فى آخر نصوصها الروائية "شوق المُستهام" (1) الصادرة
عام 2015 تقدم "سلوى بكر" رواية تتميز بالسلاسة الفنية وانسيابية الطرح وذكائه
حول فترة زمنية لم يتناولها الكثيرون بالبحث، حيث لم تنسج القصص الإنسانية
والاجتماعية حولها، ولم يشر إلى ما وقع بها من أحداث رغم عنفها وتراجيديتها إلا
نادرا، كما لم ترصد التغيرات التى حدثت بالمجتمع المصرى القديم فى وقت تتابع هذه الرسالات
التى حلت الواحدة منها فوق الأخرى فى نوع من الإزاحة المتعمدة القسرية، والممارسات
العنيفة للقوى التى تصارعت بالمجتمع قبل أن تقضى السلطة السياسية الدينية المنتصرة
على المقومات الثقافية السابقة، وتبقى على ما أرادت لتوطد أركان سلطاتها وهيمنتها
على القطر المصرى آنذاك.
يطرح النص عددا من الأسئلة والقضايا عميقة
الدلالة من خلال سرد وتتبع رحلة الراهب "آمينوس" فى ربوع مصر ومدنها للتنقيب
فى روابيها ومعابدها القديمة التى كانت تكتنز بعلومها ومنتجها المعرفى اللاهوتى والفلسفى
والعلمى، فى محاولة للبحث عن علاج لبعض الأمراض والأوبئة المكتوبة فى آثارها وكنوزها
الطبية والعلمية التى نجت ولم تطلها عمليات التدمير، والسرقات المتوالية التى قام
بها غزاة مصر، حيث توالوا على احتلالها ونهبها منذ الإغريق ثم الفرس والرومان
والعرب، ومن خلال هذه الرحلة التى يخوضها السارد فى القرن التاسع الميلادى الثالث
الهجرى تثير الكاتبة عدة أسئلة وإشكالات قديمة ومتجددة حتى لحظتنا الحاضرة.
ــ 1 ــ
على المستوى الفنى الأول قصدت الروائية أن تشكًل صراع
البطل على نحو مركب فاختارته رجل دين، راهبا بسيطا فى أحد الأديرة وهبه أبوه إلى الدير
منذ سن العاشرة، تقتصر وظيفته على كتابة الرقى للمرضى وبعض العلاجات البسيطة والتضرع
إلى الله، على حين غرة تسوقه وفاة أمه ومرض أخته "تكلا": عماها، وتشوه
وجهها وبشرتها بعد انتشار وباء الجدرى الذى قضى على معظم أهل قريته وأولهم والدته
وحبيبته القديمة "سيرين" وولداها للبحث عن علم الأقدمين، خاصة أنه قد
تعلم بعض لغتهم فى الدير، فاستقر اختياره بعد حيرة على أن يتبع الإشارات التى شعر
بها توجهه: "اذهب إلى حيث كان أولئك الذين فكروا فى الخلق والخليقة وابتداع
الكون" (2). وفى النص يطل الخوف من سعى آمينوس لعدة أسباب حيث يقول له أحد
القسس "نحن فى هذه الأيام لسنا بمأمن من شىء، فالبعض عاد يطالع فى الكتب
القديمة وأناجيل الكفر، وقراطيس أصحاب البدع والهرطقات، وهناك من يقرأ كتب
المسلمين والصابئة فى خفية، ثم هناك كثيرون يتركون دين المسيح ليلتحقوا بملة محمد،
ومنهم قسس ورهبان من كنيستنا العامرة وكنائس أخرى" (3).
كانت غاية آمنيوس من سعيه تلك الوصفات الطبية التى برع
فيها الأقدمون الوثنيون، لم يكن مقصده علومهم وفلسفتهم التى يتوجس منها رجال الدين،
حيث يصفونها بالأمور الدنيوية تارة أو التجديف والهرطقات تارة أخرى، ويخافون من كل
ما توارث عنهم من علوم. يبدأ طريق البحث بهدف بسيط ليتسع طريقه، وتتعدد أسئلته
وتنفتح عوالم معرفية حول أسرار الفلك وعلم الطلسمات والسحر، وعلوم الإسكندرية
وفلسفاتها فتتسع رحلة السؤال وتصبح أكثر تعقيدا عما بدأه رجل الدين، وتصبح تلك
العلوم نافذة لتغيره وتغير نظرته للعالم.
تعمدت الروائية منذ البداية أن تضع القارئ فى جدلية الصراع
الأزلى فى المجتمعات بين الدين بفلسفة تسليمه واتكاله، والتفكير والنظر والتأويل
وتعدد الآراء والنظر إلى الواقع حيث الاعتماد على العلم الذى ينفع الناس فى وجودهم
الحياتى.
فى رحلة آمنيوس تتبدى دهشته من الواقع خارج الدير، رحابة
العالم المفتوح جغرافيا وتاريخيا وفكريا من خلال الأشخاص الذين قابلهم فى طريقه
أثناء رحلة بحثه التى اتسعت فيها أسئلته وتنوعت. تلك الدهشة والحيرة التى لونت
رحلته ودعت الروائية لترك نهاية النص مفتوحة لكنها توحى ببقائه فى معبد دندرة؛
ليتعلم لغة الأقدمين وعلومهم، ليس لمجرد نقل الوصفات الطبية القديمة لكن لفهم نفسه
والعالم من حوله.
ــ 2 ــ
أمة بلا ذاكرة:
ولقد أثار النص
بعض الأسئلة الجوهرية أهمها: ماذا لو لم تختف وتنطمس اللغات المصرية القديمة، ماذا
لو أن الأمة المصرية عضت بالنواجذ على لغتها القديمة وحاربت طمسها والقضاء عليها
واستبدالها بلغات من غزوها من جنسيات أخرى؟ القضية ليست مفاضلة ساذجة بين اللغات،
لكنها قضية القطيعة المعرفية مع الماضى وعلومه وأفكاره وما يحمله فى طياته
الثقافية من هوية، كأننا أمة بلا ذاكرة، حتى إنه بعدما عادت أطياف الذاكرة بعد عصر
النهضة المصرية وفكت شفرة حجر رشيد، وعرفت صفحات من التاريخ المصرى القديم عادت
ضبابية التأثير؛ للفارق الزمنى المتسع، وللحروب المعلنة والخفية التى يمارسها
الكهنوت الدينى فى المسيحية والإسلام بأشكال متعددة؛ خوفا من خلخلة سطوتهما
بمقولات التحريم تارة، ووصفهم بالمساخيط الكفرة، ونسبة الظلم إلى الفراعنة والحط
من منجزهم الفلسفى العلمى، رغم أن هذا الكشف أعاد للمصرى إحساسا بكيانه وهويته
العريقة التى تم التعتيم عليها طويلا وقضى بسبب ذلك على الكثير من آثارها فى امتداد
هويته.
فلو أننا حافظنا على تلك اللغة القبطية القديمة وما
قبلها وتدارسناها كما فعل الفرس والأتراك وغيرهما ممن حافظوا على لغتهم الأم
وطوروها لما انفصلنا عن منجزنا المعرفى القديم، ولما أصبحنا كإنسان بلا ذاكرة،
قصاصات من ورق تتطاير دون أن تتثبت من وجودها، فاللغة هى الوعاء الحاوى لكل ما
ينجزه الإنسان حيث لا تنفصل عن وجوده ومنجزاته الحضارية، فمن المؤكد أن هذه
القطيعة الثقافية على المستوى الرسمى أثرت فى تاريخ تطور الحضارة المصرية جذريا،
وأفقدتها أهمية تراكم المعرفة وطبقاتها، والجدل الإيجابى الذى يحدث ضمن لغة
متوارثة لها مقوماتها الحضارية المتتابعة التى تتجدد دماؤها بداخل شرايينها لا أن تتمزق
شبكة أوردتها وشرايينها من الأساس.
من اليسير أن تتوالى الأسئلة المتعددة حول قضايا التاريخ
والماضى المصرى وما توالى فيه من رسالات، ومتغيرات سياسية واجتماعية وثقافية، لكن
الروائية تلتقط حالة إنسانية فردية، وتشرع فى الحكى عن محيطها الاجتماعى الحيوى حين
تنعكس عليه المتغيرات السياسية الدينية فنيا بلا افتعال قضايا بصور مباشرة، بل
تلتقط انعكاس هذه التغيرات على حياة البشر البسطاء فعلى سبيل المثال: حين تتزوج خالة
آمينوس القبطية من أعرابى مسلم ممن يتاجرون معها وترحل معه فيتسبب هذا فى حزن أمه
الدفين وانكسار روحها(4)، أو عندما تتزوج عمته من ملكانى يعتقد فى التجديف بطبيعة
الرب وهم من طائفة اليعاقبة ويستولى هذا الملكانى على نصيب والد آمنيوس من المشغل
فيموت الرجل مفلوجا(5)، كما تجسد الكاتبة من خلال الأحداث شكل المجتمع المصرى ومعاناته،
واحتياجه لعلاجات ناجعة لبعض الأوبئة التى قضت على قرى بأكملها، فتثير السؤال
المحورى بهذا النص: كيف اندثرت وضاعت اللغات المصرية القديمة التى حملت إرثا
معرفيا وعلميا وثقافيا، فلقد كتبت اللغة المصرية القديمة بأربعة خطوط، تطورت على
التوالى مع مستجدات الحياة الإنسانية هى: الهيروغلوفية، والهيراطيقية،
والديموطيقية، والقبطية التى أخذت الأبجدية اليونانية.
وتمثلت فى هذه اللغات القديمة حقول معرفية متنوعة عرفها
الأوائل الذين فكروا فى الخلق والخليقة، وتبحروا فى العلوم والطب والهندسة والفلك
والفلسفة وغيرها من العلوم، وبرز لاحقا الاحتياج لهذا الموروث المعرفى الطبى والمعرفة
باللغة التى حملته، لكن عوامل طمس الهوية السابقة وإحلال لغة وحضارة محل أخرى، كما
يحدث دائما سبب انقطاعات حضارية مجحفة فى تاريخ البشر، هذا عدا العنف الذى يطال
الناس دوما من الصراعات السياسية التى تأخذ أقنعتها الدينية حتى تصل بالنص إلى بيع
أطفالهم لدفع الجزية، أو الهرب من بلادهم والتشتت فى أى أرض خوفا من الخراج (6).
تبدأ رحلة البطل حين يتساءل: "ألا تظن أن الذين
عاشوا قبلنا كانت لهم معرفة وفنون وحكمة، تغلبوا بها على كل ما صادفهم من صنوف
الوباء وشروره ؟ ألم يتركوا شيئا من معرفتهم هذه وحكمتهم تعيننا على ما نحن فيه الآن
"(7). من هذا السؤال النفعى المباشر تتوالد الأسئلة الأكبر.
ــ 3 ــ
ــ ينفتح السرد فى الرواية بداية من الاعتراض على تعلم
اللسان الوثنى القديم من قبل الأب "سرابيون" لخوفهم من نقل علوم فلاسفة
الوثنيين وأصحاب الزندقة وهرطقاتهم وتجديفهم، حيث اجتهادات العقل وعلوم الفلسفة والعلوم
الدنيوية فى مقابل الدين ونصوصه، وما قد تسببه هذه المعارف فى الانحراف عن الإيمان
فيحذر سرابيون آمنيوس وهو يصرخ قائلا: "تذهب إلى برابى الوثنية؟ أى شيطان
أوحى لك بتلك الفكرة وذلك الجنون الكافر؟ أن كل اللفائف المكتوبة القديمة تحتوى على
كفر وتجديف وهرطقة، كتبها فلاسفة الوثنية، وأصحاب الزندقة . إنها تحرف حتى
الملائكة الأطهار عن طريق الديانة القويمة . أن الشياطين تسكن هذه البرابى وتعيش
فيها، لتفتن الناس عن دينهم وتحرفهم عن إيمانهم" (8). ويتكرر هذا الرأى ذاته من
أحد الرهبان(9).
لم يكن السبب وراء اختفاء علوم الأقدمين واندثار لغتهم أفاعيل
الغزاة وإجراءات طمسهم لكل ما هو قديم فقط، أو نقله إلى بلادهم والاستحواذ عليه، لكن
أيضا تعنت رجال الدين ورغبتهم فى زرع الإيمان والتسليم فى النفوس فقط، والبعد عن
كل اجتهاد عقلى قد يزعزع العقيدة الإيمانية . بدأ الانفصال أيضا منذ سيطرة كهنة
المعابد على اللغات القديمة وأسرارها وما كتب بها من علوم، وعدم خروج هذه العلوم
بلغاتها إلى عامة الشعب وحجبها عن الجموع؛ لذا سرعان ما اختفت هذه اللغات وما
حملته من علوم؛ لموت هؤلاء الكهنة والقيود التى أحاطوا بها علومهم.
ــ وانفتح السرد على عوالم جديدة وأسئلة أكثر جدلا
اجتاحت السارد نتيجة للانتقالات المكانية عبر رحلة آمنيوس فى البرابى أو المعابد
التى كانت متخصصة فى العهود القديمة، حيث لكل معبد تخصص علمى وبحثى واعتقاد دينى أو
فلسفى لذلك بدأت رحلته من مدينة سمنود بموضع الفرما؛ قصدا للبرديات والوصفات
العلاجية بموضع معبد قديم كان به من يشتغل بالحكمة والطبابة وصناعة الكيمياء، ثم
إلى البربة القديمة بمدينة عون، ثم إلى خرائب بربة منف القديمة، ثم بربة دندرة وصحبته
للعالم "ابن وحشية" والنقاشات التى دارت بينهما.
ويعد المكان هما
مؤرقا وشاغلا أساسيا لدى الروائية سلوى بكر حيث تشير دائما لقضية مهمة وهى أننا نقرأ
التاريخ وفى أذهاننا جغرافيا معاصرة، ويصبح تقصى الجغرافيا القديمة وتخيل الأحداث
وحركة القص بها عملا يستلزم بحثا عن مصادر لا تتوافر عادة للروائى فى الثقافة
العربية، ويتطلب هذا من الروائى جهدا مضاعفا فى رحلة بحث عن هذه المصادر التاريخية
لشكل المدن بجغرافيتها القديمة . خاصة لو أن الكاتبة عنيت بمشروع روائى يستنطق
التاريخ والمناطق المسكوت عنها فيه، أو التقطت جانبا إنسانيا وأعادت قراءته وفقا
لسياقه التاريخى بكل ما حوطه من مقومات حياة سياسية واقتصادية واجتماعية ثقافية. لم
تقدم سلوى بكر محور المكان وتاريخه أبدا وهو منزوع من جانبه الإنسانى بل تصنع
دائما جدلية المكان مع العنصر البشرى فى تاريخيته كما تجسد فى نصوصها السابقة منذ البشمورى
1998(10)، وأدماتيوس الألماسى 2006(11)، والصفصاف والآس 2010(12)، وغيرها من
الأعمال. وكثيرا ما انطلقت أصوات تدعى أن الأدب الذى تكتبه المرأة ينحصر فى ذاتها
وقضاياها المجتمعية والثقافية التى تحارب فيها من أجل وجود إنسانى عادل حر يتساوى
فيه الجنسان فى الحقوق والواجبات، وأنها نادرا ما تفارق تلك المناطق لتعالج فنيا
قضايا فكرية خاصة بالشأن العام والمعرفى، لكن تنويعات سلوى بكر فى عدد من رواياتها
تقوض هذه الادعاءات التى تتغيا حصر عطاءات المرأة المبدعة فى مناطق محددة.
وهنا أتساءل هل الروائية بسعيها الفنى التاريخى هذا تحول
الماضى إلى متخيل يمكن أن يحمًل بما تأمله فى المستقبل من خلخلة وفحص لكل
الموروثات التاريخية التى استقرت وقولبت؟ فكثير من مقولات الماضى وخاصة الدينية
كانت أسبابا جوهرية فى تعثر الأمام " الحاضر والمستقبل" لسطوة نظرنا
للخلف دائما وتقديسنا للسلف وقوة تأثيره بكل تابوهاته وجموده وعدم انفتاحه على
التعدد الفكرى والبحث العلمى.
ـ تتسع أسئلة آمينوس ويستنير أفقه مع تنوع الشخوص الذين
قابلهم فى رحلته بمللهم ومعتقداتهم وأديانهم المختلفة، واكتشافه بمرور الوقت
مندهشا أن للإيمان أشكالا لا يختلف جوهرها وبحثها عن التوحيد، لكن يكمن الاختلاف فى
تجليات طقوسها واتخاذها وسائط بينها وبين الرب، يقول آمنيوس نقلا عن "قسطا"
الموحد من جماعة الحرانية : "وعلل الرجل عبادة أهل أون للهياكل بأن قال إنهم
قالوا إنه لما كان صانع العالم مقدسا عن صفات الحدوث، وجب العجز عن إدراك جلاله،
وتعين أن يتقرب إليه عباده بالمقربون لديه وهم الروحانيون؛ ليشفعوا لهم، ويكونوا
وسائط لهم عنده، وأن المعنى بالروحانيين هم الملائكة" (13). أو قول ابن وحشية
بعد أن استطاع معرفة اللغة المصرية القديمة: "حمدا لله على هذه النعمة
الجليلة، إذ كنت قبلها وكأننى أعمى البصر والبصيرة، فمن خلالها افتهمت أشياء كثيرة
كانت قد غمضت على فهمى وإدراكى لكثير من المسائل والأمور" (14)، وبعده يحكى لآمنيوس
أصل ما أخذه الأغريق عن علوم المصريين القدماء ثم ما أخذه العرب وورد فى القرآن عن
المصابيح التى تزين السماء على سبيل المثال(15).
فمن خلال رحلة
بحث رجل الدين الأصولى يتكشف له أن الماضى "ما يطلق عليه الفترة
الوثنية" ليس آثاما كله وهرطقات بل هناك كثير من المناطق المعرفية المضيئة التى
أخذتها الحضارات التى تعاقبت بعد الفرعونية وعليها ابتنت كثير من معارفها وعلومها.
فالتحرر من كل الماضى ليس هو شرط العلو والتقدم فى الحاضر والمستقبل، وتلك هى المنطقة
الفنية الفكرية الدقيقة التى تلمسها الروائية فى اتجاه متوازن لرؤية علاقة الأزمنة
والحضارات بها وعلاقة حضارة بأخرى. حيث يبدو الماضى كخزانة حيوية علينا دوما أن نفلتر
منه ما يدفع بالتطور فى حاضرنا ومستقبلنا، ونرفض كل ما يتسبب فى جمود وتراجع
أوطاننا.
ولقد تعاملت الروائية مع زمن النص على عدد من المستويات،
فزمن القص هو زمن أحداث رحلة آمنيوس للبحث عن برديات الوصفات الطبية فى المعابد
المصرية القديمة وهو سريع الإيقاع نسبيا، فى المستوى الثانى هناك مناقشة وطرح
لمراحل زمنية مختلفة يتناولها النص بداية من العصر الفرعونى القديم وعلومه وتتابع
الأغريق ثم الفرس والروم والعرب وتأثيراتهم على الدولة المصرية وتختار الروائية
لهذا بعض القفزات الزمنية لتؤرخ لسلسلة من جرائم محو الآثار المصرية، فى المستوى
الثالث زمن كتابة النص ذاته والذى تبلورت فيه رؤية الكاتبة لهذه القضايا وزمن
الأحداث بما مر بها من صراعات.
ــ 4 ــ
برعت الروائية فى الإيحاء بطقس النص والفترة التاريخية
التى يحكى عنها انطلاقا من أن التاريخ يحدث ولا يكتب لذا أرادت أن توهم قارئها
بحدوثه الفعلى من خلال لغة مغايرة، ومن طبيعة صراع الراهب بخلفية ثقافته الدينية
المسيحية حين شكلت السرد متضمنا لمجموعة من السمات الفنية واللغوية:
ــ فلقد حرصت فى بنائها للتكوينات اللغوية على مختارات
من المفردات القديمة التى تنقل شكل اللغة وطريقة بنائها ونحتها فى الفترة التاريخية
التى يتناولها النص ولم تكتب فنيا من قبل لشبه الغموض الذى يلازمها: البرابى بدلا
من الأديرة، الديورة بدلا من الأديرة، تآليفى بدلا من مؤلفاتى، التسفار بدلا من
السفر، الفالج بدلا من الشلل، افتهمت بدلا من فهمت، ومفردات مثل الارتباع،
السخائل، الزويداك وغيرها . وهى تنحت وتختار هذه اللغة فنيا فى ظنى وفقا لقراءتها
لكتب التراجم والسير وكتب العقيدة لتلك الفترة ومما تخيلته للغتها.
ــ اختيار الأسماء مثل: تكلا، ودميانة، وآمنيوس، مانتيوس،
سيرين، سيرابيون، أبانوب، بسطورس، قسطا.. وغيرهم، ورغم أنه ليس لأى وحدة فى الكلام
فى نظام معين معنى غير مستقل بذاته كما يذكر بول ريكور فى كتابه "التأويلية
وفائض المعنى" إلا أن تباديل المفردات وانتقاءاتها صنع هذا العودة الزمنية،
وهذا الطقس الدينى والصراع بين العقائد التى تتابعت، ولغتها الخاصة ومفرداتها
المنتقاة بعناية من قبل الكاتبة.
ــ بذلت الكاتبة جهدا متبحرا ومستقصيا فى قراءة أصل
الكلمات ومقارنتها باللغات الأخرى وتحولاتها(16)، كما أنها استوعبت معجم اللغة
القبطية ومفردات الثقافة المسيحية وأدبياتها المتنوعة مثل بعض نصوص الإنجيل التى ضفرتها
بالنص، ووعيها الدقيق بالجانب العرفانى وعوالم الإشارات والعلامات فى المسيحية
والجانب التصوفى بها، وتجسيد ذلك سرديا مثل الصوت الذى نادى الراهب اذهب إلى تكلا
من أجل تكلا، أو شخصية "بمانتيوس" العابد الذى استجاب آمنيوس لإشاراته.
كما تضفر الروائية نصها ببعض طقوس الشعائر الدينية فى الكنائس، وأنواعها، واختلاف
العقائد الكنسية اليعقوبية والملكانية وما تسببه الصراعات فيما بينهم وأثرها على
الحياة الاجتماعية، وفق ما قاله رجل الكهنوت فى دير دندرة تعليقا عندما عرف قدوم آمنيوس
من دير مريوط: "آه، أولستم أنتم الذين هدمتم المعابد فى الماضى، وطردتم
الكهان؟ ألستم أنتم الذين حطمتم تماثيل الآلهة القديمة، وقتلتم العلماء فى الإسكندرية؟
انظروا ما الذى يفعله الإسماعيليون اليوم فى بيعتكم وديوراتكم. كما تدين
تدان"(17). فتلك التفاصيل الصغيرة والكثيرة وتشكيلها على نحو سيسيوثقافى هو
ما يصنع هذه الانتقالة التاريخية ليعبر النص عن مرحلته الزمنية المسكوت عنها.
ــ القراءة عن الوصفات الطبية القديمة(18)، والاطلاع على
العديد من الكتب القديمة المتخصصة: التراجم، والعقائد، السير، المخطوطات، وتشير
الروائية إلى أن فكرة الرواية استندت على كشف زويجا الدنماركى للبردية الطبية ضمن
الآثار الفرعونية القديمة.
ــ تثير الكاتبة سؤالا جوهريا بالنص فى جوهر العقيدة عند
رجل الدين، موقفه من الحياة الدنيوية، وتتخذ من مقولة عيسى عليه السلام سببا فى طرحه
على الواقع فى هذه اللحظة المعاصرة وفى الرواية يقول آمنيوس:"لماذا نسعى
لخلاص أنفسنا فقط بالصوم والصلاة والتقوى والعبادة؟ أليس يسوع من قال: أنتم ملح
الأرض .. فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكى يروا أعمالكم الحسنة.. "(19).