رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


محمد.. عبقرية الحكم

3-11-2020 | 17:17


محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.. ظاهرة كونية فريدة، وحالة بشرية لم ولن تتكرر فى تاريخ الأرض، وربما فى تاريخ الخلق، فخاتم الأنبياء وآخر رسل السماء إلى العالمين لم يتوقف تأثيره على المسلمين والجزيرة العربية فقط، ولم تكن تعاليمه محدودة أو مرتبطة بقالب دينى، بل امتدت لتشمل كل مناحى الحياة، وكما رسخت رسالته دستورا يوضح العلاقة بين العبد وربه، وأيضا علاقته بغيره من البشر والحيوانات والماورائيات، رسخت كذلك علاقته بوطنه ودولته، مستعينا بقاموس كونى شامل هو القرآن الكريم..

ربما كان أهم شعاع من أشعة هذا الضوء هو الشعاع الخاص بطريقة حكمه وكيف أسس الدولة الإسلامية وأدارها بعبقرية لن تتكرر، فمع العناية الإلهية ودعم السماء، كان للرسول الكريم تجربة رائدة فى إقامة دولة قوية عادلة ومتزنة ساعدت على انتشار الإسلام وازدياد معتنقيه يوما بعد يوم

الظواهر الكونية التى صاحبت ميلاد المصطفى عليه الصلاة والسلام كانت عنوانا واضحا لما يمثله لكل الكائنات على حد سواء، فكما جاء لختم الأديان وصلاح الجن وبنى الإنسان، جاء أيضا متمما للأخلاق ومثالا حيا يوضح كيف نقسط الميزان، سواء ميزان المعاملات الإنسانية أو ميزان العدل الذى حكم المولى ما خلق من أكوان، فالنور الذى خرج إلى البرية من بيت عبدالمطلب مع ميلاد النبى وأطفأ نار فارس، لم ينقطع مع وفاته، وما زال ضوؤه يرسم للبشرية طريق السلام والفلاح، وربما كان أهم شعاع من أشعة هذا الضوء هو الشعاع الخاص بطريقة حكمه وكيف أسس الدولة الإسلامية وأدارها بعبقرية لن تتكرر، فمع العناية الإلهية ودعم السماء، كان للرسول الكريم تجربة رائدة فى إقامة دولة قوية عادلة ومتزنة ساعدت على انتشار الإسلام وازدياد معتنقيه يوما بعد يوم، مصداقا لقول المولى عز وجل ((الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)).. بدأ الرسول تأسيس الدولة الإسلامية ببنائها داخليا واختيار الأشخاص الذين سيساعدونه فى بناء الدولة وقيادتها فيما بعد، فأصاب اختياره كبد الصواب بصقل شخصيات صحابته كأبى بكر الصديق، ومصعب بن عمير وأبى عبيدة وعمر وعلى وعثمان وغيرهم من أصحاب النبى سلام الله ورضوانه عليهم جميعا، وخلال صقل مهارات هذه الشخصيات بشرهم النبى بما ينتظر الأمة الإسلامية من مستقبل مشرق يحمل العزة والنصر، ومع انتقال دعوته إلى مرحلة جديدة بالجهر بعد الخفاء ومواجهة التعذيب والاضطهاد، اعتمد نبينا وصحابته على الصبر للخروج من هذه المرحلة الحرجة التى استمرت ١٠ سنوات محافظا على نواة دولته التى ستقلب موازين الدول وتغير معايير الحكم إلى يومنا هذا، ومع بداية المرحلة الجديدة والأهم من بناء الدولة الإسلامية بالهجرة إلى المدينة المنورة، اعتمد رسول الله على ترغيب أهل المدينة وسائر العرب فى الانضمام للإسلام، فعندما اختار موقعا لبناء أول مسجد فى المدينة كان الموقع يخص غلامين من الأنصار، ورغم رغبة الغلامين فى أن يهبا الموقع لرسول الله إلا أنه رفض وأصر أن يعطيهما ثمنه، فأعطاهما أبو بكر عشرة دنانير، وأثناء بناء المسجد حمل النبى حجارة البناء بيديه، كما عمد تقديم رسالة للبشرية كلها بضرورة التوحد والمعايشة حتى وإن اختلفت العقائد، فقام بالمؤاخاة بين من هاجر معه من مكة وبين الأنصار من أهل المدينة، كما عقد معاهدات بين المسلمين واليهود من أهل المدينة، وبعد أن اطمأن لسلامة دولته داخليا، بدأ فى إعداد جيش قوى يمكنه من الحفاظ على دولته وصد أى عدوان محتمل، وإذا كان الرسول«» حمل رسالة إلهية لا تقبل المواءمة أو الحلول الوسطى، ستجده متغيرا ومتطورا فيما يخص الأمور الحياتية لدولته وفقا لما يطرأ من تغيرات، كالسياسة المالية التى وضعها لإدارة أمور الدولة، فقد اختلفت سياسته المالية باختلاف مراحل تأسيس الدولة الإسلامية، فقبل الهجرة تعرض المسلمون لضغط شديد من قريش وصل إلى حد نفيهم إلى شعاب مكة مما وضعهم فى مأزق مالى كبير فى ظل الحصار الاقتصادى الذى فرضه سادة قريش، فأرسى النبى عليه الصلاة والسلام مبدأ المشاركة، حيث أنفق من ماله ومال السيدة خديجة على المضطهدين، وكذلك فعل أصحابه، فسيدنا أبو بكر الذى جمع من تجارته ٤٠ ألف درهم قبل إسلامه، هاجر إلى المدينة ومعه خمسة آلاف فقط، ومثله سيدنا عثمان، فقد نجح الرسول« » فى أن يجعل المسلمين يعتبرون أموالهم ملكا مشتركا، أما بعد الهجرة، فقام بتشييد بناء على موضع ملاصق لمسجده وجعله لأهل “الصفة” وهم الفقراء من المهاجرين، وجعل لهم موردا ماليا خاصا بهم، ومع الوقت بدأ فى تقوية الجيش وحماية دولته معتمدا على الموارد التى نظمتها شريعة الإسلام وهى الزكاة والغنائم والفىء والجزية والممتلكات العامة مثل أرض البقيع.

وطوال فترة وجود سيد الخلق على رأس الدولة الإسلامية، وضع العدل كحجر أساس بنى عليه حكمه وإدارته، تنفيذا لقول الله تعالى ((وأمرت لأعدل بينكم))، فساد عدله كل موطئ وطأه وانتشر ليبلغ المؤمن والكافر على حد سواء، فحكم بالحق وأقام القسط، ليحفظ حقوق الجميع، ويطلب من الآخرين - وهو حبيب الله – أن يقتصوا منه، فوضع نظاما منضبطا ومنهجا نورانيا قوامه إحقاق الحق ونصرة المظلوم، دون الالتفات لغنى أو فقير ولصغير أو كبير، حتى قال على نفسه كما ورد فى صحيح مسلم “من يعدل إن لم أعدل؟! قد خبت وخسرت إن لم أعدل”، وبلغ عدله أن أثنى على بعض أهل الجاهلية عندما أرادوا نصرة مظلوم فقال “قد شهدت فى دار عبدالله بن جدعان حلفًا لو دعيت به فى الإسلام لأجبت”، كما أثنى على لبيد بن ربيعة قائلا “أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد.. ألا كل شىء ما خلا الله باطل”، ومع كل ما سبق يبقى العنوان الرئيسى لفترة حكم النبى مفقودا لدى من يدعون إسلامهم اليوم، ويتسترون بعباءة الإسلام لتنفيذ مخططاتهم الشيطانية متجاهلين أهم وأول درس قدمه سيد الخلق عليه الصلاة والسلام بتعليمات سماوية لا تحتمل التأويل، فقد بنى محمد بناءه الحضارى معتمدا على كلمات مباركات أنزلها خالق الأكوان ومسير المجرات فى قوله تعالى ((لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى))، وبمناسبة ذكرى المولد النبوى الشريف نعيد على أذهان تجار الدين أتباع الأمير الدميم وسلطان المخبولين، كيف استطاع النبى الأمى بناء دولة وحضارة هى الأكبر والأقوى على مدار التاريخ، دون كذب أو تشويه، دون إرهاب أو قتال، لنذكرهم.. فقط نذكرهم، إن نفعت الذكرى، أنه لا إكراه فى الدين.