لم يكن حسن فتحى مجرد مهندس معمارى نابغ، إذ تشرب فلسفة الهندسة ونظرتها المستقبلية، بصفتها «فن الاقتراب من المشاكل المعقدة ومحاولة حلها بأعلى كفاءة ممكنة»، وقد تمسك فتحى بجوهر كل ذلك حتى النخاع.. وهكذا لم تكن جهوده تتمحور حول تفاصيل معمارية، وإنما أساليب لا لحل المشاكل وحدها، بل لتنمية وشفاء المجتمع المريض ككل، وتشييد مراكز ابتكار وتنمية تضع بعين الاعتبار كيف يتم تشغيل الناس، وكيف يمكن جعل مصادر هذه المراكز محلية، وكيف يمكن استثمار كرامة المجتمعات التى تخدمها. وإذا أردت أن تعرف مدى إلحاح، وأهمية تلك الفلسفة على المستوى العام للوطن ما عليك إلا مراجعة قائمة آخر عشرين من رؤساء وزراء مصر، لتجد أكثر من ٨٠٪ منهم مهندسين (أمر طبيعى من منطلق فلسفة الهندسة)، ولا عليك بعد ذلك إلا تصور المكانة التى كانت ستكون عليها مصر لو آمنوا والتزموا جميعا بفلسفة فتحى الهندسية التكاملية الإنسانية.
مشاركة فى الزخم الوطنى الذى لف المجتمع مع ثورة ١٩١٩، واعتمادا على ثقافته الشاملة التى تجمع بين الهندسة والرسم والدين والأدب والموسيقى (كان يجيد عزف الكمان)، واستلهاما للتراث فى ضوء التجارب الإبداعية الحديثة، خرج حسن فتحى بحل عبقرى لمشكلة بناء مسكن للإنسان العادى، يستقيم مع جوهر معنى السكن.
حل يبدأ من ضرورة تعبير الناس عن أحلامهم وآمالهم بصدد البيوت التى سيسكنونها، وأخذ ما يعبرون عنه بعين الاعتبار. ويمر بتدريبهم هم أنفسهم على طرق الإنشاء التقليدية، بعد مراجعتها على القواعد الهندسية، والظروف البيئية المختلفة، ومفاهيم العلوم الإنسانية (الاجتماع والسكان و...)، مع الاعتماد أساسا على الإمكانات المحلية فى البيئات المختلفة (الحجر الجيرى والطفلة و...)، والاحتفاء بالقبة كعنصر معمارى أساسى يتكفل بحل مشكلة السقوف المسطحة، فضلا عن كونها عنصرا لتكييف جو المسكن صيفا وشتاء، مع الاهتمام بالرونق العام والمسحة الجمالية الجديرة بالإنسان.. وتلك كلها أمور لاتحد فقط من التكاليف وتحصر استخدام المواد الغالية المنقولة والمستوردة فى أضيق نطاق، بل وتساعد أيضا على راحة الإنسان وفعاليته، وتحفظ له أدميته وصحته البدنية والنفسية.
وفى هذا الحل أثبت فتحى أنه يتسلح بشمول النظرة وعمق الثقافة وسعة الأفق..
فقد كان رجل تخطيط من الطراز الأول، حين ذهب إلى ضرورة التعرف أولا على محددات الموقع وظروفه البيئية وإمكانات استثماره واحتمالات نموه، إضافة إلى موازنة مواضع العمل والسكن وجماليات العلاقات البنائية، و....
كما كان رجل اقتصاد من الطراز الأول حين استخدم مواد الإنشاء المحلية، مما يعفى البناء من أعباء الاستيراد والنقل، وحين اعتمد تدريب البسطاء على العمل بأنفسهم، وحين دعا إلى تعاون العشرة الذين يستطيعون مجتمعين أن يبنوا عشرة منازل، بينما يعجز الواحد منهم عن بناء أى شىء. وربما صلح ذلك مدخلا لكونه رجل اجتماع من الطراز الأول بإحيائه روح التعاون بين أبناء المكان، حتى يحققوا هدفا مشتركا، بمساهمة كل منهم برأى أو عمل، ناهيك عن دعوته إلى الاستماع لرغبات كل أفراد التجمع العمرانى لتلبية مطالبهم، وعمله على أن توفر القرية الجديدة (بتنا نسميها كمبوند) كل الاحتياجات الاجتماعية للقرويين، فيما يخص عملهم وحرفهم وتعليمهم وعبادتهم وتسليتهم.
وقد امتدت هذه النظرة الاجتماعية إلى العمق من الخطوط العامة، مثل إقامة مسرح وغابة وبركة للسباحة تساعد على مقاومة مرض البلهارسيا و.... وإلى تفاصيل غاية فى الحساسية، فحين يفكر فتحى فى مصدر جماعى للمياه النقية لا يغفل أن «القروية حاملة البلاص» لم تكن مجرد ناقلة للمياه الملوثة، فيعمل على إيجاد بدائل لإتاحة فرص رؤيتها، ولتسهيل تبادل القيل والقال، بل وعقد الخطوبات. ولهذا يضع المضخة العامة داخل غرفة مزودة بمقاعد لصق الجدار، حيث يمكن للنسوة أن يجلسن ويثرثرن وهن ينتظرن دورهن. كما يسعى إلى جعل الحمام مؤسسة اجتماعية ترتفع جاذبيتها بقدر ما ترتفع درجة حرارة مياهها، ويجعل المستحم يرتدى ملابسه المغسولة ويمر إلى حجرة للاستراحة ليثرثر مع زملائه. يناقشون أحوالهم ويتبادلون الأخبار ويعقدون الصفقات و.... كما أنه لا يتم تصميم موقد المنزل إلا بعد رصد طويل وتحليل مسهب لحركات المرأة المصرية أثناء الطهي.
ولا يقف فتحى عند ذلك بل يرى أن على معمارى القرية أن يتجاوز فيما يفعله التخطيطات المجردة، وينفذ إلى روح الأشياء فالمهندس الذى يصمم مدرسة يجب أن يرى العالم أولا بعين الطفل، ليس لمجرد فهم احتياجاته من الحجم والفراغ، بل أساسا ليفهم ما يريحه وما يروعه، فالطفل من لحظة مولده يعانى استنزافا يوميا للإحساس بالأمان الذى أحسه يوم كان فى رحم الأم!
ويجب على المعمارى ألا يغفل مع كل ذلك عن الجانب الجمالى ويعمل على إحياء التقنيات القديمة مثل المخرمات الطوبية لتزيين المبانى واستخدام الأبواب التراثية (الصبرات) و....
ويذهب فتحى إلى أبعد مما يمس العمارة مباشرة، فقد كان يرى أن عمارته محاولة لإصلاح الريف، ومن هنا عمله على إحياء صناعات الخزف والنسيج فى القرية. عملة على ترك الحرية للطفل والقروى العادى فى التعبير عن مكنون وجدانه (الجزء الأعمق من نفسه) من خلال أعمال النسيج، وعمله على إحياء تقنيات الصباغة النباتية، لأن صبغاتها أكثر ثباتا ورقة فى ألوانها، إذا قورنت بالصبغات الكيماوية. واقتراحه حين كان يخطط «متنزه القرية!» زراعة أشجار المانجو العادية فيه، ذلك إنها إضافة إلى وفرة ظلالها فالنوع الكبير منها ينتج ما يصل إلى ألفى ثمرة فى السنة، والأساس أنها لا تحتاج إلا إلى رعاية قليلة بينما تحتاج الأنواع الأجنبية والمهجنة إلى رعاية كثيفة متشعبة، وهذا مدعاة لعدم استعمالها فى المتنزهات العامة، رغم أنها تعطى ثمارا أفضل، ولأنها على أية حال أميل إلى أن تكون صغيرة غير ظليلة.
تبقى إشارة إلى أن فتحى مع ذلك كله لا يركب دعوته إلى المحلية عن انغلاق أو تعصب وإنما- أساسا- عن فهم لمعنى وقيمة التراث (الخبرة) ولنواميس التطور، فهو لم يتردد حين فكر فى تدفئة بيوت القرنة أن يذهب إلى تيرول النمسا لتوقعه أن حل المشكلة لا يمكن أن يوجد إلا لدى فقراء البلدان الباردة، وحين فكر فى تعليم القرويين الحرف المناسبة لكسب عيشهم استقدم نساجا من القاهرة وخزافا من باريس. لكنه قرر بعد تجربته: «لسوء الحظ كان الفخار الذى أنتجه فنيا أكثر مما ينبغي، بينما يحتاج الفلاحون فخار بسيط ومباشر وقابل للاستخدام، وما نحتاجه توا تقنية يستطيع الفلاحون تقليدها بسهولة»!
ولم يكتف المهندس النابغ بالتصور النظرى العام الذى توصل إليه، بل جاهد فى بناء نماذج متعددة مثل قرية القرنة بالبر الغربى للأقصر، وقرية باريس فى الواحات، واستراحة الساحل الشمالى فى سيدى كرير، و....
وتطلعا منه إلى تعميم هذه النماذج راح يحلم بإنشاء مؤسسة هندسية غير تجارية أو معهد للتكنولوجيا الوسيطة يكون ضمن مهامه وضع دليل عمل لتصميمات وإنشاءات «العمارة الإنسانية» وإقامة مشروعات إرشادية ونماذج للبيوت، يمكن أن تشيد بالتعاون بين الناس، باستعمال التكنولوجيا الوسيطة والمهارات الأساسية، وتربية المشرفين الذين تحتاجهم عملية البناء الذاتي، ذلك بالإضافة إلى تدريب البنائين والصناع المهرة.
وعلى الرغم من أن تصور فتحى على النحو الذى فصلناه يشكل تصورا إستراتيجيا متكاملا، من وجهة النظر التخصصية المهنية، فإنه لم يتجاوز إطار المشروع الرومانسي، الذى لم يكن ليمر فى مجتمع تأسر ألباب المقاولين والمتخصصين المتغربين فيه العمارة الأوربية باهظة التكاليف، التى لا يمكن التفكير معها فى بيوت للناس العاديين، لأن من يحترف بناء البيوت لا يفكر إلا فى أنواعها التى يمكن أن تدر أرباحا كبيرة.
ذلك بالإضافة إلى أن مشروعا من نوع مشروع فتحى يحتاج إلى سياسة متكاملة لإدارة الإسكان وتوفير الأراضي، ضمن تصورات إستراتيجية أبعد، تأخذ بعين الاعتبار السياسات الاقتصادية وسياسات التنمية، بجوانبها الاجتماعية والحضارية والبيئية، وبالذات فيما يخص إنشاء مجتمعات جديدة بعيدة عن الرقعة الزراعية ووادى النيل و...، وتلك كلها أمور تطرق أبواب المجتمع طرقا هينا بعد، فما بالنا بمصر الثلاثينيات والأربعينيات.
المهم أنه حين كلّ فتحى من الصراخ والسعى لجأ إلى القلم وخط صفحات كتابه «قصة القريتين».. لكن ناشرا عربيا لم ير أهمية الكتاب. فما كان من فتحي، مع الحملة الشعواء التى قوبلت بها أفكاره، إلا أن ترجم كتابه إلى الإنجليزية اقتناعا منه بأن أفكاره يمكن أن تعيش فى أماكن كثيرة، وإنها ربما كانت أفعل لمصر حين تجيئها من الخارج، لعقدة التغريب التى تلف الحياة فيها! وبالفعل نشرت جامعة شيكاغو الكتاب عام ١٩٧٣، ليحدث دويا فى الدوائر العلمية، ويترجم إلى أكثر من عشرين لغة، وتقوم الجامعة الأمريكية فى القاهرة بنشرة بعد ١٦ سنة من صدوره فى شيكاغو ليترجم إلى العربية بعد ذلك.
قبلة بسطاء العالم
لقد جاءت أفكار النابغ المصرى تلبية لحاجة عالمية عارمة يمكن إدراكها إذا عرفنا أن إحصائيات الأمم المتحدة تبين أن خمس سكان كوكبنا (أكثر من ألف مليون نسمة) يعيشون فيما يشبه العراء، وأن أكثر من خمسين ألفا من هؤلاء يموتون سنويا بفعل ظروف التشرد القاسية. وأن المستقبل فى هذا الصدد سيكون أشد قتامة فعدد من لا مأوى لهم سوف يتضاعف إذا ما تطورت الأمور على النحو الراهن.
لم يكن بمقدور المعمارى الغربى أن يعى ظروف العالم الفقير، الذى يعيش فى بيئة مختلفة تماما، ولم تكن القضايا التى أثارها فتحى تقتصر فى أهميتها على مصر، لهذا توالت طبعات كتابة، وصار مرجعا أساسيا من مراجع العمارة العالمية. ومع الزمن تصاعدت مظاهر الاحتفاء بأفكار فتحي، وجهود الاستفادة منها حتى بلغت درجة يمكن أن ندرك أبعادها من تبنى الأمم المتحدة طوال عام ١٩٨٧ (العام الذى أعلنته عاما لإيواء من لامسكن لهم) أفكار «العمارة الإنسانية».
والطريف أن الصيحة التى أطلقها فتحى حول البناء الأفقى الذى يراعى الظروف البيئية، ويجمع بين تلبية الاحتياجات الإنسانية والقيمة الفنية الرفيعة تجد طريقها حاليا كصيحة مستقبلية، تحاول انتشال إنسان المدن الكبرى الذى يعيش بعيدا عن الطبيعة، غارقا وسط مؤثرات سلبية مثل الزحام وتسارع وتيرة الحياة والضوضاء والهواء والمياه الملوثين، بالذات بعد أن ظهر ما تنطوى عليه الغابات الخرسانية من عوامل تحث الإصابة بالأزمات القلبية والقرح المعدية والأمراض العصبية والنفسية و....
لقد كتب سير جيمس ريتشاردز رئيس تحرير مجلة «أرشيتيكتورال ريفيو» فى كتابه عن فتحي: ارتبطت الخمسينيات والستينيات فى الغرب بالكشف عن آفاق جديدة فى الفكر والتكنولوجيا، واكتشف أهل المدن أنهم كانوا ضحية ظروف مختلفة لم تستطع أن تحدثهم بلغتهم أو أن تتجانس مع بيئتهم الحضارية أو العمرانية. وهنا بدأ الالتقاء مع فكر فتحى الذى كان قد بدأ يظهر على الساحة الدولية خلال ستينيات القرن العشرين (رغم أن أفكاره هذه كانت تعود إلى الأربعينيات).
لقد كان فتحى سابقا لعصره، وكان الغرب ينعم بالاستقرار السياسى فوجد لدية فسحة من الوقت ليفطن إلى فلسفة أفكاره. وخير دليل على النزعة المستقبلية لصيحة فتحى تحرك عدد من المعماريين التقليديين البارزين باتجاهها.. بالذات مع استشراء عشوائيات المدن، والتسليم بأن الهجرة إلى المدن ظاهرة طبيعية ستستفحل مستقبلا، مما يفرض توجهات التنفيذ بالجهود الذاتية.
أما إذا أردت أن تعرف مدى إلحاح وأهمية فلسفة فتحى على المستوى العام للوطن فما عليك إلا مراجعة قائمة آخر عشرين من رؤساء وزراء مصر، لتجد أكثر من ٨٠٪ منهم مهندسين، ولا عليك بعد ذلك إلا تصور المكانة التى كانت ستكون عليها مصر لو آمنوا والتزموا جميعا بفلسفة فتحى الهندسية التكاملية الإنسانية.