رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


حكايات وأسرار "شهبندر التجار محمود العربى"

3-11-2020 | 17:44


القاعدة الشهيرة تقول: "البدايات من الممكن أن تنبئ بالنهايات".. النجاح لا يأتى "فى يوم وليلة".. والتفوق لن يكون " ما بين طرفة عين وانتباهتها".. لكن خطوات ثابتة.. سابقة الترتيب، محفوفة بـ"المخاطر".. ومحملة بالأحلام أيضا.. صاحبها أدرك من البداية أنه شخص استثنائي، تأكد أن حكايته من الممكن أن تصلح، فى يوم من الأيام، سيناريو واحدا من أفلام السيرة الذاتية، ورغم هذا لم يرتكن إلى الحلم، والنبوءة، لكنه رفع شعار "استعنا ع الشقا بالله".

رجل الأعمال محمود العربى، واحد من الأسماء التى لمعت فى مجال "المال والأعمال" طوال السنوات الماضية، حصل بجدارة على لقب "شهبندر التجار"، الغالبية تتعامل معه كونه النموذج الأمثل لـ"الرجل العصامى"، بدأ من الصفر، ومازال يعمل بـ"حماس الشباب"، وأحلامهم أيضًا. 

مؤخرا قرر "العربى" أن يتحدث، لا عن نفسه، لكن قرر أن يحكى "التجربة"، الرحلة، التى أطلق عليها "سر حياتى.. حكاية العربى"، وهو العنوان الذى حملته مذكرات رجل الأعمال الأشهر، والصادر عن دار نهضة مصر، مؤخرًا.

"العربى" من البداية رفع شعار "الصراحة كنز لا يفنى".. تحدث عن طفولته، وأول "بيزنس" دخل فيه وهو مازال طفلا لم يتجاوز ربيع عمره الخامس بعد، استطاع أن يجمع "تلاتين قرش" قرر أن يكونوا "رأسمال عمليته الأولى"، التى لم تكن إلا عبارة عن "تشكيلة" لألعاب العيد، وتحديدا "بلالين وبمب وحرب أطاليا". 

الـ"تلاتين قرش" بعد نجاح العملية الأولى، أصبحت- بكثير من الجهد والمتعة أيضا- أربعين قرشا، الذين تحولوا بدرهم لـ"رأسمال العملية الثانية"، حيث قرر الفتى الصغير أن يتبع مقولة النبى محمد "ص" بأن "تسعة أعشار الرزق فى التجارة".. وقد كان. 

"هذه يد يحبها الله" مقولة ثانية خالدة للنبى محمد "ص" كانت حاضرة فى ذهن "الصبى محمود"، وتحديدا عندما تمر على ذاكرته "أيام أبيه"، حيث يقول: عندما أتذكر منظر يدى أبى، استحضر مباشرة واقعة إسلامية شهيرة فى تاريخنا الإسلامى المضيء، حين رفع الحبيب محمد، صلى الله عليه وسلم، يدا خشنة لأحد الصحابة الكرام، وقال قولته الخالدة: "هذه يد يحبها الله ورسوله".. لقد رسخ الرسول الكريم بهذا القول الجميل قيمة العمل، وأرسى قاعدة أساسية: إن العمل والاجتهاد والكد هى أساس الحياة فى المجتمع الإسلامى، وإن الخاملين الكسالى لا مكان لهم فى هذا المجتمع، الذى يطبق حقيقة مراد الله تعالى من الإنسان: عمارة الأرض وإصلاحها بما ينفع أهلها، وإقامة العدل والرخاء بينهم. 

حديث "البيزنس الأول"، و"الأب الراحل" لم يكن الأمر الوحيد الذى يؤكد أن "العربى" من البداية شخص استثنائي، فالقراءة المتأنية لـ"صفحات سر حياتى" تكشف أن الأيام لعبت هى الأخرى دورا فيما أصبح عليه بعد رحلة الكفاح الممتدة لسنوات طوال. 

تحت عنوان "فى القاهرة"، اختار رجل الأعمال محمود العربى أن يتحدث فى الفصل الثانى من كتابه "سر حياتى" عن تفاصيل أول زيارة له للعاصمة، حيث قال: كنت فى طفولتى قبل أن أرحل من القرية متعودا على رؤية القطار، الذى يقطع المسافات بين المراكز والقرى، حاملا المئات من المسافرين بما معهم من أمتعة، كنت أستقله مع الوالد – رحمه الله- لمحطة واحدة، من محطة "الحلواصى" إلى محطة "أشمون"، لنشترى بعض احتياجات المنزل من السوق فى مركز أشمون، كان القطار يعدو كالوحش الكاسر على قضبان حديدية، تحيط به حقول خضراء، أو بيوت متراصة، أو أراض جرداء خالية.. أما فى القاهرة، فرأيت الترام لأول مرة يخترق طريقه على قضبان طويلة، من حولها بشر يروحون ويجيئون، يقفزون صاعدين إليه، ونازلين، ولأول مرة أرى هذا العدد من السيارات الملاكى والأجرة. 

ويكمل "شهبندر التجار"، حديثه عن اللقاء الأول والزيارة الأولى للقاهرة بقوله: برغم اختلاف شكل الحياة تماما فى القاهرة عنها فى الريف، وبرغم الإيقاع السريع، فإننى لم أشعر قط أننى تغيرت من الداخل، أو تأثرت سلبًا بحياتى الجديدة، لقد تأصلت علاقتنا بالقاهرة إيجابيا، حتى أننى لا أكاد أتخيل أن "العربى" كانت تجربته سيكتب لها نفس النجاح لو أن أحداثها قد سارت فى شوارع أو أحياء أخرى غير القاهرة. 

وتحت عنوان "العمل فى القاهرة" روى "العربى" قائلا: جاء لى أخى بعمل فى مصنع عطور بالموسكى، لم يكن مصنعا للعطور فى حقيقة الأمر، بل كان عبارة عن ورشة فى محل صغير بالموسكى، يمتلكه الحاج عبد الفتاح البلبيسى، وكان عملى لا يتعدى إغلاق الزجاجات "بالفلة" بعد تعبئتها، ثم بالغطاء الأساسي، ثم إلصاق "تيكت" الماركة المسجلة، لم أتحمل هذا العمل لأكثر من شهر، سألنى أخى عن السبب، قلت إننى جئت للقاهرة لأعمل فى البيع والشراء.. أريد أن أتعامل مع الناس، وأعمل فى التجارة... "أنا ماجيتس أقفل القزايز بالفلة يا على".

" بعد أيام من تركى العمل فى ورشة العطور، جاء لى أخى بعمل آخر فى محل فى شارع "أم الغلام" خلف مسجد "سيدنا الحسين"، كان يواجه باب مسجد "أم الغلام" الصغير، وبرغم صغر حجمه، فقد كان مليئا بالخردوات والأدوات المكتبية ولعب الأطفال الرخيصة، وكان ذلك هو ما أريده تماما: أبيع وأشترى.. وكان اسم صاحب المحل "عبد الرازق عفيفى" ولكنه اشتهر باسم "عم رزق".. ومن أول يوم عمل علمنى "عم رزق" أهم درس أثر فى حياتى التجارية كلها: الأحسن أن تكسب قليلا وتبيع كثيرا.

"وفى يوم من الأيام طلب منى عم رزق أن أذهب لأشترى دستتى رباط حذاء من ماركة "عبد الوهاب"، لاقتراب المعروض منه فى المحل من النفاد، ذهبت إلى محل الجملة، فأخبرنى صاحبه أنه لا توجد ماركة "عبد الوهاب"، وقال لى إنه يوجد لديه صنف آخر أفضل وأرخص، فاشتريته ورجعت، فلما رآنى عم رزق، وقد أتيت له بماركة أخرى صفعنى على وجهى، وأمرنى – غاضبا- أن أقوم بإرجاع ما اشتريته، ولا أعود إلا بـ"رباط عبد الوهاب"، ولما رجعت لصاحب محل الجملة لأعيد له الأربطة غضب هو الآخر، وقام بصفعى على وجهى، كنت أسير فى الشارع وأنا مشتت الذهن، لا أدرى ماذا أفعل، فلم أنتبه لآلة التنبيه الصادرة من عربة تاكسى، ويبدو أن سائقها نبهنى كثيرا، وبسبب ما كنت أعانيه من شعور بالظلم والقهر لم أنتبه.. ولم أسمع، فنزل السائق من التاكسى وأسرع نحوى ليصفعنى على وجهى لثالث مرة على التوالى.

من أزمة "رباط عبد الوهاب" إلى "التصنيع" ينتقل "شهبندر التجار" فى حديثه، حيث يروى تحت عنوان "البداية.. صناعات صغيرة": إننى على يقين من فكرة أن الأعمال الكبيرة إنما هى وليدة الإصرار على تنفيذ حلم كبير، يبدأ بفكرة بارقة محددة، تستقر فى العقل لفترة حتى يضيق بها، وتبدأ النفس الإنسانية حين تكون ذات همة وطموح، وتمتلك رصيدا من الأخلاق والقيم الراسخة فى السعى الدءوب لتحقيق حلمها.

" وبالنسبة لمراحل التصنيع فى البداية، فقد سيطرت على لسنوات طويلة الفكرة، حيث لم أستطع أن أكتفى بالتجارة فقط فى المحلين الذين أنشأناهما فى الموسكى. نعم، كانت الحركة التجارية جيدة جدا فى بيع الأدوات المكتبية والخردوات ولله الحمد، ولكنى لم أتخلص من فكرة بيع منتجات من صنعنا، وتحديدا فى عام 1966، وبسبب حظر الاستيراد تماما بدأنا التفكير فى تصنيع ألوان الشمع، حيث كانت مبيعاتها رائجة لطلبة المدارس والأطفال فى مرحلة رياض الأطفال فى جميع أنحاء الجمهورية.

"نجح توزيع ألوان الشمع بشكل هائل، فبدأنا فى البحث عمن يعطينا أسرار تصنيع ذلك الصنف من الألوان، حتى توصلنا إلى خبير فى تلك الصنعة اسمه "صبرى موسى"، كان يعمل فى مصنع للشمع وكان من ضمن إنتاجه الألوان الشمع، أنشأنا بعد ذلك شركة خاصة بالمشروع وأسميناها "الشركة الفنية لصناعة الألوان المدرسية".

ينتقل بعد ذلك "شهبندر التجار" فى حديثه عن "أسرار حياته" لمراحل التجارة فى الأجهزة الكهربائية، ثم الحصول على توكيل "توشيبا" اليابانى، بعدما وضع أمامهم القدر المسئول عن اختيار "الوكيل المصرى" للشركة اليابانية فى القاهرة، وقد كان. 

ويتحدث بعد ذلك عن التطور الطبيعى، الذى واكب بناء إمبراطورية "العربى"، وحكاية الأزمة، التى وقعت بين عائلة "العربى" ووزير الصناعة عام 1976، حيث رفض المهندس فؤاد أبو زغلة منحهم موافقته على ترخيص عدة مصانع للمراوح والراديو كاسيت والتلفزيون، كما يروى أيضا حقيقة الأجهزة المستوردة، التى كانت تستوردها شركات القطاع العام، وتكتفى بعملية "تجميعها" لتكتب عليها "صنع فى مصر"، وكيف وافق بعدها الوزير على منحهم ترخيص المصانع بعد ثلاث سنوات من الواقعة وتحديدا سنة 1979.

تحت عنوان "تتر الحكاية" يتحدث "رجال العربى".. يزيحون النقاب عن حكاياتهم وذكرياتهم، يتحدثون عن "الدروس المستفادة"، والأزمات التى سبقت النجاحات، فها هو إبراهيم محمود العربى، يتحدث عن ذكرياته فى "دنيا العربى" حيث يقول: كان أداء أبى كقائد استراتيجى لتلك المسيرة الناجحة عبارة عن عدد متتال من المراحل، كل مرحلة منها تمثل وحدة متكاملة، كانت أساسا وقاعدة للمرحلة التى تليها، كان "الحاج محمود" يثبت فى كل تلك المراحل، المبادئ والقيم، التى وضعها وأصلها مع شقيقيه، وكانوا يلزمون كل معاونيهم على العمل بها بما يطيقون، وأعتقد أن تلك المبادئ هى السبب الأساسى فى تفوقنا وإصابتنا لكل الأهداف، التى رآها الحاج محمود وأخواه ببصيرة نافذة وقلب واثق. 

ومن ذكريات "إبراهيم العربى" لشهادة مجدى محمد العربى، الذى قال: فتش عن الصدق.. لقد كسب الأشقاء محمد ومحمود وعبد الجيد العربى ثقة اليابانيين تماما، لأنهم كانوا صادقين فى كل مايعدون به، وأيضا كانوا كاليد الواحدة، لم تكن لأى مشكلة أن تزحزحهم عن رغبتهم فى إكمال مسيرة النجاح، أيضا هناك سبب آخر مهم لتلك الثقة، التى أولاها اليابانيون لمجموعة "العربى"، فلم يكن يحدث أن يغير آل "العربى" أى كلمة نطقوا بها، كان الصدق هو سمتنا، وعرفوا عنا تنفيذ الوعود فى الأوقات التى حددت تمامًا.

أما محمد محمود العربى، فيقول: كان أبى يفاجئ كل من حوله بقرارات لا يصدق أحد أنها ستنجح، وأنها ستؤتى ثمارًا، كل ما لدى المهندسين والخبراء، وكل الخبراء التى كنا نجريها، كانت تؤكد أن ذلك القرار وتوابعه، أو تلك الخطوة الواسعة، يحيطها الخطر من كل جانب، بينما كنا نرى الحاج محمود ثابتا تماما، يسأل من يعترض: أصليت الفجر؟ وعندما يجيبه، يردف: إذن توكل على الله وخذ بالأسباب.

وفى سياق متصل قال ممدوح محمود العربى: إننى أرجع أهم أسباب التوفيق الذى صادفه "العربى" فى مشوار عمله الطويل إلى الوفاء، فعندما مرض الحاج "عنتر عبد الوهاب" الذى دخل مع أبى فى شراكة فى أول شركة سميت باسم "العربى" لم يتركه أبى، بل استمر فى شراكته معه حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى. 


نقلا عن مجلة المصور