق أمتى وبلادى زادت كثيرا من نشاطى فى تأدية ذلك الواجب المقدس، وفرضت علىّ أن أحيط علم مولاى بكل ماهو جار فى أوربا بشأن مصر وبكل ما من شأنه خدمة الامير المحبوب والوطن العزيز ولما كانت المدة التى قضيتها إلى الآن كافية لأن اقف فيها على حقائق الاشياء واعرف النافع من الضار رأيت من الواجب علىّ أن ارفع لسموكم هذا التقرير تبيانا لحقيقة الحالة الحاضرة وللمسائل التى أظنها تمهد سبيل الجلاء فأقول:
اشتغل الرأى العام الاوربى بمسألة مصر هذا العام أكثر كثيرا من اشتغاله بها فى الاعوام السابقة وزاد هذا الاشتغال فى يوم أن توطدت العلائق بين دولتى الروسيا وفرنسا، إذ علم كل إنسان أن رأيهما واحد فى مسألة مصر وهو تحرير بلادنا وردها إلى نفسها وكانت نتيجة هذا الاشتغال أن تنبأ بعض الكتاب والمشتغلين بالسياسة بأن الشتاء الآتى سيكون آخر شتاء للجنود الانكليزية فى وادى النيل وأنى لا استطيع القطع بذلك وإن كنت آمله وأتمناه من صميم فؤادى، كما يتمناه كل مصرى صادق للأمير والأوطان، وليس الاشتغال بمسألة مصر مقصورا فقط على فرنسا والروسيا بل هو حاصل أيضا فى ألمانيا.
فقد علمت من كل الألمانيين الذين تعرفت بهم فى باريس وأغلبهم من مراسيلى الجرائد الالمانية الخطيرة، أن رجال السياسة فى برلين يتساءلون عما إذا كانت ألمانيا تنضم إلى الروسيا وفرنسا فى هذا الامر أم لا... وهم على ما علمت منقسمون فى الرأى أى منهم من يظن أن الامبراطور الالمانى لا يستطيع مخالفة جلالة القيصر إذا طلب منه الاتفاق مع فرنسا فى هذه المسألة الخطيرة، كما كان ذلك فى مسألة الصين واليابان ومنهم من يقول ببقاء ألمانيا على الحياد فى مسألة مصر وتحقق أى رأى من الرأيين لا يضر بنا وان يكن الاول اصلح لنا واوفق وقد كنت متخوفا كثيرا من اتحاد ألمانيا مع انكلترا ولكنى متحقق اليوم من أن كل امانى ألمانيا متعلقة بالتقرب من الروسيا وان امبراطور ألمانيا قل ما لا يرضى قيصر الروسيا.
كل ذلك مما يبشر بتحقيق امالنا ويشير إلى قرب انفراج الازمة المصرية ولكن لابد لنا من ناموس نتبعه فى سياستنا تلقاء هذه الحوادث والاحوال السارة واحسن ناموس يوصلنا إلى المراد ينحصر على ما ارى فى الامور الآتية:
أولا: نسعى فى تقوية تيار الحركة الحاصلة فى أوربا، وذلك لا يكون إلا باتباع طريق واحد لايتغير وهو طريق التحبب إلى كل السياسيين وملاحظة أرباب الصحف والكتابة والخطابة ونشر الرسائل المفيدة لمصر ولا أخال مولاى إلا موافقا على هذا الأمر..
ولقد افتكر البعض أن وجود لجنة فرنسية فى باريس تشتغل بأمر مصر كاف للقيام بهذا الغرض وألا لزوم لوجودى فى أوربا فما أظن مولاى لا يوافق عليه أبدا لأن مقابلتى للناس هنا وتفهيمى لهم حقائق الأشياء والأمور الجارية فى مصر ومطالبتى بحقوق مصر بصفتى من أبنائها يحدث تأثيرا أكبر كثيرا من التأثير الذى يحدثه أبلغ الفرنسيين وأكتبهم إذا تكلم وكتب على مصر فضلا عن أنى لست مشتغلا بغير هذه المئلة وأتعرف كل يوم بأناس مختلفين روسيين كانوا أم ألمانيين او فرنسيين. . ومهما كان الفرنسى صادقا فى خدمته لنا فلا يتصور العقل أن يكون كمصرى يتألم بآلام أمته ويحزن لحزنها ويفرح لفرحها.
وأنى فى هذا المقام استلفت أنظار مولاى إلى أمر خطير وهو أن الإنكليز يشيعون فى مصر على لسان صنائعهم أنى مرسل من قبل سموكم إلى أوربا ويكثرون من هذه الشائعات ليتوهم رجال المعيةعند سماعها أن وجودى هنا خطر على شخص سموكم وأن الأولى رجوعى ثانية إلى مصر فيحققوا بذلك رغائب الإنكليز وهى سياسة عجيبة من أبناء التاميز ولكن أرى أن رجوعى إلى مصر إثبات لما يظنه الإنكليز ويشيعونه من أننى مرسل من قبل سموكم فضلا عن أن يعد ذلك فشلا لسياستنا ونصرا وفلاحا لسياسة أعدائنا ولذا فإن وطنى وحبى للأمير يقضيان على أن أرفض رفضا قطعيا العودة إلى مصر مادام الإنكليز فيها
ثانيا: استخدام كل الأجناس دون أن نفوض لأى أجنبى كان أمرنا ونستودعه أسرارنا لأن الأوربى مهما بدت عليه دلائل الصدق والإخلاص لسدة الأمير ولمصر فهو لا يبحث إلا عن منفعته الخاصة فإن عرف أمورنا وآرائنا ورأى فى إفشائها لأعدائنا منفعة له لا يتأخر لحظة واحدة عن إفشائها وإن كان يعلم أن ذلك الإفشاء يضر بنا. . فضلا عن تولى أى أوربى أمر سياستنا فى أوربا من أضر الأمور علينا لأننا لو احتجنا مثلا لاستخدام جريدة من الجرائد وكان استخدامها بواسطته علم منه صاحب الجريدة بالطبع أن الأمير حفظه الله هو الذى يمد ويساعد ولا يخفى ما فى ذلك من الضرر ومن ازدياد طمع الطامعين الذين لا يريدون خدمتنا إلا بمقابل
أما إذا تكرم مولاى وزاد لى من ثقته ووكل إلى ما تقضى به الحالة فإن الأمر يكون سهلا كثير النفع عديم الضرر لأن كل الناس تعلم فى أوربا أنى أعمل باسم جمعية مصرية وطنية وأنها تساعدنى وتمدنى
ثالثا: التحبب لألمانيا والتقرب منها بكل الوسائل الممكنة وأرى التقرب منها سهلا جدا وإذا استحسن مولاى حفظه الله فى استخدام جريدتين أو ثلاث ألمانية ثم زيادة عن ذلك بدعوة أولاد الإمبراطور غليوم إلى ريارة مصر فى فصل الشتاء دعوة ودية بواسطة قنصل ألمانيا الجنرال فإن هذا الأمر الإمبراطور بكل ارتياح وانشراح أولا لكونه صادرا من سموكم وثانيا لأن إمبراطور ألمانيا يحب شهرة اسمه واسم عائلته فى الشرق ودعوة كهذه تستميله.
ولا شك لنصرة مصر خصوصا إذا عاد أولاده فى مصر ومعهم الهدايا الشرقية النفيسة التى يهديها لهم سموكم وأرى أن هذه تفيدنا جدا ولا تضرنا أبدا فإنها تدعو الجرائد الألمانية للكلام عن مصر وعن أحوالها ويكون نتيجة مجىء أنجال الإمبراطور إلى مصر إرسال محررين من الجرائد خلفهم يتبعون خطواتهم خطوة خطوة ولا يخفى ما فى ذلك من الفائدة وإن وافق سموكم هذا الرأى أرى أن الدعوة تكون بكتاب من خط سموكم إلى الإمبراطور يرسل على يد قنصله الجنرال
رابعا: استخدام بعض الجرائد الأوربية الخطيرة من فرنسا وألمانيا وروسيا وأرى أنه يكفى من فرنسا استخدام جريدتين ومن روسيا كذلك ومن ألمانيا ثلاث على الأقل ويسير استخدام كل هذه الجرائد لما لى من الروابط مع رجال التحرير فى فرنسا ومع كثير من الكتاب الروسيين والألمانيين ( فضلا عن أنى عازم على زيارة برلين فى شهر اكتوبر القادم إن شاء الله تعالى ) وأرى أن مبلغ 700 جنيه يكفى لاستخدام أهم جريدة مدة عام كامل واستخدام كل هذه الجرائد يكون دائما باسم جمعية مصرية وطنية وأرى أنه مع استخدام بعض الجرائد الخطيرة يجب استخدام بعض أفراد من كتاب أسرار الجرائد الأخرى فإن بيدهم إدارة شئون الجرائد الموظفون بها ويكفى مبلغ زهيد لإرضائهم وربما كفت هدية حسنة وهذا أمر يتعلق بالطباع والأميال
وقد كنت افتكرت أنى أخدم خدمة جليلة إذا نشرت جريدة أسبوعية هنا وقدمت فى كتاباتى لسموكم أنها تتكلف نحو الألف والخمسمائة جنيه سنويا ولكنى عدلت الآن عن هذا الرأى وأرى الأوفق استخدام هذا المبلغ ومثله فى استخدام بعض جرائد مهمة وسهل على إذ ذاك أن أكتب أسبوعيا مقالة فى إحدى الجرائد الفرنسية وأنا على ثقة من أنها تؤثر كتأثير جريدة يصدرها مصرى فى أوربا
هذه هى الآراء التى أرى فى تنفيذها تمهيدا لسبيل الجلاء ولما كانت السياسة الإنكليزية مبنية على قاعدة ( استعمال كل وسيلة للوصول إلى الغاية محمودة كانت أو مذمومة ) وجب علينا أن نحاربهم بنفس ساستهم ونجعل هذا المبدأ مبدأنا ونبذل كل ما فى وسعنا لنوال مرادنا
أما مسألة إرسال وفد إلى أوربا فأرى أن هذه المسألة يلزم تأجيلها إلى آخر الشتاء حتى نعلم ماذا سيكون وربما غيرت الحوادث اعتقادنا فى كثير من الأمور المهمة ولقد قال لى من نحو شهرين رجال السياسة الفرنسية أن مجىء وفد مصرى يفيد كثيرا وأراهم يقولون لى اليوم أن الأولى تأخيره إلى آخر الشتاء حتى تعلم مجرى سياسة سالسبورى كذلك الأمر بالنسبة لسياحة سموكم فى أوربا فإن الرغبة فيها تقوى او تضعف حسب الحوادث فلتنتظر هذا الشتاء
وقبل أن اختم تقريرى استلفت أنظار سموكم إلى أمر استرجاع السودان المصرى فإن علمت من أوثق المصادر السياسية أن الإنكليز لما أحسوا بأن الرأى العام الأوربى يطالب بالجلاء وأن فرنسا وروسيا ربما طالبا به فى أول فصل الشتاء عزموا على أحداث القلائل فى السودان حتى تدعوا الحالة لارسال تجريدة حربية مما يمنع تحقيق الجلاء مدة اعوام فهم الامكليز جعلوا السودان مستودع سياستهم يخرجون منه القلاقل متى اقتضت الأحوال وأحسن تقرير يقرره سموكم ومجلس الشورى هو جعل القوة العسكرية المقيمة فى سواكن ووادى حلفا قوة دفاعية لا هجومية كما كانت من أول الاحتلال وكما أشار بذلك دائما اللورد كرومر عملت حكومته تنفيذا لأغراضه فى تقريراته السنوية وسأنبه الأفكار هنا بعد قليل إلى هذه المسألة الخطيرة حتى لا يفلح الإنكليز فى تحقيق نواياهم السيئة
هذا ما أردت رفعه لسموكم وأنى أقبل فى الختام الأعتاب الشريفة وأسأل الله حفظ ذاتكم أبد الآبدين وتحقيق الأمانى والآمال إنه سميع مجيب
باريس فى 19 سبتمبر سنة 1895
التابع الأمين والمصرى الصادق
مصطفى كامل
نقلا عن مجلة المصور