كانت الأمور قد تأزمت بين نظام مبارك وجماعة الإخوان
بدءًا من عام 1992 ، فالنظام اكتشف أن الإخوان يدبرون خططا للقفز على الحكم، وأنهم
من أجل تحقيق حلمهم قد تغلغلوا في مؤسسات الدولة، ثم أنهم وضعوا خطة متكاملة
أطلقوا عليها "خطة التمكين"، فكان أن تم القبض على رموز هذه الخطة وعلى
رأسهم خيرت الشاطر عضو مكتب الإرشاد، وظل الشاطر ومن معه في محبسهم لمدة تسعة أشهر
كوامل ثم خرجوا ليضعوا خططا جهنمية يعجز الشيطان عنها.
بعد أن خرج الشاطر من محبسه الأول عام 1993 فكر في أن
الجماعة يجب أن تفكر خارج الصندوق! ونقل ذلك لنائب المرشد وقتها "مصطفى
مشهور" قال له في مجلس ضمه ومجموعة من كبار الإخوان إن الصدام الأكبر وشيك
بينهم وبين نظام مبارك، وإنهم يجب أن يعدوا العدة للانقضاض على مبارك في الوقت
المناسب، لذلك يجب تجهيز الرأي العام مسبقا، وخلق حالة تعاطف مع الإخوان، وعندما
قال له الشيخ الخطيب مفتي الجماعة إن الإخوان يفعلون ذلك بالفعل من خلال منابر
المساجد وافقه الشاطر، إلا أنه قال إن الأيام القادمة ستكون مختلفة وما كان مباحا
للإخوان في السابق لن يكون متاحا في المستقبل، لذلك يجب أن يفكر الإخوان في طرق
غير تقليدية، يستطيع الإخوان من خلالها الوصول لأكبر قاعدة جماهيرية والتأثير
فيها.
بعدها وضع الشاطر خطة تجريبية نقلها إلى فريق عمل من
الإخوان من منطقة شرق القاهرة، على أن تستمر هذه الخطة لفترة زمنية محدودة ثم يتم
تقييمها بعد ذلك، وقد كان من حظي أن أكون من هذا الفريق، أما الخطة فهي استخدام
الصحافة في تثوير الجماهير بالعزف على مشاكلهم. وذلك من خلال بريد القراء في الصحف
اليومية الكبرى الأهرام والأخبار والجمهورية، وكان من المفترض لكل واحد من هذا
الفريق وعدده مائة ـ أن يرسل عشر رسائل
لكل صحيفة من الصحف الثلاث أسبوعيا بأسماء متنوعة ومختلقة من الأساس، على أن تحتوي
كل رسالة على شكوى وهمية يبدو فيها الظلم والتعسف من إدارات الدولة المختلفة وخاصة
جهاز الشرطة، وخلال ثلاثة أشهر أرسل هذا الفريق أكثر من أربعين ألف رسالة كانت
تتوالى على تلك الصحف، وإزاء هذا الكم الكبير من رسائل الشكوى اضطرت الصحف إلى نشر
حوالي مائتي رسالة منها خلال هذه الأشهر الثلاثة.
وبالرغم من أن هذا العمل بهذه الكيفية يعتبر ناجحا إلى
حد ما في نشر شكاوى وهمية في بريد القراء إلا أن تأثير هذه الرسائل كان محدودا لأن
من يقرأ أبواب بريد القراء هم أقل القليل من الفئة التي يستهدفها الإخوان، فقد كان
المُستهدفين هم البسطاء من الطبقات الدنيا وأصحاب الحرف وصغار الموظفين والعمال،
وهؤلاء يشكلون القوام الأعظم من المصريين، ومعظم هؤلاء لا يقرأون الصحف من الأصل،
إذن ما الحل؟.
ما إن جاء عام 1994 حتى أوعز الشاطر لنائب المرشد مصطفى
مشهور أن يصدر قرارا بتشكيل لجنة أطلقوا عليها لجنة التفكير، أو " Think tan" وهي لجنة خاصة سرية خارج نطاق لجان الإخوان النوعية
وأقسامهم المختلفة، وأسند رئاستها لخيرت الشاطر، وعلى الفور قام الشاطر بالانفراد
بتشكيل هذه اللجنة حيث ضم إليها عددا من شباب الإخوان من المهندسين والأطباء
والمدرسين وغيرهم من الذين يتبعونه ويدينون له بالولاء التنظيمي، وكان الاجتماع
الأول لهذه اللجنة في بيت حسن مالك بالمنطقة الثامنة بمدينة نصر، والذي أصبح فيما
بعد بيتا لبهاء الشاطر الشقيق الأصغر لخيرت، وهو ذات البيت الذي قُبض على الشاطر
فيه بعد ثورة الثلاثين من يونيه.
طرح الشاطر في اللقاء الأول فكرته، هو يريد تفكيرا غير
تقليدي، يسمح للإخوان بالاحتكاك والاقتراب من الطبقات الدنيا في المجتمع من خلال
مشروعات اقتصادية صغيرة، أو قل متناهية في الصغر، وحين خرجت تلك المجموعة من مخبأ
التفكير، أخذ كل واحد منهم يقلب أفكاره، وتوالت الجلسات، كلٌ يعرض ما وصل إليه،
فمنهم من اقترح محلات بقالة صغيرة ينشأها الإخوان في الأحياء الشعبية وفي الريف،
ومن خلالها يحتكون بالطبقات الدنيا والشرائح المستهدفة، ومنهم من اقترح الاتجار في
السوق السوداء في العملات الأجنبية، ومن خلال عملياتهم التجارية يتحدثون مع الناس
ويثيرون غضبهم من النظام، ومنهم من اقترح تدريب عشرة آلاف من الشباب الإخواني
أصحاب المؤهلات المتوسطة على مهنة الحلاقة، ومن خلال الصالونات التي سيمولها
الإخوان يستطيع حلاقو الإخوان الانفراد بأذن "الزبون" والحديث معه
بِحُرِّية، ومنهم من اقترح أن تمول الجماعة مشروعا للتاكسي بحيث يستطيع
السائق الإخواني أن ينفرد بالراكب ويبث فيه أثناء "التوصيلة" ما يشاء من
أفكار، وكراهية للنظام وتعاطفا مع الإخوان.
استحسن الشاطر كل هذه الأفكار ورتب نفسه لتنفيذها على
آجال مختلفة، إلا أنه نقل لفريق التفكير أن أحدا منهم لم يصل بعد إلى الفكرة
الذهبية التي من شأنها أن تنقل الجماعة بشكل حقيقي للبسطاء وأصحاب الحرف وصغار
الموظفين، وكان مما قاله لأصحاب الاقتراحات السابقة: إن الذين سيمرون عليكم من
خلال هذه المشروعات هم أبناء الطبقة المتوسطة أو التي تعلوها، فالفقراء لا يركبون
"التاكسيات" كما أنهم لا يحلقون في الصالونات بل ـ كما قال ـ عند حلاق
تحت أحد الكباري، والذي يشتري من محل البقالة الصغير لا يمكث طويلا عند الشراء
لتتاح الفرصة للبقال أن يثير غضبه ويبث فيه ما يشاء من أفكار، كما أن الذين يشترون
العملة الأجنبية هم أبعد ما يكونون عن الفقراء، كما أن الذي يشتري العملة الأجنبية
من تاجر السوق السوداء تتكون عنده مشاعر سلبية تجاه هذا التاجر، وبالتالي سيفتقد
التاجر القدرة على إثارة غضب الذي يتعامل معه، اللهم إلا أنه سيكون غاضبا منه لأنه
يستغل حاجته.
كان كل واحد من المقترحين قد وضع تصورا لكيفية تنفيذ
فكرته، والتمويل اللازم لها، إلى أن جاءت إحدى الجلسات التي ضمت وافدا جديدا للجنة
التفكير من شباب الإخوان بطنطا اسمه "علاء عبد السلام" وإذا بهذا
العلاء يقترح اقتراحا كاد الشاطر يقفز فرحا له، هو : أن يقوم الإخوان بتمويل مشروع
أطلق عليه "قِدرة الفول"، وكان مما كتبه علاء في مشروعه أن من يقف
لتناول الإفطار على عربات الفول في الصباح الباكر هم صغار الموظفين والحرفيين
والعمال، وأن كل واحد من هؤلاء يقف على العربة لتناول إفطاره في توقيت محدد يلتقي
فيه بآخرين قد لا تربطه بينهم علاقة ما، إلا أن "اللمة" تُحدث حالة من
الأُلفة بينهم، فيتعارفون ويتحدثون، حتى أن بعضهم قد يتحدث عن مشاكله الشخصية،
فالمصري يحب نقل أوجاعه للآخرين، وستحدث آنذاك حالة تسابق جماعية في نقل الأوجاع،
فكل واحد سيغني على ليلاه، ساعتئذ سيستطيع البائع أن يتدخل في الحديث ويضغط على
تلك الأوجاع، وينقل لهم أن غياب تطبيق الإسلام، وغياب العدل والعدالة الاجتماعية،
واستبداد الحاكم، والتفاوت الاجتماعي والمالي الكبير بين فئات الشعب، كل هذا هو
الذي يؤثر في زيادة المشاكل واضطراب أحوال الناس، ومن خلال طرح تلك الأفكار والحديث
بشكل طيب عن أن الإخوان يتعرضون للاضطهاد لأنهم يريدون تطبيق الإسلام، سيتم غرس
مشاعر كراهية في قلوب هؤلاء البسطاء ضد النظام يستطيع الإخوان استغلالها عند نقطة
الصراع المنتظر.
بعدها عرض الشاطر هذه الفكرة على مصطفى مشهور الذي وافق
عليها فورا، وأصدر أوامره بتمويلها والبدء في اختيار الشباب الذي يصلح لهذا العمل،
ثم العمل على تدريبه على تلك "الصنعة" واختيار الأماكن المناسبة القريبة
من المؤسسات الحكومية، والأماكن التي يتجمع فيها الحرفيون والعمال البسطاء، ونواصي
بعض الشوارع القريبة من مواقف الأتوبيسات والمحطات الكبيرة وبعض الميادين، وتم
الاتفاق على أن تكون القاهرة الكبرى هي أرض التجربة الأولى، إلا أنه حدث في
الإخوان أمرٌ عطل تنفيذ الفكرة لبعض الوقت.
ففي غضون عام 1995 تم القبض على خيرت الشاطر ومجموعة
كبيرة من قيادات الإخوان، ثم إحالتهم لمحكمة عسكرية، وقد كانت هذه المحاكمة هي أول
محاكمات الإخوان في عهد مبارك، ومن بعدها كانت قضية عبد المنعم أبو الفتوح ثم قضية
أبو العلا ماضي وإنشاء حزب الوسط، ووفاة المرشد حامد أبو النصر، وتولي مصطفى مشهور
موقع المرشد العام بعد أن ظل لسنين طويلة "مرشد الظل".
وفي عام 1996 قامت مجموعة من لجنة التفكير الإخوانية
" Think tan" بطلب مقابلة مأمون الهضيبي نائب المرشد، وطرحوا عليه
ما سبق وأن توصلوا إليه من أفكار خاصة مشروع "قِدرة الفول" وأعجب
الهضيبي بهذه الفكرة، وأخذ التصورات التنفيذية لهذا المشروع من تلك المجموعة ثم
عهد بالمشروع بأكمله إلى شخص يدعى جودة شعبان وهو أحد القيادات القديمة للتنظيم
السري الخاص، وكان من رجال مصطفى مشهور، وهو رجل يجيد تنفيذ الأوامر مهما كانت،
وبدأ جودة شعبان في إدارة مشروع "قدرة الفول" في غضون عام 1996 بعد أن
اختار ألف شاب لبدء العمل.
استمر تدريب فريق "القِدرة" ثلاثة أشهر على
مهنية تصنيع الفول وصنع السندوتشات، وكان معظمهم من أصحاب المؤهلات المتوسطة، وكان
قد تم الاتفاق على أن يتناوب كل شابين على عربة فول، واحد يبدأ من السادسة صباحا
للتاسعة، والآخر من التاسعة صباحا إلى وقت صلاة الظهر، ثم ينصرف بعد ذلك إلى حال
سبيله، وكان التدريب يتم في عدة مناطق منها المطرية وعين شمس وحلوان وبعض مناطق
جنوب الجيزة، ثم بدأت الجماعة في التنفيذ الفعلي.
كان الأمر في بدايته مقتصرا على القاهرة الكبرى
بضواحيها، وفي مناطق نصف البلد قريبا من بعض المؤسسات الحكومية، وفي العباسية حيث
بعض المصالح الحكومية، وعلى نواصي بعض شوارع منطقة باب الخلق وعابدين، وفي مدينة
نصر، وعلى أطراف القاهرة الجديدة التي كانت مزدحمة بالعمال والحرفيين الذين يعملون
في مجال المعمار، إذ كانت القاهرة الجديدة وقتها في بدايتها العمرانية، ثم في
حلوان والشوارع المحيطة بميدان ربيع الجيزي في قلب محافظة الجيزة، ولأن البداية
كانت تجربة لذلك كان عدد عربات الفول لا يزيد عن مائة عربة، ثم أخذت الأعداد
تتزايد شيئا فشيئا إلى أن جاء عام 2002 والإخوان يتفاخرون فيما بينهم أنهم يمتلكون
نصف عربات الفول، ليس في القاهرة، أو القاهرة والجيزة، ولكن في كل الجمهورية! وإلى
الآن لا يزال جودة شعبان قائما على هذا المشروع رغم أنه أصبح طاعنا في السن، ولكن
أولاده يديرون نيابة عنه، وتتوالى الأجيال الإخوانية على العربات، وأصبح الواحد
منهم قد اعتاد على أن يرتدي جلبابا أو ثوبا بسيطا وطاقية على رأسه وهو ذاهب إلى
"قدرة الفول" وكل عربة فول قام الإخوان بتمويلها استردوا ثمنها من
الأخوة الذين يديرونها من حصيلة ناتج البيع، ثم بعد ذلك تُرك الناتج المالي للشباب
الذين يقفون على تلك العربات شريطة أن يسددوا ما قيمته 8% من إجمالي أرباحهم
شهريا، ومع المبالغ التي يتم تسديدها يقوم الأخ بتقديم تقرير أسبوعي لمسئول منطقته
عن الأحاديث التي أدارها والكراهية التي بثها في نفوس البسطاء، ثم كل يوم يتلقى
أمرا بالموضوعات التي يجب أن يثيرها مع الآكلين على عربته، وبذلك أصبح الفول الذي
هو الطعام الرئيسي للمصريين وسيلة من وسائل العبث في وعيهم ومشاعرهم، وأصبحت عربات
الفول تحاصر دولة بحجم مصر، فانتبهوا أيها السادة.